التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

قوله تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ( 23 ) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 24 ) }

في سبب نزول هذه الآية روى الإمام أحمد عن أنس ( رضي الله عنه ) أن عمه أنس بن النضر ( رضي الله عنه ) لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فشقّ عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله عز وجل ما أصنع ، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع ، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فاستقبل سعد بن معاذ ( رضي الله عنه ) فقال أنس ( رضي الله عنه ) : يا أبا عمرو أين ؟ واهًا لريح الجنة إني أجده دون أحُد ، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه . قال : فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت أخته عمتي الرُّبَيِّع ابنة النضر ، فما عرفت أخي إلا ببنانه ، فنزلت الآية{[3717]} .

وفي رواية أخرى عن أنس قال : غاب عمي أنس بن النضر – وبه سميت أنسا – عن قتال بدر ، فشقَّ لما قدم وقال : غبت عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم . والله لئن أشهدني الله سبحانه قتالا ليَريَنّ اللهُ ما أصنع ، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال : اللهم إني أبرأ مما جاء به هؤلاء المشركون ، وأعتذرُ إليك فيما صنع هؤلاء – يعني المسلمين – ثم مشى بسيفه فلقيه بن معاذ فقال : أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد . فقاتلهم حتى قتل . قال أنس : فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح ورمية بالسهم ، وقد مثلوا به . وما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه .

فنزل قوله : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } {[3718]} { ما } ، مصدرية ، وهي في موضع نصب بقوله : { صَدَقُوا } وتقديره : صدقوا الله في العهد{[3719]} .

والمعنى : أن من المؤمنين المخلصين رجالا صَدَقوا العهد مع الله ، وأوفوا ما عاهدوا الله عليه من الثبات على الحق والقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه انتصارا لدين الله ودفعا للفتنة والعدوان أن يصبيا المسلمين { فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أي مات أو قتل في سبيل الله . وأصل النحب الوفاء بالنذر{[3720]} . فقد ذكر أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد وحمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير ، وغيرهم رضي الله عنهم . فمن هؤلاء من أوفى بنذره فمات شهيدا في أحد كحمزة ومصعب وأنس بن النضر { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } أي ينتظر قضاء نحبه وهو حضور الأجل . يعني عثمان وطلحة والزبير وأمثالهم من المؤمنين المخلصين الأبرار .

قوله : { وما بدلوا تبديلا } أي ما غيَّروا عهدهم الذي عاهدوا الله عليه من الثبات على الحق ، والمضي على دينه القويم ، وعدم الزيغ عن صراط الله ومنهجه المستقيم . ذلك هو شأن المؤمنين المخلصين الذين احْتَلَفَتْ{[3721]} قلوبهم بالحب لله ولرسوله وللإسلام والمسلمين والذين يخشون أشد الخشية أن يحيق بالإسلام عدوان من معتدين فجار ، أو ينزل بالمسلمين فتنة من الفتن التي تجتالهم عن دينهم بفعل الأشقياء الأشرار من شياطين البشر الذين يتمالأون على الإسلام والمسلمين في كل الآناء والأنحاء . أولئك هم المؤمنون المخلصون الأبرار الثابتون على الحق ، الماضون على صراط الله ، الذين لم يترددوا في دينهم ولم يستبدلوا به غيره ، ولم يغيروا من اهتماماتهم أو سلوكهم أو مساعيهم في سبيل الله ، ولم يبدلوا من قناعاتهم وتصوراتهم الراسخة النيِّرة . بل هم ثابتون مستمرون في طريق الله حتى يلقوا ربهم مرضيين ، غير مفتونين ولا مُبدّلين ولا مستيئسين . جعلنا الله منهم .


[3717]:تفسير ابن كثير ج 3 ص 475
[3718]:أسباب النزول للنيسابوري ص 238
[3719]:البيان لابن الأنباري ج 2 ص 267
[3720]:المصباح المنير ج 2 ص 236.
[3721]:احتفلت: امتلأت. انظر المصباح المنير ج 1 ص 154