الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

ثم قال تعالى : { من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } أي : أوفوا بالصبر على البأساء والضراء إذ قد عاهدوا الله أن يصبروا إذا امتحنوا .

ثم قال : { فمنهم من قضى نحبه } أي : فرغ من العمل الذي قدره الله وأوجبه له على نفسه ، فاستشهد بعض يوم بدر وبعض يوم أحد وبعض في غير ذلك من المواطن .

{ ومنهم من ينتظر } قضاءه والفراغ منه على الوفاء لله بعهده .

وأصل النحب في كلام العرب النذر ، ثم يستعمل في الموت والخطر العظيم ، وقيل : النحب : العهد{[55405]} .

قال الحسن : { فمنهم من قضى نحبه } موته على الصدق{[55406]} .

وقال قتادة : على الصدق والوفاء{[55407]} .

قال ابن عباس : نحبه هو الموت على ما عاهد الله ، ومنهم من ينتظر الموت على ما عاهد الله عليه{[55408]} .

ويروى أن هذه الآية نزلت في قوم لم يشهدوا بدرا ، فعاهدوا الله إن لقوا قتالا للمشركين مع رسول الله أن يبلوا من أنفسهم ، فشهدوا ذلك مع رسول الله ، فمنهم من وفى فقضى نحبه ، ومنهم من بدل وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } الآية{[55409]} ومنهم من وفى ولم يقض نحبه فهو منتظر للموت{[55410]} .

قال أنس : تغيب أنس بن النضر{[55411]} عن قتال بدر فقال : تغيبت عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لئن رأيت قتالا ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد وهزم الناس لقي سعد بن معاذ فقال : والله إني لأجد ريح الجنة فتقدم فقاتل حتى قتل ، فنزلت هذه الآية : { من المومنين } وقال أنس{[55412]} : فوجدناه بين القتلى به بضعا وثمانين جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم ، فما عرفناه حتى عرفته أخته{[55413]} .

وقيل : معنى { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } الإسلام .

وقوله : { وما بدلوا تبديلا } أي : ما غيروا العهد ولا الدين كما غيره المعوقون{[55414]} القائلون لإخوانهم هلم إلينا .

قال قتادة : معناه ما شكوا ولا ترددوا في دينهم ولا استبدلوا به غيره{[55415]} .


[55405]:انظر: مادة "نحب" في اللسان 1/750 والقاموس المحيط 1/130 والتاج 1/479
[55406]:انظر: جامع البيان 21/146، وتفسير ابن كثير 3/477
[55407]:انظر: المصدرين السابقين والدر المنثور 6/589
[55408]:انظر: جامع البيان 21/146، والدر المنثور 6/588
[55409]:الأحزاب: آية 15 وفيما يلي نص الآية كاملا: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لايولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا}.
[55410]:انظر: جامع البيان 21/146، وأسباب النزول 237ـ238
[55411]:هو أنس بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري عم أنس بن مالك الأنصاري، صحابي جليل، استشهد يوم أحد. انظر: الاستيعاب 1/108
[55412]:في الأصل: "وقال: قال أنس" وهي زيادة من الناسخ لا وجود لها في مظان الحديث.
[55413]:انظر: سنن الترمذي: كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب، 3253، وجامع البيان 21/147، وتفسير النسائي 2/167، وأسباب النزول 177، والاستيعاب 1/108، والجامع للقرطبي 14/158، وتفسير ابن كثير 3/476 ولباب النقول 177
[55414]:المعوقون هم المثبطون وقد تقدم شرح ذلك بتفصيل
[55415]:انظر: جامع البيان 21/148، والدر المنثور 6/589