الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ مَن جَآءَ بِٱلۡهُدَىٰ وَمَنۡ هُوَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (85)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إن الذي فرض عليك القرآن} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الغار ليلا، ثم هاجر من وجهه ذلك إلى المدينة، فسار في غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، فنزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها... فقال جبريل: إن الله عز وجل يقول: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} "يعني: إلى مكة ظاهرا عليهم، فنزلت هذه الآية بالجحفة ليست بمكية، ولا مدنية.

{قل ربي أعلم من جاء بالهدى} وذلك أن كفار مكة كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنك في ضلال، فأنزل الله تبارك وتعالى في قولهم: {قل ربي أعلم من جاء بالهدى} فأنا الذي جئت بالهدى من عند الله عز وجل، {و} هو أعلم {من هو في ضلال مبين} يقول: أنحن أم أنتم.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

روى مالك عن الزهري: {لرادك إلى معاد} قال: إلى يوم القيامة..

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: إن الذي أنزل عليك يا محمد القرآن... عن مجاهد، في قوله "إنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآنَ "قال: الذي أعطاك القرآن...

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "لَرَادّكَ إلى مَعادٍ"؛

فقال بعضهم: معناه: لمصيرك إلى الجنة... عن الحسن والزهري، قالا: معاده يوم القيامة...

وقال آخرون: معنى ذلك: لرادّك إلى الموت...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لرَادّك إلى الموضع الذي خرجت منه، وهو مكة... والصواب من القول في ذلك عندي: قول من قال: لرادّك إلى عادتك من الموت، أو إلى عادتك حيث وُلدت، وذلك أن المعاد في هذا الموضع: المَفْعَل من العادة، ليس من العَوْد، إلاّ أن يوجّه مُوَجّه تأويل قوله: لَرَادّكَ لمصيرك، فيتوجه حينئذٍ قوله إلى مَعادٍ إلى معنى العود، ويكون تأويله: إن الذي فرض عليك القرآن لمُصَيّرك إلى أن تعود إلى مكة مفتوحة لك.

فإن قال قائل: فهذه الوجوه التي وصفت في ذلك قد فهمناها، فما وجه تأويل من تأوّله بمعنى: لرادّك إلى الجنة؟ قيل: ينبغي أن يكون وجه تأويله ذلك كذلك على هذا الوجه الآخر، وهو لمصيرك إلى أن تعود إلى الجنة.

فإن قال قائل: أوَ كان أُخرج من الجنة، فيقالَ له: نحن نعيدك إليها؟ قيل: لذلك وجهان:

أحدهما: أنه إن كان أبوه آدم صلّى الله عليهما أخرج منها، فكأن ولده بإخراج الله إياه منها، قد أخرجوا منها، فمن دخلها فكأنما يُرد إليها بعد الخروج.

والثاني أن يُقال: إنه كان صلى الله عليه وسلم دخلها ليلة أُسرِي به، كما رُوي عنه أنه قال: «دَخَلْتُ الجَنّةَ، فَرأيْتُ فِيها قَصْرا، فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا؟ فَقالُوا لعُمَرَ بنِ الخطّابِ»، ونحو ذلك من الأخبار التي رُويت عنه بذلك، ثم رُدّ إلى الأرض، فيقال له: إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك لمصيرك إلى الموضع الذي خرجت منه من الجنة، إلى أن تعود إليه، فذلك إن شاء الله قول من قال ذلك.

وقوله: "قُلْ رَبّي أعْلَمُ مَنْ جاءَ بالهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبين" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ربي أعلم مَن جاء بالهُدى الذي من سلكه نجا، ومن هو في جور عن قصد السبيل منا ومنكم. وقوله: "مُبِينٌ" يعني أنه يُبِين للمفكر الفهم إذا تأمّله وتدبّره، أنه ضلال وجور عن الهدى.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فرض عليك القرآن} قال بعضهم: {فرض} أي نزل عليك. وقال بعضهم: {فرض عليك} العمل بالقرآن. وقال بعضهم: {فرض} تبليغ ما أنزل عليك القرآن والرسالة إلى الناس...

{لرادك إلى معاد} قال بعضهم: المعاد [مكة... وجائز أن تسمى مكة معادا لما يعود الناس إليها مرة [بعد مرة] كما تسمى مثابة لما يثوب الناس إليها مرة بعد مرة... وجائز أن يكون على غير هذا، وهو يخرج على وجهين:

أحدهما: كأنه حزن على الفراق منهم إشفاقا على هلاكهم لإخراجهم الرسول من بين أظهرهم لأن الأمم السالفة إذا أخرج من بينهم الرسل نزل بهم العذاب، فخاف لما أخرجوه من بين أظهرهم، وأبوا إجابته أن يهلكوا، ويعذبوا، كقوله: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] وقوله: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] فبشر بهذا أن ترد إليها، وستعود إليهم، فيتبعونك، ويؤمنون بك، وهم لا يهلكون إهلاك استئصال وتعذيب كسائر الأمم.

والثاني: يذكر على الامتنان عليه؛ يقول: إن الذي أنزل عليك القرآن، وألقاه عليك بعد ما لم تكن ترجو إلقاءه عليك وإنزاله. ولكن برحمته ومنه ألقاه إليك، وأنزل عليك حين قال: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك} [القصص: 86]. فعلى ذلك يردك إلى مكة بعد ما لم تكن ترجو ردك وعودك إليها. وإن كان المعاد هو البعث، فهو يخرج أيضا على وجهين: أحدهما: على البشارة؛ كأنه يقول: إن الذي فرض عليك القرآن يردك ويبعثك، بمن كذبك وبمن صدقك، فينتقم من مكذبيك جزاء التكذيب، ويجزي من يصدقك جزاء التصديق. والثاني: يذكره، ويخاطبه، وإنما يريد قومه، أي ستبعثون، وستعودون إليها، فيكون كالآيات التي يخاطب بها رسوله، والمراد بها قومه، فهو يخرج على الوعيد. ألا ترى أنه قال: {قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين}؟ أي {ربي أعلم من جاء بالهدى} فيجزيه جزاء الهدى {ومن هو في ضلال مبين} فيجزيه [جزاء الضلالة]. فيخرج ذكر هذا عند ادعاء أولئك الكفرة أنهم على الحق والهدى وأن آباءهم كانوا على الحق والهدى، وأنتم على ضلال، فيقول: {ربي علم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين} نحن أو أنتم. فهو على التحاكم إلى الله أن يحكم بينهم، فيجزي كلا بما جاء به، والله أعلم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان} أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه، يعني: أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف. و {لَرَادُّكَ} بعد الموت {إلى مَعَادٍ} أي معاد ليس لغيرك من البشر وتنكير المعاد لذلك: وقيل: المراد به مكة: ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح: ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأن، ومرجعاً له اعتداد؛ لغلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله وذل الشرك وحزبه. والسورة مكية، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها: أنه يهاجر به منها، ويعيده إليها ظاهراً ظافراً...

فإن قلت: كيف اتصل قوله تعالى: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ} بما قبله؟ قلت: لما وعد رسوله الردّ إلى معاد، قال: قل للمشركين: {رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى} يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده {وَمَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ} يعنيهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم.

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

{لرادك إلى معاد} أي معاد وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه، أو مكة التي اعتدت بها أنه من العادة رده إليها يوم الفتح، كأنه لما حكم بأن {العاقبة للمتقين} وأكد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي: أنزله، وفرض فيه الأحكام، وبين فيه الحلال والحرام، وأمرك بتبليغه للعالمين، والدعوة [لأحكامه] جميع المكلفين، لا يليق بحكمته أن تكون الحياة هي الحياة الدنيا فقط، من غير أن يثاب العباد ويعاقبوا، بل لا بد أن يردك إلى معاد، يجازَى فيه المحسنون بإحسانهم، والمسيئون بمعصيتهم. وقد بينت لهم الهدى، وأوضحت لهم المنهج، فإن تبعوك، فذلك حظهم وسعادتهم، وإن أبوا إلا عصيانك والقدح بما جئت به من الهدى، وتفضيل ما معهم من الباطل على الحق، فلم يبق للمجادلة محل، ولم يبق إلا المجازاة على الأعمال من العالم بالغيب والشهادة، [والمحق] والمبطل. ولهذا قال: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وقد علم أن رسوله هو المهتدي الهادي، وأن أعداءه هم الضالون المضلون.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد).. فما هو بتاركك للمشركين، وقد فرض عليك القرآن وكلفك الدعوة. ما هو بتاركك للمشركين يخرجونك من بلدك الحبيب إليك، ويستبدون بك وبدعوتك، ويفتنون المؤمنين من حولك. [إنما] فرض عليك القرآن لينصرك به في الموعد الذي قدره، وفي الوقت الذي فرضه؛ وإنك اليوم لمخرج منه مطارد، ولكنك غدا منصور إليه عائد. وهكذا شاءت حكمة الله أن ينزل على عبده هذا الوعد الأكيد في ذلك الظرف المكروب، ليمضي [صلى الله عليه وسلم] في طريقه آمنا واثقا، مطمئنا إلى وعد الله الذي يعلم صدقه، ولا يستريب لحظة فيه.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ابتداء كلام للتنويه بشأن محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده ووعده بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وأن إنكار أهل الضلال رسالته لا يضيره لأن الله أعلم بأنه على هدى وأنهم على ضلال بعد أن قدم لذلك من أحوال رسالة موسى عليه السلام ما فيه عبرة بالمقارنة بين حالي الرسولين وما لقياه من المعرضين. وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام به. وجيء بالمسند إليه اسم موصول دون اسمه تعالى العَلَم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر. وأنه خبر الكرامة والتأييد أي أن الذي أعطاك القرآن ما كان إلا مقدِّراً نصرك وكرامتك؛ لأن إعطاء القرآن شيء لا نظير له فهو دليل على كمال عناية الله بالمعطى... والمعاد يجوز أن يكون مستعملاً في معنى آخِرِ أحوال الشيء وقراره الذي لا انتقال منه تشبيهاً بالمكان العائد إليه بعد أن صدر منه أو كناية عن [الآخرة] فيكون مراداً به الحياة الآخرة... ويجوز أن يراد بالمعاد معناه المشهود القريب من الحقيقة. وهو ما يعود إليه المرء إن غاب عنه، فيراد به هنا بلدهُ الذي كان به وهو مكة... ثم تكون جملة {قل ربي أعلم من جاء بالهُدى} بالنسبة إلى الوجه الأول بمنزلة التفريع على جملة {لرادّك إلى معاد}، أي رادّك إلى يوم المعاد فمُظهرٌ المهتدي والضالين، فيكون علم الله بالمهتدي والضالّ مكنى به عن اتضاح الأمر بلا ريب لأن علم الله تعالى لا يعتريه تلبيس وتكون هذه الكناية تعريضاً بالمشركين أنهم الضالون. وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المهتدي. ولهذه النكتة عبّر عن جانب المهتدي بفعل {من جاء} للإشارة إلى أن المهتدي هو الذي جاء بهدي لم يكن معروفاً من قبل كما يقتضيه: جاء بكذا. وعبر عن جانب الضالين بالجملة الاسمية المقتضية ثبات الضلال المشعر بأن الضلال هو أمرهم القديم الراسخ فيهم مع ما أفاده حرف الظرفية من انغماسهم في الضلال وإحاطته بهم. ويكون المعنى حينئذ على حد قوله تعالى {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] لظهور أن المبلغ لهذا الكلام لا يفرض في حقه أن يكون هو الشق الضال فيتعين أن الضال من خالفه. وبالنسبة إلى الوجه الثاني تكون بمنزلة الموادعة والمتاركة وقطع المجادلة. فالمعنى: عدِّ عن إثبات هداك وضلالهم وكِلْهم إلى يوم ردك إلى معادك يوم يتبين أن الله نصرك وخذلهم.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{قُل رَّبِّ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} فهذا هو القول الحاسم أمام كل الكلمات الجدلية التي يثيرها هؤلاء المشركون لإضاعة الوقت وتمييع القضية، فلا تدخل معهم في التفاصيل، بل تقدّم في دعوتك، واترك الأمر لله الذي يعلم من جاء بالهدى وهو رسوله، ومن هو في ضلال مبين وهم المشركون. وسينكشف الأمر غداً عندما ترجع إلى مكة منصوراً لتبيّن الحق لهم من موقع قوّة، كما عاد موسى إلى بلده من موقع الرسالة القويّ الذي انتصر به على فرعون وأظهر به أمر الله، فإن الله سيرعاك في كل مسيرتك، لأنها مسيرة الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.