الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{اتل ما أوحي إليك من الكتاب} يعني: اقرأ على أهل الكتاب ما أنزل إليك من القرآن، ثم قال تعالى: {وأقم} يعني: وأتم {الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء} يعني عن المعاصي {والمنكر} يعني المنكر ما لا يعرف، يقول: إن الإنسان ما دام يصلي لله عز وجل، فقد انتهى عن الفحشاء والمنكر لا يعمل بها ما دام يصلي حتى ينصرف، ثم قال عز وجل: {ولذكر الله أكبر} يعني: إذا صليت لله تعالى فذكرته فذكرك الله بخير، وذكر الله إياك أفضل من ذكرك إياه في الصلاة، {والله يعلم ما تصنعون}.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

السيوطي: أخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة لم تأمره بالمعروف وتنهه عن المنكر لم تزده صلاته من الله إلا بعدا)..

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "اتْلُ "يعني: اقرأ "ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ" يعني: ما أنزل إليك من هذا القرآن "وأقِمِ الصّلاة" يعني: وأدّ الصلاة التي فرضها الله عليك بحدودها، "إنّ الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَر".

اختلف أهل التأويل في معنى الصلاة التي ذكرت في هذا الموضع؛

فقال بعضهم: عنى بها القرآن الذي يقرأ في موضع الصلاة، أو في الصلاة... وقال آخرون: بل عنى بها الصلاة... عن ابن مسعود، قال: من لم تأمره صلاته بالمعروف، وتنهه عن المنكر، لم يزدد بها من الله إلاّ بعدا...

والصواب من القول في ذلك أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر...

فإن قال قائل: وكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر إن لم يكن معنيا بها ما يتلى فيها؟ قيل: تنهى من كان فيها، فتحول بينه وبين إتيان الفواحش، لأن شغله بها يقطعه عن الشغل بالمنكر، ولذلك قال ابن مسعود: من لم يطع صلاته لم يزدد من الله إلاّ بعدا. وذلك أن طاعته لها إقامته إياها بحدودها، وفي طاعته لها مزدجر عن الفحشاء والمنكر...

والفحشاء: هو الزنا. والمنكر: معاصي الله. ومن أتى فاحشة أو عَصَى الله في صلاته بما يفسد صلاته، فلا شكّ أنه لا صلاة له.

وقوله: "وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم... وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولذكركم الله أفضل من كلّ شيء... وقال آخرون: هو محتمل للوجهين جميعا، يعنون القول الأوّل الذي ذكرناه والثاني...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة... وقال آخرون: بل معنى ذلك: وللصلاة التي أتيت أنت بها، وذكرك الله فيها أكبر مما نهتك الصلاة من الفحشاء والمنكر...

وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل قول من قال: ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه.

وقوله: "وَاللّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ" يقول: والله يعلم ما تصنعون أيها الناس في صلاتكم من إقامة حدودها، وترك ذلك وغيره من أموركم، وهو مجازيكم على ذلك، يقول: فاتقوا أن تضيعوا شيئا من حدودها، والله أعلم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

جائز أن يكون قوله: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب} وأقم به الصلاة أي بالكتاب الذي أوحي إليك. ويحتمل: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب} عليهم، وأقم بهم الصلاة. فالخطاب، وإن كان لرسول الله فهو لكل أحد على ما ذكرنا في سائر المخاطبات، والله أعلم...

{إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: على الامتنان. والثاني: على الإلزام.

فأما وجه الامتنان فهو أن جعل لكم الصلاة لتمنعكم عن الفحشاء والمنكر ما لو لم يجعلها لكم لا شيء يمنعكم عن الفحشاء والمنكر في من منّ عليهم بجعل الصلاة لهم لما يمنعهم عما ذكر. وأما وجه الإلزام فإنه يخرّج على وجهين:

أحدهما: أن الصلاة لو كان مفهوما منها النهي بالنطق لكانت تنهى عن الفحشاء والمنكر على ما أضاف التغرير والتزيين إلى الحياة الدنيا، أي لو كان هذا الذي كان من الدنيا، كان من له التغرير، كان ذلك تغريرا. فعلى ذلك الصلاة لو كان منها حقيقة الأمر والنهي لكانت تنهى عن الفحشاء والمنكر.

والثاني: أضيف النهي إلى الصلاة لما بها يعرف ذلك؛ فقد تضاف الأشياء إلى الأسباب، وإن لم يكن منها حقيقة ما أضيف إليها، نحو ما يضاف الأمر والنهي إلى الكتاب والسنة؛ ونحوه: يقال: أمرنا الكتاب بكذا، أو السنة بكذا، ونهانا عن كذا، وإن لم يكن منهما أمر حقيقة، ولا نهي، لما بهما يعرف الأمر والنهي، وهما سببا ذلك. فعلى ذلك جائز إضافة النهي إلى الصلاة أن يكون على السبيل...

{ولذكر الله أكبر} اختلف فيه: قال بعضهم: ذكر الله أكبر في العبادات من أنفس تلك العبادات؛ ووجه هذا، والله أعلم، أن العبادات إنما تكون بجوارح، تغلب، وتقهر، وتستعمل، فلا تعرف تلك أنها لله إلا بتأويل. أما ذكر الله إنما يكون باللسان والقلب، وهما لا يغلبان، ولا يقهران، فهو يعرف أن ذلك لله حقيقة، فهو أكبر... وقال بعضهم: {ولذكر الله أكبر} في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة...

وقال بعضهم: {ولذكر الله} إياكم أكبر من ذكركم إياه لأن ذكره إياكم رحمة ومغفرة، وذلك مما لا يعدله ولا يوازيه شيء. وأما العبد فإنه يذكر ربه بأدنى شيء... وقال بعضهم: {ولذكر الله أكبر} أي ما وفق الله العبد من ذكره إياه وطاعته له أكبر من نفس ذلك الذكر ونفس تلك العبادة... والضحاك يقول: العبد يذكر الله عندما أحل له، وحرم عليه، فيأخذ بما أحل، ويجتنب ما حرم عليه...

وقوله تعالى: {والله يعلم ما تصنعون} وعيد ليكونوا أبدا على حذر ويقظة...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

" إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر "يعني فعلها فيه لطف للمكلف في فعل الواجب والامتناع عن القبيح، فهي بمنزلة الناهي بالقول إذا قال: لا تفعل الفحشاء ولا المنكر، وذلك لأن فيها: التكبير، والتسبيح، والقراءة، وصنوف العبادة، وكل ذلك يدعو إلى شكله ويصرف عن ضده، كالأمر والنهي بالقول، وكل دليل مؤد إلى المعرفة بالحق، فهو داع اليه وصارف عن ضده من الباطل.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

الصلاة تكون لطفاً في ترك المعاصي، فكأنها ناهية عنها. فإن قلت: كم من مصل يرتكب ولا تنهاه صلاته؟ قلت الصلاة التي هي الصلاة عند الله المستحق بها الثواب: أن يدخل فيها مقدّماً للتوبة النصوح، متقياً؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح... وعلى كل حال إنّ المراعي للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها. وأيضاً فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر، واللفظ لا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها، كما تقول: إنّ زيداً ينهى عن المنكر، فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكير، وإنما تريد أنّ هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم..

{وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} يريد: وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله كما قال: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 9] وإنما قال: ولذكر الله: ليستقلّ بالتعليل، كأنه قال: وللصلاة أكبر، لأنها ذكر الله. أو ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر، فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات وتذكر الله تعلى وتوهم الوقوف بين يدي العظمة، وأن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقوب، صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأعماله وانتهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حاله، فهذا معنى هذا الإخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون، وقد روي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه فكلم في ذلك فقال: إني أقف بين يدي الله تعالى وحق لي هذا مع ملوك الدنيا فكيف مع ملك الملوك. قال الفقيه الإمام القاضي: فهذه صلاة تنهى ولا بد الفحشاء والمنكر، ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تركته الصلاة يتمادى على بعده وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش قولهم «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعداً» وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك غير صحيح السند، سمعت أبي رضي الله عنه يقوله فإذا قررناه ونظرنا معناه فغير جائز أن نقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله حتى كأنها معصية، وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله تعالى بل تتركه في حاله ومعاصيه من الفحشاء والمنكر تبعده، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان بسبيله، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله تعالى، وقيل لابن مسعود إن فلاناً كثير الصلاة، فقال: إنها لا تنفع إلا من أطاعها... {ولذكر الله أكبر} على الإطلاق أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر. فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل في غير الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر مراقب، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى كما في الحديث «ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه»، والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهي، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله تعالى، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى، وذكر الله تعالى العبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه، قال الله عز وجل {فاذكروني أذكركم} [البقرة: 152].

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم إن الله تعالى لما سلى المؤمنين بهذه الآية سلى رسوله بقوله تعالى: {أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} يعني إن كنت تأسف على كفرهم فاتل ما أوحي إليك لتعلم أن نوحا ولوطا وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ولهذا قال: {اتل} وما قال عليهم، لأن التلاوة ما كانت بعد اليأس منهم إلا لتسلية قلب محمد عليه الصلاة والسلام. وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: أن الرسول إذا كان معه كتاب وقرأ كتابه مرة ولم يسمع لم يبق له فائدة في قراءته لنفسه فنقول الكتاب المنزل مع النبي المرسل ليس كذلك، فإن الكتب المسيرة مع الرسل على قسمين قسم يكون فيه سلام وكلام، مع واحد يحصل بقراءته مرة تمام المرام، وقسم يكون فيه قانون كلي تحتاج إليه الرعية في جميع الأوقات كما إذا كتب الملك كتابا فيه إنا رفعنا عنكم البدعة الفلانية ووضعنا فيكم السنة الفلانية وبعثنا إليكم هذا الكتاب فيه جميع ذلك فليكن ذلك كمنوال ينسج عليه وال بعد وال، فمثل هذا الكتاب لا يقرأ ويترك بل يعلق من مكان عال، وكثيرا ما تكتب نسخته على لوح ويثبت فوق المحاريب، ويكون نصب الأعين، فكذلك كتاب الله مع رسوله محمد قانون كلي فيه شفاء للعالمين فوجب تلاوته مرة بعد مرة ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم ويثبت في الصدور على مرور الدهور الوجه الثاني: هو أن الكتب على ثلاثة أقسام كتاب لا تكره قراءته إلا للغير كالقصص فإن من قرأ حكاية مرة لا يقرأها مرة أخرى إلا لغيره، ثم إذا سمعه ذلك الغير لا يقرأها إلا لآخر لم يسمعه ولو قرأه عليه لسئموه، وكتاب لا يكرر عليه إلا للنفس كالنحو والفقه وغيرهما وكتاب يتلى مرة بعد مرة للنفس وللغير كالمواعظ الحسنة فإنها تكرر للغير وكلما سمعها يلتذ بها ويرق لها قلبه ويستعيدها وكلما تدخل السمع يخرج الوسواس مع الدمع وتكرر أيضا لنفس المتكلم فإن كثيرا ما يلتذ المتكلم بكلمة طيبة وكلما يعيدها يكون أطيب وألذ وأثبت في القلب وأنفذ حتى يكاد يبكي من رقته دما ولو أورثه البكاء عمى، إذا علم هذا فالقرآن من القبيل الثالث مع أن فيه القصص والفقه والنحو فكان في تلاوته في كل زمان فائدة.

المسألة الثانية: لم خصص بالأمر هذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة؟ فنقول لوجهين:

أحدهما: أن الله لما أراد تسلية قلب محمد عليه السلام قال له الرسول واسطة بين طرفين من الله إلى الخلق، فإذا لم يتصل به الطرف الواحد ولم يقبلوه فالطرف الآخر متصل، ألا ترى أن الرسول إذا لم تقبل رسالته توجه نحو مرسله، فإذا تلوت كتابك ولم يقبلوك فوجه وجهك إلي وأقم الصلاة لوجهي.

الوجه الثاني: هو أن العبادات المختصة بالعبد ثلاثة: وهي الاعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية خارجية وهي العمل الصالح، لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن من اعتقد شيئا لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمرا والنبي عليه السلام كان ذلك حاصلا له عن عيان أكمل مما يحصل عن بيان، فلم يؤمر به لعدم إمكان تكراره، لكن الذكر ممكن التكرار، والعبادة البدنية كذلك فأمره بهما فقال: أتل الكتاب وأقم الصلاة.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

" اتل "أمر من التلاوة والدؤوب عليها وقد مضى في "طه "الوعيد فيمن أعرض عنها وفي مقدمة الكتاب الأمر بالحض عليها والكتاب يراد به القرآن." وأقم الصلاة "الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته وإقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وتشهدها وجميع شروطها... قوله تعالى:"إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر "يريد إن الصلوات الخمس هي التي تكفر ما بينها من الذنوب، كما قال عليه السلام: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال فيه حديث حسن صحيح.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أفاد هذا الخبر كله القرآن الذي لا حق أحقّ منه، ودل على أن فهم أمثاله يحتاج إلى مزيد علم، وأن مفتاح العلم به سبحانه رسوخ الإيمان، خاطب رأس أهل الإيمان لأنه أعظم الفاهمين له ليقتدي به الأتباع فقال: {اتل ما} أي تابع قراءته؛ ودل على شرفه لاختصاصه به بقوله: {أوحي إليك} إذ الوحي الإلقاء سراً {من الكتاب} أي الجامع لكل خير، فإنه المفيد للإيمان، مع أنه أحق الحق الذي خلقت السماوات والأرض لأجله، والإكثار في تلاوته يزيد بصيرة في أمره، ويفتح كنوز الدقائق من علمه، وهو أكرم من أن ينيل قارئه فائده وأجلّ من أن يعطي قياد فوائده ويرفع الحجاب عن جواهره وفرائده في أول مرة، بل كلما ردده القارئ بالتدبر حباه بكنز من أسراره، ومهما زاد زاده من لوامع أنواره، إلى أن يقطع بأن عجائبه لا تعد، وغرائبه لا تحد. ولما أرشد إلى مفتاح العلم، دل قانون العمل الذي لا يصح إلا بالقرآن، وهو ما يجمع الهم، فيحضر القلب، فينشرح الصدر، فينبعث الفكر في رياض علومه، فقال: {وأقم الصلاة} أي التي هي أحق العبادات، ثم علل ذلك بقوله دالاً بالتأكيد على فخامة أمرها، وأنه مما يخفى على غالب الناس: {إن الصلاة تنهى} أي توجد النهي وتجدده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها {عن الفحشاء} أي الخصال ألتي بلغ قبحها {والمنكر} أي الذي فيه نوع قبح وإن دق، وأقل ما فيها من النهي النهي عن تركها الذي هو كفر، ومن انتهى عن ذلك انشرح صدره، واتسع فكره، فعلم من أسرار القرآن ما لا يعلمه غيره... {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة: 282]...

ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله، أتبع ذلك الحث على روح الصلاة والمقصد الأعظم منها، وهو المراقبة لمن يصلي له حتى كأنه يراه ليكون بذلك في أعظم الذكر بقوله: {ولذكر الله} أي ولأن ذكر المستحق لكل صفة كمال {أكبر} أي من كل شيء، فمن استحضر ذلك بقلبه هان عنده كل شيء سواه... أو يكون المراد أن من واظب على الصلاة ذكر الله، ومن ذكره أوشك أن يرق قلبه، ومن رق قلبه استنار لبه، فأوشك أن ينهاه هذا الذكر المثمر لهذه الثمرة عن المعصية، فكان ذكر الذاكر له سبحانه أكبر نهياً له عن المنكر من نهي الصلاة له، وكان ذكره له سبحانه كبيراً، كما قال تعالى {فاذكروني أذكركم} وإذا كان هذا شأن ذكر العبد لمولاه، فما ظنك بذكر مولاه له كلما أقبل عليه بصلاة فإنه جدير بأن يرفعه إلى حد لا يوصف، ويلبسه من أنواره ملابس لا تحصر...

ولما كان ذلك يحتاج إلى علاج لمعوج الطباع ومنحرف المزاج، وتمرن على شاق الكلف، ورياضة لجماح النفوس، وكان صلى الله عليه وسلم قد نزه عن ذلك كله بما جبل عليه من أصل الفطرة، ثم بما غسل به قلبه من ماء الحكمة، وغير ذلك من جليل النعمة، عدل إلى خطاب الأتباع يحثهم على المجاهدة فقال: {والله} أي المحيط علماً وقدرة {يعلم} أي في كل وقت {ما تصنعون*} من الخير والشر، معبراً بلفظ الصنعة الدال على ملازمة العمل تنبيهاً على أن إقامة ما ذكر تحتاج إلى تمرن عليه وتدرب، حتى يصير طبعاً صحيحاً، ومقصوداً صريحاً.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

ومعنى نهيها إياهم عن ذلك أنها لتضمنها صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والقراءة والوقوف بين يدي الله عز وجل والركوع والسجود له سبحانه الدال على غاية الخضوع والتعظيم كأنها تقول لمن يأتي بها لا تفعل الفحشاء والمنكر ولا تعص ربا هو أهل لما أتيت به، وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه عز وجل وقد أتيت مما يدل على عظمته تعالى وكبريائه سبحانه من الأقوال والأفعال بما تكون به أن عصيت وفعلت الفحشاء أو المنكر كالمتناقض في أفعاله، وبما ذكر ينحل الإشكال المشهور وهو أنا نرى كثيراً من المرتكبين للفحشاء والمنكر يصلون ولا ينتهون عن ذلك، فإن نهيها إياهم عن الفحشاء والمنكر بهذا المعنى لا يستلزم انتهاءهم. ألا ترى أن الله تعالى ينهى عن ذلك أيضاً كما قال سبحانه: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآء ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي} [النحل: 90] والناس لا ينتهون وليس نهىي الصلاة بأعظم من نهيه سبحانه وتعالى، فإذا لم يكن هناك استلزام فكيف يكون هنا. وما أرى هذا الإشكال إلا مبنياً على توهم استلزام النهي للانتهاء... النهي الذي ذكرناه يتفاوت بحسب تفاوت أداء الصلاة فهو في صلاة أديت على أتم ما يكون من الخشوع والتدبر لما يتلى فيها مع الاتيان بفروضها وواجباتها وسننها وآدابها على أحسن أحوالها أتم، وقد يضعف النهي فيها حتى كأنها لا تنهى كما في الصلاة التي تؤدى مع الغفلة التامة والإخلال بما يليق فيها وهي الصلاة المردودة التي تلف كما يلف الثوب الخلق ويرمي بها وجه صاحبها فتقول له: ضيعك الله تعالى كما ضيعتني، وكأن مراد القائل: إن المراد بالصلاة التي تنهى عما ذكر هي الصلاة المقبولة هو هذا. وقد يجعل الانتهاء علامة القبول.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله، وهو هذا الكتاب العظيم، ومعنى تلاوته اتباعه، بامتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه، والاهتداء بهداه، وتصديق أخباره، وتدبر معانيه، وتلاوة ألفاظه، فصار تلاوة لفظه جزء المعنى وبعضه، وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب، علم أن إقامة الدين كله، داخلة في تلاوة الكتاب. فيكون قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} من باب عطف الخاص على العام، لفضل الصلاة وشرفها، وآثارها الجميلة، وهي {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وفي نهاية الشوط يربط الكتاب الذي أنزل على محمد [صلى الله عليه وسلم] ويربط الصلاة وذكر الله، بالحق الذي في السماوات والأرض، وبسلسلة الدعوة إلى الله من لدن نوح عليه السلام... اتل ما أوحي إليك من الكتاب فهو وسيلتك للدعوة، والآية الربانية المصاحبة لها، والحق المرتبط بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض. وأقم الصلاة إن الصلاة -حين تقام- تنهى عن الفحشاء والمنكر.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

بعد أن ضرب الله للناس المثل بالأمم السالفة جاء بالحجة المبيّنة فساد معتقد المشركين، ونوه بصحة عقائد المؤمنين بمنتهى البيان الذي ليس وراءه مطلب أقبل على رسوله بالخطاب الذي يزيد تثبيته على نشر الدعوة وملازمة الشرائع وإعلان كلمة الله بذلك، وما فيه زيادة صلاح المؤمنين الذين انتفعوا بدلائل الوحدانية. وما الرسول عليه الصلاة والسلام إلا قدوة للمؤمنين وسيّدهم فأمره أمر لهم كما دل عليه التذييل بقوله {والله يعلم ما تصنعون} بصيغة جمع المخاطبين كقوله {فاستقم كما أُمِرتَ ومن تاب معك} [هود: 112] قرآن إذ ما فرط فيه من شيء من الإرشاد.

حذف متعلق فعل {اتْلُ} ليعم التلاوة على المسلمين وعلى المشركين. وهذا كقوله تعالى {إنما أُمرتُ أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرّمها} إلى قوله {وأن أتلو القرءان فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين} [النمل: 91، 92]. وأمره بإقامة الصلاة لأن الصلاة عمل عظيم، وهذا الأمر يشمل الأمة فقد تكرر الأمر بإقامة الصلاة في آيات كثيرة. وعلل الأمر بإقامة الصلاة بالإشارة إلى ما فيها من الصلاح النفساني فقال {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، فموقع {إن} هنا موقع فاء التعليل ولا شك أن هذا التعليل موجّه إلى الأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الفحشاء والمنكر فاقتصر على تعليل الأمر بإقامة الصلاة دون تعليل الأمر بتلاوة القرآن لما في هذا الصلاح الذي جعله الله في الصلاة من سِرّ إلهي لا يهتدي إليه الناس إلا بإرشاد منه تعالى؛ فأخبر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والمقصود أنها تنهى المصلي. وإذ قد كانت حقيقة النهي غير قائمة بالصلاة تعيّن أن فعل {تنهى} مستعمل في معنى مجازي بعلاقة أو مشابهة. والمقصود: أن الصلاة تيسر للمصلي ترك الفحشاء والمنكر. وليس المعنى أن الصلاة صارفة المصلي عن أن يرتكب الفحشاء والمنكر فإن المشاهد يخالفه إذ كم من مصلّ يقيم صلاته ويقترف بعض الفحشاء والمنكر. كما أنه ليس يصح أن يكون المراد أنها تصرف المصلي عن الفحشاء والمنكر ما دام متلبساً بأداء الصلاة لقلة جدوى هذا المعنى. فإن أكثر الأعمال يصرف المشتغل به عن الاشتغال بغيره. وإذ كانت الآية مسوقة للتنويه بالصلاة وبيان مزيتها في الدين تعين أن يكون المراد أن الصلاة تُحذر من الفحشاء والمنكر تحذيراً هو من خصائصها... والوجه عندي في معنى الآية: أن يُحمل فعل {تنهى} على المجاز الأقرب إلى الحقيقة وهو تشبيه ما تشتمل عليه الصلاة بالنهي، وتشبيه الصلاة في اشتمالها عليه بالناهي، ووجه الشبه أن الصلاة تشتمل على مذكِّرات بالله من أقوال وأفعال من شأنها أن تكون للمصلي كالواعظ المذكر بالله تعالى إذ ينهى سامعه عن ارتكاب ما لا يرضي الله... ثم الناس في الانتهاء متفاوتون، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل ليتجدد التذكير وتتعاقب المواعظ، وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها. ووراء ذلك خاصية إلهية جعلها الله في الصلاة يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر... والمقصود هنا من الفاحشة: تجاوز الحد المأذون فيه شرعاً من القول والفعل، وبالمنكر: ما ينكره الشرع ولا يرضى بوقوعه.