الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (65)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْوَاهِهِمْ": اليوم نطبع على أفواه المشركين، وذلك يوم القيامة، "وَتُكَلّمُنا أيْدِيهِمْ "بما عملوا في الدنيا من معاصي الله، "وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ"... "بَمَا كانُوا يَكْسِبُونَ "في الدنيا من الآثام.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وتُكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} كأنهم، والله أعلم، لما أنكروا كفرهم وشركهم وعملهم الذي عملوه في الدنيا كقوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] وأمثاله، عند ذلك يأذن الله سائر جوارحهم وٍأركانهم بالنطق والشهادة عليهم بما عملوا كقوله: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} الآية [النور: 24] وقوله {شهد عليهم سمعهم} الآية [فصلت: 20]، ثم تنطق ألسنتهم حتى يعاتبوا الجوارح في شهادتها عليهم بقوله: {لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} [فصلت: 21].

وفيه أن النطق والكلام الذي يكون من اللسان لا يكون لأنه لسان أو لنفس اللسان، ولكن للُطف يجعل الله ذلك في اللسان، فينطق، فحينما جعل ذلك اللطف والمعنى وفي أية جارحة ما جعل، نطقت وتكلمت، ولو كان النطق والكلام لنفس اللسان لكان يجب أن ينطق لسان كل ذي لسان لما له اللسان؛ فإذا لم ينطق دل أنه للطف جعل ما فيه به ينطق، ويتكلم. فحيثما جعل المعنى واللطف نطق، وتكلم. وكذلك السمع والبصر وكل جارحة منه من اليد والرجل وغيرهما، جعل لطفا ومعنى، به يُسمع السمع، وبه يبصر البصر، وبه تأخذ، وتقبض اليد، وبه تمشي، وتذهب الرجل. فأينما جعل ذلك اللطف وذلك المعنى كان منه ذلك ما كان من السمع والبصر وغيره وكذلك الأطعمة والمياه، ليس الغذاء في عينها، ولكن في لطف، جعل الله فيها لطفا ومعنى، يصير غذاء لهم.

ألا ترى أن عين الطعام لا يبقى في المعدة، فيُرمى به، وينتفع بما فيه من الغذاء؟ والله أعلم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

اليومَ سَخَّرَ الله أعضاءَ بَدَنِ الإنسان بعضها لبعض، وغداً ينقض هذه العادة، فتخرج بعضُ الأعضاء على بعض، وتجري بينها الخصومة والنزاع...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

أنكر بعضهم كلام الجوارح وقال: معنى الكلام وجود دلالة تدل على أنها قد عملت ما عملت، والصحيح أنها تتكلم حقيقة، وغير مستبعد كلام الجوارح في قدرة الله تعالى.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الترتيب وجوه:

الأول: أنهم حين يسمعون قوله تعالى: {بما كنتم تكفرون} [يس: 64] يريدون (أن) ينكروا كفرهم كما قال تعالى عنهم ما أشركنا، وقالوا آمنا به، فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق الله غير لسانهم من الجوارح فيعترفون بذنوبهم.

الثاني: لما قال الله تعالى لهم: {ألم أعهد إليكم} لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان، وفيه لطائف لفظية ومعنوية.

أما اللفظية فالأولى منها: هي أن الله تعالى أسند فعل الختم إلى نفسه وقال: {نختم} وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل، لأنه لو قال تعالى: نختم على أفواههم وتنطق أيديهم يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا وقهرا والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال تعالى: {وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} أي باختيارها بعد ما يقدرها الله تعالى على الكلام؛ ليكون أدل على صدور الذنب منهم.

الثانية: منها هي أن الله تعالى قال: {تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} جعل الشهادة للأرجل والكلام للأيدي؛ لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى: {وما عملته أيديهم} أي ما عملوه وقال: {ولا تلقوا بأيديكم} أي ولا تلقوا بأنفسكم فإذا الأيدي كالعاملة، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود لبعد إضافة الأفعال إليها.

وأما المعنوية فالأولى: منها أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين، وشهادة العدو على العدو غير مقبولة، وإن كان من الشهود العدول وغير الصديقين من الكفار والفساق، غير مقبول الشهادة فجعل الله الشاهد عليهم منهم، لا يقال الأيدي والأرجل أيضا صدرت الذنوب منها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها؛ لأنا نقول في رد شهادتها قبول شهادتها؛ لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم فقد صدر الذنب منها في ذلك اليوم، والمذنب في ذلك اليوم مع ظهور الأمور، لا بد من أن يكون مذنبا في الدنيا، وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا.

المسألة الثانية: الختم لازم الكفار في الدنيا على قلوبهم وفي الآخرة على أفواههم، ففي الوقت الذي كان الختم على قلوبهم كان قولهم بأفواههم، كما قال تعالى: {ذلك قولهم بأفواههم}، فلما ختم على أفواههم أيضا لزم أن يكون قولهم بأعضائهم، لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء، فإذا لم يبق القلب والفم تعين الجوارح والأركان.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: (هل تدرون مم أضحك؟ -قلنا: الله ورسوله أعلم قال:- من مخاطبة العبد ربه، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال: يقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال: فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لك وسحقا فعنكن كنت أناضل) خرجه أيضا من حديث أبي هريرة. وفيه: (ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ومتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه).

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان كأنه قيل: هل يحكم فيهم بعلمه، أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في العمل بالبينة، بين أنه على أظهر من قواعد الدنيا، فقال مهولاً لليوم على النسق الماضي في مظهر العظمة؛ لأنه أليق بالتهويل: {اليوم نختم} أي بما لنا من عجيب القدرة المنشعبة من العظمة، ولفت القول إلى الغيبة إيذاناً بالإعراض لتناهي الغضب فقال: {على أفواههم} أي لاجترائهم على الكذب في الأخرى كما كان ديدنهم في الدنيا، وكان الروغان والكذب والفساد إنما يكون باللسان المعرب عن القلب، وأما بقية الجوارح فمهما خرق العادة بإقدارها على الكلام، لم تنطق إلا بالحق فلذلك قال: {وتكلمنا أيديهم} أي بما عملوا إقراراً هو أعظم شهادة.

{وتشهد أرجلهم} أي عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار.

{بما كانوا} أي في الدنيا بجبلاتهم {يكسبون}.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هكذا يخذل بعضهم بعضاً، وتشهد عليهم جوارحهم، وتتفكك شخصيتهم مزقاً وآحاداً يكذب بعضها بعضاً، وتعود كل جارحة إلى ربها مفردة، ويثوب كل عضو إلى بارئه مستسلماً.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وقوله: {اليَوْمَ} ظرف متعلق ب {نَخْتِمُ}.

والقول في لفظ {اليوم} كالقول في نظائره الثلاثة المتقدمة، وهو تنويه بذكره بحصول هذا الحال العجيب فيه، وهو انتقال النطق من موضعه المعتاد إلى الأيدي والأرجل.

وضمائر الغيبة في {أفواههم أيديهم أرجلهم يكسبون عائدة على الذين خوطبوا بقوله: {هذه جهنَّمُ التي كُنتم تُوعَدُون} [يس: 63] على طريقة الالتفات. وأصل النظم: اليوم نختم على أفواهكم وتكلمنا أيديكم وتشهد أرجلكم بما كنتم تكسبون. ومواجهتهم بهذا الإِعلام تأييس لهم بأنهم لا ينفعهم إنكار ما أُطلعوا عليه من صحائف أعمالهم كما قال تعالى: {إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14].

وقد طوي في هذه الآية ما ورد تفصيله في آي آخر فقد قال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 2223] وقال: {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين} [يونس: 2829].

وإنما طُوِي ذكر الداعي إلى خطابهم بهذا الكلام لأنه لم يتعلق به غرض هنا فاقتصر على المقصود.

وقد يخيل تعارض بين هذه الآية وبين قوله: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24]. ولا تعارض لأن آية يس في أحوال المشركين وآية سورة النور في أحوال المنافقين. والمراد بتكلم الأيدي تكلمها بالشهادة، والمراد بشهادة الأرجل نطقها بالشهادة، ففي كلتا الجملتين احتباك. والتقدير: وتكلمنا أيديهم فتشهد وتكلمنا أرجلهم فتشهد.

ويتعلق {بِمَا كانُوا يَكْسِبون} بكل من فعلي {تكلمنا وتشهد} على وجه التنازع. وما يكسبونه: هو الشرك وفروعه. وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما ألحقوا به من الأذى.