الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (11)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم بين قسمة المواريث بين الورثة، فقال عز وجل: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين}، يعني بنات أم كحة، {فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت} ابنة {واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك} الميت {إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث}، وبقية المال للأب، {فإن كان له إخوة فلأمه السدس}، وما بقي فللأب {من بعد وصية يوصي بها أو دين}، يعني إلى الثلث أو دين عليه، فإنه يبدأ بالدين من ميراث الميت بعد الكفن، ثم الوصية بعد ذلك، ثم الميراث. {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا}، في الآخرة، فيكون معه في درجته، وذلك أن الرجل يكون عمله دون عمل ولده، أو يكون عمله دون عمل والده، فيرفعه الله عز وجل في درجته لتقر أعينهم، ثم قال في التقديم لهذه القسمة: {فريضة} ثابتة {من الله إن الله كان عليما حكيما} في الميراث، {حكيما} حكم قسمته.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

قوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس} [النساء: 11]. يحيى: قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا، الذي لا اختلاف فيه، والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا: أن ميراث الأب من ابنه أو ابنته، أنه إن ترك المتوفى ولدا، أو ولد ابن ذكرا، فإنه يفرض للأب السدس فريضة. فإن لم يترك المتوفى ولدا، ولا ولد ابن ذكرا فإنه يبدأ بمن شرك الأب من أهل الفرائض، فيعطون فرائضهم. فإن فضل من المال السدس، فما فوقه، كان للأب. وإن لم يفضل عنهم السدس فما فوقه، فرض للأب السدس، فريضة. وميراث الأم من ولدها، إذ توفي ابنها أو ابنتها، فترك المتوفى ولدا أو ولد ابن، ذكرا كان أو أنثى، أو ترك من الإخوة اثنين فصاعدا، ذكورا كانوا أو إناثا، من أب وأم، أو من أب أو من أم، فالسدس لها. وإن لم يترك المتوفى، ولدا ولا ولد ابن، ولا اثنين من الإخوة فصاعدا، فإن للأم الثلث كاملا، إلا في فريضتين فقط، وإحدى الفريضتين، أن يتوفى رجل ويترك امرأته وأبويه، فلامرأته الربع، ولأمه الثلث مما بقي وهو الربع من رأس المال. والأخرى: أن تتوفى امرأة، وتترك زوجها وأبويها، فيكون لزوجها النصف، ولأمها الثلث مما بقي. وهو السدس من رأس المال.

تفسير الشافعي 204 هـ :

... فنقل الله تبارك وتعالى مِلك من مات من الأحياء إلى من بقي من ورثة الميت، فجعلهم يقومون مقامه فيما ملكهم من ملكه، وقال الله عز وجل: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} قال: فكان ظاهر الآية المعقول فيها: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} إن كان عليهم ديْن. قال الشافعي: وبهذا نقول، ولا أعلم من أهل العلم فيه مخالفا. وقد تحتمل الآية معنى غير هذا أظهر منه وأولى بأن العامَّة لا تختلف فيه فيما علمت. وإجماعهم لا يكون عن جهالة بحكم الله إن شاء الله. قال الشافعي: وفي قول الله عز وجل: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} معان سأذكرها إن شاء الله تعالى. فلما لم يكن بين أهل العلم خلاف علمته في: أن ذا الديْن أحق بمال الرجل في حياته منه حتى يستوفي ديْنه، وكان أهل الميراث إنما يملكون عن الميت ما كان الميت أملك به، كان بينا ـ والله أعلم ـ في حكم الله عز وجل، ثم ما لم أعلم أهل العلم اختلفوا فيه أن الديْن مبدَّا على الوصايا والميراث، فكان حكم الديْن كما وصفت منفردا مقدما. وفي قول الله عز وجل: {أَوْ دَيْنٍ} ثم إجماع المسلمين: أن لا وصية ولا ميراث إلا بعد الدين، دليل على أن كل ديْن في صحة كان، أو في مرض، بإقرار أو بينة، أو أي وجه ما كان سواء، لأن الله عز وجل لم يخص ديْنا دون ديْن.

قال الشافعي: وقد روي في تبدئة الديْن قبل الوصية حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يثبت أهل الحديث مثله، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالديْن قبل الوصية.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{يُوصِيكُمُ اللّهُ}: بعهد الله إليكم، {فِي أوْلاَدِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ}: يعهد إليكم ربكم إذا مات الميت منكم، وخلف أولادا ذكورا وإناثا، فلولده الذكور والإناث ميراثه أجمع بينهم، للذكر منهم مثل حظّ الأنثيين، إذا لم يكن له وارث غيرهم، سواء فيه صغار ولده وكبارهم وإناثهم في أن جميع ذلك بينهم للذكر مثل حظّ الأنثيين... وقد ذكر أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم تبيينا من الله الواجب من الحكم في ميراث من مات وخلف ورثة على ما بيّن، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده ممن كان لا يلاقي العدوّ ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده، ولا للنساء منهم، وكانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية، فأخبر الله جلّ ثناؤه أن ما خلفه الميت بين من سمى وفرض له ميراثا في هذه الآية وفي آخر هذه السورة، فقال في صغار ولد الميت وكبارهم وإناثهم: لهم ميراث أبيهم إذا لم يكن له وارث غيرهم، للذكر مثل حظّ الأنثيين.

وقال آخرون: بل نزل ذلك من أجل أن المال كان للولد قبل نزوله، وللوالدين الوصية، فنسخ الله تبارك وتعالى ذلك بهذه الآية.

{فإنْ كُنّ نِساءً فَوْق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلثا ما تَركَ}: فإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين. ويعني بقول "نِساء": بنات الميت فوق اثنتين، يقول: أكثر في العدد من اثنتين. {فَلهُنّ ثُلُثا ما تَرَكَ}: فلبناته الثلثان مما ترك بعده من ميراثه دون سائر ورثته إذا لم يكن الميت خلف ولدا ذكرا معهن.

{وإنْ كانَتْ واحِدةً فَلَها النّصْفُ ولأبَويْهِ لِكُلّ واحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ مِمّا تَرك إنْ كان لَهُ وَلَدٌ}: وإن كانت المتروكة ابنة واحدة، فلها النصف، يقول: فلتلك الواحدة نصف ما ترك الميت من ميراثه إذا لم يكن معها غيرها من ولد الميت ذكر ولا أنثى.

فإن قال قائل: فهذا فرض الواحدة من النساء، وما فوق الاثنتين، فأين فريضة الاثنتين؟ قيل: فريضتهم بالسنة المنقولة نقل الوراثة التي لا يجوز فيها الشكّ. {وَلأَبَوَيْهِ}: ولأبوي الميت، لكل واحد منهما السدس من تركته وما خلف من ماله سواء فيه الوالدة والوالد، لا يزداد واحد منهما على السدس إن كان له ولد ذكرا كان الولد أو أنثى، واحدا كان أو جماعة.

فإن قال قائل: فإذ كان كذلك التأويل، فقد يجب أن لا يزاد الوالد مع الابنة الواحدة على السدس من ميراثه عن ولده الميت، وذلك إن قلته قول خلاف لما عليه الأمة مجمعون من تصييرهم باقي تركة الميت مع الابنة الواحدة بعد أخذها نصيبها منها لوالده أجمع؟ قيل: ليس الأمر في ذلك كالذي ظننت، وإنما لكلّ واحد من أبوي الميت السدس من تركته مع ولده ذكرا كان الولد أو أنثى، واحدا كان أو جماعة، فريضة من الله له مسماة، فإن زيد على ذلك من بقية النصف مع الابنة الواحدة إذا لم يكن غيره وغير ابنة للميت واحدة فإنما زيدها ثانيا لقرب عصبة الميت إليه، إذ كان حكم كل ما أبقته سهام الفرائض، فلأولي عصبة الميت وأقربهم إليه بحكم ذلك لها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الأب أقرب عصبة ابنة وأولاها به إذا لم يكن لابنه الميت ابن.

{فإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أبَوَاهُ فلأُمّهِ الثّلُثُ}: فإن لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى، وورثه أبواه دون غيرهما من ولد وارث¹ {فلاّمّهِ الثّلُثُ}: فلأمه من تركته وما خلف بعده ثلث جميع ذلك.

فإن قال قائل: فمن الذي له الثلثان الاَخران؟ قيل له الأب. فإن قال قائل: بماذا؟ قلت: بأنه أقرب أهل الميت إليه، ولذلك ترك ذكر تسمية من له الثلثان الباقيان، إذ كان قد بين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباده أن كل ميت فأقرب عصبته به أولى بميراثه بعد إعطاء ذوي السهام المفروضة سهامهم من ميراثه. وهذه العلة هي العلة التي من أجلها سمى للأم ما سمى لها، إذا لم يكن الميت خلف وارثا غير أبويه، لأن الأم ليست بعصبة في حال للميت، فبين الله جلّ ثناؤه لعباده ما فرض لها من ميراث ولدها الميت، وترك ذكر من له الثلثان الباقيان منه معها، إذ كان قد عرّفهم في جملة بيانه لهم من له بقايا تركة الأموال بعد أخذ أهل السهام سهامهم وفرائضهم، وكان بيانه ذلك معينا لهم على تكرير حكمه مع كل من قسم له حقا من ميراث ميت وسمّى له منه سهما.

{فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ فلأُمّهِ السّدُسُ}؛

إن قال قائل: وما المعنى الذي من أجله ذكر حكم الأبوين مع الإخوة، وترك ذكر حكمهما مع الأخ الواحد؟ قلت: اختلاف حكمهما مع الإخوة الجماعة والأخ الواحد، فكان في إبانة الله جلّ ثناؤه لعباده حكمهما فيما يرثان من ولدهما الميت مع إخوته غنى، وكفاية عن أن حكمهما فيما ورثا منه غير متغير عما كان لهما، ولا أخ للميت، ولا وارث غيرهما، إذ كان معلوما عندهم أن كل مستحقّ حقا بقضاء الله ذلك له، لا ينتقل حقه الذي قضى به له ربه جلّ ثناؤه، عما قضى به له إلى غيره، إلا بنقل الله ذلك عنه إلى من نقله إليه من خلقه، فكان في فرضه تعالى ذكره للأم ما فرض، إذا لم يكن لولدها الميت وارث غيرها وغير والده، لوائح الدلالة الواضحة للخلق أن ذلك المفروض هو ثلث مال ولدها الميت حقّ لها واجب، حتى يغير ذلك الفرض من فرض لها، فلما غير تعالى ذكره ما فرض لها من ذلك مع الإخوة الجماعة وترك تغييره مع الأخ الواحد، علم بذلك أن فرضها غير متغير عما فرض لها إلا في الحال التي غيره فيها من لزم العباد طاعته دون غيرها من الأحوال.

ثم اختلف أهل التأويل في عدد الإخوة الذين عناهم الله تعالى ذكره بقوله: {فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةُ}؛

فقال جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كل زمان: عنى الله جلّ ثناؤه بقوله: {فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ فلأُمّهِ السّدُسُ} اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما، أنثيين كانتا أو كنّ إناثا، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكورا، أو كان أحدهما ذكرا والاَخر أنثى. واعتلّ كثير ممن قال ذلك بأن ذلك قالته الأمة عن بيان الله جلّ ثناؤه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فنقلته أمة نبيه نقلاً مستفيضا قطع العذر مجيئه، ودفع الشكّ فيه عن قلوب الخلق وروده.

ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: بل عنى الله جلّ ثناؤه بقوله: {فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ}: جماعة أقلها ثلاثة. وكان ينكر أن يكون الله جل ثناؤه حجب الأم عن ثلثها مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة، فكان يقول في أبوين وأخوين: للأم الثلث وما بقي فللأب، كما قال أهل العلم في أبوين وأخ واحد.

والصواب من القول في ذلك عندي أن المعني بقوله: {فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ} اثنان من إخوة الميت فصاعدا، على ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، لنقل الأمة وراثة صحة ما قالوه من ذلك عن الحجة وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك...

فإن قال قائل: ولم نقصت الأم عن ثلثها بمصير إخوة الميت معها اثنين فصاعدا؟ قيل: اختلفت العلماء في ذلك؛

فقال بعضهم: نقصت الأم عن ذلك دون الأب، لأن على الأب مؤنهم دون أمهم.

وقال آخرون: بل نقصت الأم السدس وقصر بها على سدس واحد معونة لإخوة الميت بالسدس الذي حجبوا أمهم عنه.

وأولى ذلك بالصواب أن يقال في ذلك: إن الله تعالى ذكره فرض للأم مع الإخوة السدس لما هو أعلم به من مصلحة خلقه. وقد يجوز أن يكون ذلك كان لما ألزم الاَباء لأولادهم، وقد يجوز أن يكون ذلك لغير ذلك، وليس ذلك مما كلفنا علمه، وإنما أمرنا بالعمل بما علمنا.

يعني جلّ ثناؤه بقوله: {مِنْ بعْدِ وَصِيّة يُوصِي بِهَا أوْ دَيْنٍ}: أن الذي قسم الله تبارك وتعالى لولد الميت الذكور منهم والإناث ولأبويه من تركته من بعد وفاته، إنما يقسمه لهم على ما قسمه لهم في هذه الآية من بعد قضاء دين الميت الذي مات وهو عليه من تركته، ومن بعد تنفيذ وصيته في بابها، بعد قضاء دينه كله. فلم يجعل تعالى ذكره لأحد من ورثة الميت ولا لأحد ممن أوصى له بشيء إلا من بعد قضاء دينه من جميع تركته، وإن أحاط بجميع ذلك. ثم جعل أهل الوصايا بعد قضاء دينه شركاء ورثته فيما بقي لما أوصى لهم به ما لم يجاوز ذلك ثلثه، فإن جاوز ذلك ثلثه جعل الخيار في إجازة ما زاد على الثلث من ذلك أو ردّه إلى ورثته، إن أحبوا أجازوا الزيادة على ثلث ذلك، وإن شاءوا ردّوه¹، فأما ما كان من ذلك إلى الثلث فهو ماض عليهم. وعلى كل ما قلنا من ذلك الأمة مجمعة.

{إباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أيّهُمْ أقْرَبُ لَكُمْ نَفْعا}: هؤلاء الذين أوصاكم الله به فيهم من قسمة ميراث ميتكم فيهم على ما سمّى لكم وبينه في هذه الآية {آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أيّهُمْ أقْرَبُ لَكُمْ نَفعا} يقول: أعطوهم حقوقهم من ميراث ميتهم الذي أوصيتكم أن تعطوهموها، فإنكم لا تعلمون أيهم أدنى وأشدّ نفعا لكم في عاجل دنياكم وآجل أخراكم.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {لا تَدْرُون أيّهُمْ أقْربُ لَكُمْ نَفْعا} فقال بعضهم: يعني بذلك: أيهم أقرب لكم نفعا في الاَخرة. عن ابن عباس، قوله: {آباؤُكمْ وأبْناؤُكمْ لا تَدْرُونَ أيّهمْ أقْرَب لَكمْ نَفْعا} يقول: أطوعكم لله من الأباء والأبناء، أرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله سبحانه يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض.

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا في الدنيا.

وقال آخرون في ذلك بما قلنا.

{فَرِيضةً مِنَ اللّهِ إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما}: وإن كان له إخوة فلأمه السدس، فريضةً، يقول: سهاما معلومة موقتة بينها الله لهم.

{إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما}: إن الله لم يزل ذا علم بما يصلح خلقه أيها الناس، فانتهوا إلى ما يأمركم يصلح لكم أموركم. {حَكِيما} يقول: لم يزل ذا حكمة في تدبيره وهو كذلك فيما يقسم لبعضكم من ميراث بعض وفيما يقضي بينكم من الأحكام، لا يدخل حكمه خلل ولا زلل، لأن قضاء من لا يخفى عليه مواضع المصلحة في البدء والعاقبة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{يُوصِيكُمُ الله} يعهد إليكم ويأمركم {فِي أولادكم} في شأن ميراثهم بما هو العدل والمصلحة. وهذا إجمال تفصيله {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين}

فإن قلت: هلا قيل: للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر؛ قلت ليبدأ ببيان حظ الذكر لفضله، كما ضوعف حظه لذلك، ولأنّ قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين} قصد إلى بيان فضل الذكر. وقولك: للأنثيين مثل حظ الذكر، قصد إلى بيان نقص الأنثى، وما كان قصداً إلى بيان فضله، كان أدلّ على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه: ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود الآية، فقيل: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث، فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به.

فإن قلت: فإن حظ الأنثيين الثلثان، فكأنّه قيل للذكر الثلثان. قلت: أريد حال الاجتماع لا الانفراد أي إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما في حال الانفراد، فالابن يأخذ المال كله والبنتان يأخذان الثلثين. والدليل على أن الغرض حكم الاجتماع، أنه أتبعه حكم الانفراد، وهو قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} والمعنى للذكر منهم، أي من أولادكم، فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم،

فإن قلت: لم قيل {فَإِن كُنَّ نِسَاء} ولم يقل: وإن كانت امرأة؟ قلت: لأنّ الغرض ثمة خلوصهن إناثاً لا ذكر فيهنّ، ليميز بين ما ذكر من اجتماعهن مع الذكور في قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} وبين انفرادهن. وأريد هاهنا أن يميز بين كون البنت مع غيرها وبين كونها وحدها لا قرينة لها.

فإن قلت: قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما، وما باله لم يذكر؟ قلت: أما حكمهما فمختلف فيه، فابن عباس أبى تنزيلهما منزلة الجماعة. لقوله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين} فأعطاهما حكم الواحدة وهو ظاهر مكشوف. وأما سائر الصحابة فقد أعطوهما حكم الجماعة، والذي يعلل به قولهم: أن قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} قد دلّ على أن حكم الأنثيين حكم الذكر، وذلك أن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة، فالأنثيان كذلك يحوزان الثلثين، فلما ذكر ما دلّ على حكم الأنثيين قيل: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} على معنى: فإن كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما للأنثيين وهو الثلثان لا يتجاوزنه لكثرتهن ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت. وقيل: إن الثنتين أمس رحماً بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب الله للأختين. ولم يروا أن يقصروا بهما عن حظ من هو أبعد رحماً منهما. وقيل: إن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كانت أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها. ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضاً مع أخيها لو انفردت معه، فوجب لهما الثلثان. {وَلاِبَوَيْهِ} الضمير للميت. و {لِكُلّ واحد مّنْهُمَا} بدل من {ولأبويه} بتكرير العامل. وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس، لكان ظاهره اشتراكهما فيه. ولو قيل: ولأبويه السدسان، لأوهم قسمة السدسين عليهما على التسوية وعلى خلافها.

فإن قلت: فهلا قيل: ولكل واحد من أبويه السدس: وأي فائدة في ذكر الأبوين أوّلاً، ثم في الإبدال منهما؟ قلت: لأنّ في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيداً وتشديداً، كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير. والسدس: مبتدأ. وخبره: لأبويه. والبدل متوسط بينهما للبيان. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة «السدس» بالتخفيف، وكذلك الثلث والربع والثمن. والولد: يقع على الذكر والأنثى، ويختلف حكم الأب في ذلك. فإن كان ذكراً اقتصر بالأب على السدس، وإن كانت أنثى عصب مع إعطاء السدس.

فإن قلت: قد بين حكم الأبوين في الإرث مع الولد: ثم حكمهما مع عدمه، فهلا قيل: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث. وأي فائدة في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}؟ قلت معناه: فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فحسب، فلأمه الثلث مما ترك، كما قال: {لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ} لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين، كان للأم ثلث ما بقي بعد إخراج نصيب الزوج، لا ثلث ما ترك، إلا عند ابن عباس.

والمعنى: أن الأبوين إذا خلصا تقاسما الميراث: للذكر مثل حظ الأنثيين،

فإن قلت: ما العلة في أن كان لها ثلث ما بقي دون ثلث المال؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أنّ الزوج إنما استحق ما يسهم له بحق العقد لا بالقرابة. فأشبه الوصية في قسمة ما وراءه. والثاني: أن الأب أقوى في الإرث من الأم، بدليل أنه يضعف عليها إذا خلصا ويكون صاحب فرض وعصبة، وجامعا بين الأمرين، فلو ضرب لها الثلث كملاً لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها. ألا ترى أن امرأة لو تركت زوجاً وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب، حازت الأم سهمين والأب سهماً واحداً، فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين. {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ السدس} الإخوة يحجبون الأم عن الثلث وإن كانوا لا يرثون مع الأب، فيكون لها السدس وللأب خمسة الأسداس، ويستوي في الحجب الاثنان فصاعداً إلا عند ابن عباس. وعنه أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم.

فإن قلت: فكيف صحّ أن يتناول الإخوة الأخوين. والجمع خلاف التثنية؟ قلت: الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية، وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدل بالإخوة عليه... {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها، لا بما يليه وحده، كأنه قيل قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها. وقرىء «يوصى بها» بالتخفيف والتشديد. و«ويُوصى بها» على البناء للمفعول مخففاً.

فإن قلت: ما معنى أو؟ قلت: معناها الإباحة: وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما، قدم على قسمة الميراث، كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين.

فإن قلت: لم قدّمت الوصية على الدين والدين مقدم عليها في الشريعة؟ قلت: لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين فإنّ نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدين بعثاً على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جيء بكلمة «أو» للتسوية بينهما في الوجوب، ثم أكد ذلك ورغب فيه بقوله: {ءَابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ} أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أمن أوصى منهم أمن لم يوص؟ يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً وأحضر جدوى ممن ترك الوصية، فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا، ذهاباً إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلاً قريباً في الصورة، إلا أنه فانٍ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى.

وثواب الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: قد فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. وقيل: الأب يجب عليه النفقة على الابن إذا احتاج، وكذلك الابن إذا كان محتاجاً فهما في النفع بالنفقة لا يدري أيهما أقرب نفعاً. وليس شيء من هذه الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له، لأن هذه الجملة اعتراضية. ومن حق الاعتراضي أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه، والقول ما تقدم... {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بمصالح خلقه {حَكِيماً} في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

اعْلَمُوا -عَلَّمَكُمْ اللَّهُ- أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَعُمْدَةٌ مِنْ عُمُدِ الْأَحْكَامِ، وَأُمٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ؛ فَإِنَّ الْفَرَائِضَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ حَتَّى إنَّهَا ثُلُثُ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعِلْمُ ثَلَاثٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ».

وَكَانَ جُلَّ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَعُظْمَ مُنَاظَرَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الْخلق ضَيَّعُوهُ، وَانْتَقلُوا مِنْهُ إلَى الْإِجَارَاتِ وَالسَّلَمِ وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّدْلِيسِ، إمَّا لِدِينٍ نَاقِصٍ، أَوْ عِلْمٍ قَاصِرٍ، أَوْ غَرَضٍ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا ظَاهِرٍ {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَضْلِ الْفَرَائِضِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا تَبْهَت مُنْكَرِي الْقِيَاسِ وَتُخْزِي مُبْطِلِي النَّظَرِ فِي إلْحَاقِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ، فَإِنَّ عَامَّةَ مَسَائِلِهَا إنَّمَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ إذ النُّصُوصُ لَمْ تُسْتَوْفَ فِيهَا، وَلَا أَحَاطَتْ بِنَوَازِلِهَا، وَسَتَرَى ذَلِكَ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَدْ رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمِ الْفَرَائِضَ وَالْحَجَّ وَالطَّلَاقَ فَبِمَ يَفْضُلُ أَهْلَ الْبَادِيَةِ؟

وَقَالَ وَهْبٌ، عَنْ مَالِكٍ: كُنْت أَسْمَعُ رَبِيعَةَ يَقُولُ: مَنْ تَعَلَّمَ الْفَرَائِضَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِهَا مِنْ الْقُرْآنِ مَا أَسْرَعَ مَا يَنْسَاهَا. قَالَ مَالِكٌ: وَصَدَقَ.

وَفِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُخَاطَبِ بِهَا، وَعَلَى مَنْ يَعُودُ الضَّمِيرُ؟

وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِي الْمَوْتَى الْمَوْرُوثِينَ، وَالْخُلَفَاءِ الْحَاكِمِينَ، وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ أَمَّا تَنَاوُلُهَا لِلْمَوْتَى فَلِيَعْلَمُوا الْمُسْتَحَقِّينَ لِمِيرَاثِهِمْ بَعْدَهُمْ فَلَا يُخَالِفُوهُ بِعَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ؛ وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ سَعْدٍ فِي الصَّحِيحِ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي مَرَضٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي؛ أَفَأَتَصَدَّقُ بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا. قُلْت: فَالثُّلُثَانِ؟ قَالَ: لَا. قُلْت: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لَا. الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».

الثَّانِي: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ: «أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْت: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا».

الثَّالِثُ: مَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِهِ لَكَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ». فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَرْءَ أَحَقُّ بِمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ سَبَبَيْ زَوَالِهِ -وَهُوَ الْمَرَضُ قَبْلَ وُجُودِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَوْتُ- مُنِعَ مِنْ ثُلُثَيْ مَالِهِ، وَحُجِرَ عَلَيْهِ تَفْوِيتُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَارِثِ بِهِ، فَعَهِدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ إلَيْهِ، وَوَصَّى بِهِ لِيُعَلِّمَهُ فَيَعْمَلَ بِهِ؛ وَوُجُوبُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى سَبَبَيْنِ بِأَحَدِ سَبَبَيْهِ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ فِي الْفِقْهِ؛ لِجَوَازِ إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ، وَقَبْلَ الْمَوْتِ فِي الْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ صَحَّ سُقُوطُ الشُّفْعَةِ بِوُجُودِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَالِ قَبْلَ الْبَيْعِ.

وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِلْخُلَفَاءِ الْحَاكِمِينَ فَلِيَقْضُوا بِهِ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُتَخَاصِمِينَ.

وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلِيَكُونُوا بِهِ عَالِمِينَ، وَلِمَنْ جَهِلَهُ مُبَيِّنِينَ، وَعَلَى مَنْ خَالَفَهُ مُنْكِرِينَ، وَهَذَا فَرْضٌ يَعُمُّ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ فَنٌّ غَرِيبٌ مِنْ تَنَاوُلِ الْخِطَابِ لِلْمُخَاطَبِينَ، فَافْهَمُوهُ وَاعْمَلُوا بِهِ وَحَافِظُوا عَلَيْهِ وَاحْفَظُوهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

...

.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}.

هَذَا الْقَوْلُ يُفِيدُ أَنَّ الذَّكَرَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأُنْثَى أَخَذَ مِثْلَيْ مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى، وَأَخَذَتْ هِيَ نِصْفَ مَا يَأْخُذُ الذَّكَرُ؛ وَلَيْسَ هَذَا بِنَصٍّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ تَنْبِيهٌ قَوِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُمْ يُحِيطُونَ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا انْفَرَدُوا لَمَا كَانَ بَيَانًا لِسَهْمٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَاقْتَضَى الِاضْطِرَارُ إلَى بَيَانِ سِهَامِهِمْ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا انْفَرَدُوا؛ فَإِذَا انْضَافَ إلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ فَأَخَذَ سَهْمَهُ كَانَ الْبَاقِي أَيْضًا مَعْلُومًا؛ فَيَتَعَيَّنُ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ، وَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْعُمُومِ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْأَبَوَيْنِ بِالسُّدُسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالزَّوْجَيْنِ بِالرُّبْعِ وَالثُّمُنِ لَهُمَا عَلَى تَفْصِيلِهِمَا، وَبَقِيَ الْعُمُومُ وَالْبَيَانُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فِي أَوْلَادِكُمْ} عَامٌّ فِي الْأَعْلَى مِنْهُمْ وَالْأَسْفَلِ؛ فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الرُّتْبَةِ أَخَذُوهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا فَكَانَ بَعْضُهُمْ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ حَجَبَ الْأَعْلَى الْأَسْفَلَ؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى يَقُولُ: أَنَا ابْنُ الْمَيِّتِ، وَالْأَسْفَلَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ ابْنِ الْمَيِّتِ، فَلَمَّا اسْتَفَلَّتْ دَرَجَتُهُ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُدْلِي بِهِ يُقْطَعُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى ذَكَرًا سَقَطَ الْأَسْفَلُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى أُنْثَى أَخَذَتْ الْأُنْثَى حَقَّهَا، وَبَقِيَ الْبَاقِي لِوَلَدِ الْوَلَدِ إنْ كَانَ ذَكَرًا، وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْوَلَدِ أُنْثَى أُعْطِيت الْعُلْيَا النِّصْفَ، وَأُعْطِيَتْ السُّفْلَى السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّا نُقَدِّرُهُمَا بِنْتَيْنِ مُتَفَاوِتَتَيْنِ فِي الرُّتْبَةِ، فَاشْتَرَكَتَا فِي الثُّلُثِ بِحُكْمِ الْبِنْتِيَّةِ، وَتَفَاوَتَتَا فِي الْقِسْمَةِ بِتَفَاوُتِ الدَّرَجَة؛ وَبِهَذِهِ الْحِكْمَةُ جَاءَتْ السُّنَّةُ. وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى بِنْتَيْنِ أَخَذَتَا الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَسْفَلُ أُنْثَى لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِزَائِهَا أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا ذَكَرٌ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ مَعَهُ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «إنْ كَانَ الذَّكَرُ مِنْ وَلَدِ الْوَلَدِ بِإِزَائِهَا رَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا»، مُرَاعِيًا فِي ذَلِكَ. ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}، فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْبَنَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ شَيْئًا إلَّا الثُّلُثَيْنِ؛ وَهَذَا سَاقِطٌ، فَإِنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي قَضَيْنَا فِيهِ بِاشْتِرَاكِ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ ابْنِ أَخِيهَا وَاشْتِرَاكِ ابْنِ الِابْنِ مَعَ عَمَّتِهِ لَيْسَ حُكْمًا بِالسَّهْمِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}، وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ بِالتَّعْصِيبِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اشْتِرَاكُهُمَا مَعَهُ إذَا كَانَتَا بِإِزَائِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثَيْنِ، وَهَذَا قَاطِعٌ جِدًّا.

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّهُ لَوْ وَازَاهَا مَا رَدَّ عَلَيْهَا، وَلَا شَارَكَتْهُ مُرَاعَاةً لِهَذَا الظَّاهِرِ لَقِيلَ لَهُ: لَا حُجَّةَ لَكَ فِي هَذَا الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ أُخِذَ بِالسَّهْمِ، وَهَذَا حَقٌّ أُخِذَ بِالتَّعْصِيبِ؛ وَمَا يُؤْخَذُ بِالتَّعْصِيبِ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ بِخِلَافِ السَّهْمِ الْمَفْرُوضِ الْمُعَيَّنِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ تَرَكَ عَشْرَ بَنَاتٍ وَابْنًا وَاحِدًا، لَأَخَذَتِ الْبَنَاتُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ بِالتَّعْصِيبِ لَمْ يَقْدَحْ فِي الَّذِي يَجِبُ بِالسَّهْمِ؛ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ بَيَانُهُ فِي الْفَرَائِضِ الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الثُّلُثُ}.

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: سَوَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ، وَفَاضَلَ بَيْنَهُمَا مَعَ عَدَمِهِ فِي أَنْ جَعَلَ سَهْمَيْهِمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا يُدْلِيَانِ بِقَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ، فَاسْتَوَيَا مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ؛ فَإِنْ عَدِمَ الْوَلَدُ فَضَلَ الْأَبُ الْأُمَّ بِالذُّكُورَةِ وَالنُّصْرَةِ وَوُجُوبِ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ، وَثَبَتَتِ الْأُمُّ عَلَى سَهْمٍ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا اجْتَمَعَ الْآبَاءُ وَالْأَوْلَادُ قَدَّمَ اللَّهُ الْأَوْلَادَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ يُقَدِّمُ وَلَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَوَدُّ أَنَّهُ يَرَاهُ فَوْقَهُ وَيَكْتَسِبُ لَهُ؛ فَقِيلَ لَهُ: حَالُ حَفِيدِكَ مَعَ وَلَدِكِ كَحَالِكَ مَعَ وَلَدِكِ.

...

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}

يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ، مَعَ عدم الْأَوْلَادِ إلَّا الْأَبَوَانِ؛ فَكَانَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ زِيَادَةَ الْوَاوِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَّرَ عَنْ ثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ أَسْقَطُوا الْإِخْوَةَ، وَشَارَكَهُمُ الْأَبُ، وَأَخَذَ حَظَّهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَنْ أُسْقِطُوا، بَلْ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَخَ بِالْأَبِ يُدْلي فَيَقُولُ: أَنَا ابْنُ أَبِيهِ، فَلَمَّا كَانَ وَاسِطَتُهُ وَسَبَبُهُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ هُوَ الْأَبُ كَانَ سَبَبُهُ أَوْلَى مِنْهُ وَمَانِعًا لَهُ؛ فَيَكُونُ حَالُ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا كَحَالِ الْوَالِدَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَيَجْتَمِعُ بِذَلِكَ لِلْأَبِ فَرْضَانِ: السَّهْمُ، وَالتَّعْصِيبُ، وَهَذَا عَدْلٌ فِي الْحُكْمِ ظَاهِرٌ فِي الْحِكْمَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}. الْمَعْنَى إنْ وُجِدَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْمِيرَاثِ فَهُمْ يُحْجَبُونَ وَلَا يَرِثُونَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ، بِخِلَافِ الِابْنِ الْكَافِرِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ دَلِيلُ ذَلِكَ، وَعَاضَدَهُ، وَبَسَطَهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ} مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، وَهَكَذَا يَزْدَوِجُ الْكَلَامُ وَيَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَطْفُ.

...

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا فَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ فُصُولِ الْفَرَائِضِ، وَأَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْخَلْقِ؛ وَيَسَّرَ لَهُمُ السَّبَبَ إلَى جَمْعِهِ بِوُجُوهٍ مُتْعَبَةٍ، وَمَعَانٍ عَسِيرَةٍ، وَرَكَّبَ فِي جِبِلَّاتِهِمُ الْإِكْثَارَ مِنْهُ وَالزِّيَادَةَ عَلَى الْقُوتِ الْكَافِي الْمُبَلِّغِ إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَارِكُهُ بِالْمَوْتِ يَقِينًا، وَمُخَلِّفُهُ لِغَيْرِهِ، فَمِنْ رِفْقِ الْخَالِقِ بِالْخَلْقِ صَرْفُهُ عِنْدَ فِرَاقِ الدُّنْيَا؛ إبْقَاءً عَلَى الْعَبْدِ وَتَخْفِيفًا مِنْ حَسْرَتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ كَفَنِهِ وَجِهَازِهِ إلَى قَبْرِهِ.

الثَّانِي: مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ مِنْ دَيْنِهِ.

الثَّالِثُ: مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِنْ خَيْرٍ لِيَسْتَدْرِكَ بِهِ مَا فَاتَ فِي أَيَّامِ مُهْلَتِهِ.

الرَّابِعُ: مَا يَصِيرُ إلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ الدَّانِيَةِ وَأَنْسَابِهِ الْمُشْتَبِكَةِ الْمُشْتَرَكَةِ.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا قَدِمَ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ حَاجَتَهُ الْمَاسَّةَ فِي الْحَالِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى دَيْنِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي حَيَاتِهِ لَا سَبِيلَ لِقَرَابَتِهِ إلَى قُوتِهِ وَلِبَاسِهِ، وَكَذَلِكَ فِي كَفَنِهِ.

وَأَمَّا تَقْدِيمُ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ مُرْتَهِنَةٌ بِدَيْنِهِ، وَفَرْضُ الدَّيْنِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ.

فَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمِيرَاثِ فِي بَعْضِ الْمَالِ فَفِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِيَالَةٌ دِينِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ جَمِيعَهُ لَفَاتَهُ بَابٌ مِنْ الْبِرِّ عَظِيمٌ، وَلَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِ لَمَا أَبْقَى لِوَرَثَتِهِ بِالصَّدَقَةِ مِنْهُ شَيْئًا لِأَكْثَرِ الْوَارِثِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ؛ فَقَسَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ الْمَالَ وَأَعْطَى الْخَلْقَ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ، وَأَبْقَى سَائِرَ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إنَّكَ إنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ». مَعَ أَنَّهُ كَلَالَةٌ مِنْهُ بَعِيدٌ عَنْهُ.

وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ:"خَيْرٌ" هَاهُنَا وُجُوهًا مُعْظَمُهَا أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إلَى ذِكْرِهِ بِالْجَمِيلِ، وَإِحْيَاءُ ذِكْرِهِ هُوَ إحْدَى الْحَيَاتَيْنِ، وَمَعْنًى مَقْصُودٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي طَرِيقِهِ فَقَالَ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}، وَأَخْبَرَ عَنْ رَغْبَتِهِ فِيهِ فَقَالَ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}.

وَإِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ عَظُمَ قَدْرُهُمْ، وَشَرُفَ ذِكْرُهُمْ فِي الطَّاعَةِ وَذِكْرُهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ وَتَرَكَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَتْرُوكًا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ؛ وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ الْوَصِيَّةَ مَشْرُوعَةً مَسُوغَةً لَهُ، وَكَّلَهَا إلَى نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ فِي أَعْيَانِ الْمُوصِي لَهُمْ، وَبِمِقْدَارِ مَا يَصْلُحُ لَهُمْ.

وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مَفْرُوضَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ».

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: «هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ لَهُ مَا نُكَفِّنُهُ فِيهِ إلَّا نَمِرَةً كُنَّا إذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ»؛ فَبَدَأَ بِالْكَفَنِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

وَرَوَى الْأَئِمَّةُ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَبَاهُ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ، وَتَرَكَ دَيْنًا، فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَدْ عَلِمْت أَنَّ وَالِدِي اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ. قَالَ: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَفَعَلْت: فَلَمَّا دَعَوْتُهُ وَحَضَرَ عِنْدِي وَنَظَرُوا إلَيْهِ كَأَنَّمَا أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ طَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: اُدْعُ أَصْحَابَكَ؛ فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي». فَقَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْمِيرَاثِ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: لَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ. قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ»، فَجَعَلَ الْوَفَاءَ بِمُقَابَلَةِ الدَّيْنِ.

وَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَالْمَعَانِي السَّالِفَةِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَأَنْتُمْ تُقَدِّمُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا؟ قُلْنَا؛ فِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ "أَوْ "لَا تُوجِبُ تَرْتِيبًا، إنَّمَا تُوجِبُ تَفْصِيلًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ بَعْدِ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ بَعْدِهِمَا، وَلَوْ ذَكَرَهُمَا بِحَرْفِ الْوَاوِ لَأَوْهَمَ الْجَمْعَ وَالتَّشْرِيكَ؛ فَكَانَ ذِكْرُهُمَا بِحَرْفِ "أَوْ" الْمُقْتَضِي التَّفْصِيلَ أَوْلَى.

الثَّانِي: أَنَّهُ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّ تَسَبُّبَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَالدَّيْنُ ثَابِتٌ مُؤَدًّى ذَكَرَهُ أَمْ لَمْ يَذْكُرْهُ.

الثَّالِثُ: أَنَّ وُجُودَ الْوَصِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ وُجُودِ الدَّيْنِ؛ فَقُدِّمَ فِي الذِّكْرِ مَا يَقَعُ غَالِبًا فِي الْوُجُودِ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ ذَكَرَ الْوَصِيَّةَ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُشْكِلٌ، هَلْ يَقْصِدُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ امْتِثَالُهُ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ابْتِدَاءً تَامًّا مَشْهُورًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَقَدَّمَ الْمُشْكِلَ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ فِي الْبَيَانِ.

الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً ثُمَّ نُسِخَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَلَمَّا ضَعَّفَهَا النَّسْخُ قَوِيَتْ بِتَقْدِيمِ الذِّكْرِ؛ وَذِكْرُهُمَا مَعًا كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَلَّقَ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ. لَكِنَّ الْوَصِيَّةَ خُصِّصَتْ بِبَعْضِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ جَازَتْ فِي جَمِيعِ الْمَالِ لَاسْتَغْرَقَتْهُ وَلَمْ يُوجَدْ مِيرَاثٌ؛ فَخَصَّصَهَا الشَّرْعُ بِبَعْضِ الْمَالِ؛ بِخِلَافِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُنْشِئُهُ بِمَقَاصِدَ صَحِيحَةٍ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، بَيِّنَة الْمَنَاحِي فِي كُلِّ حَالٍ؛ يَعُمُّ تَعَلُّقُهَا بِالْمَالِ كُلِّهِ.

وَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ وَظَهَرَ الْمَعْنَى فِي تَخْصِيصِ الْوَصِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ قَدَّرَتْ ذَلِكَ الشَّرِيعَةُ بِالثُّلُثِ، وَبَيَّنَتْ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إلَيْهِ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ؛ قَالَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِي مَالٌ وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي... الْحَدِيثُ، إلَى أَنْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».

فَظَهَرَتْ الْمَسْأَلَةُ قَوْلًا وَمَعْنًى وَتَبَيَّنَتْ حِكْمَةً وَحُكْمًا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَقْدِيمَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فِي تَقْدِيمِ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ عَلَى الْمِيرَاثِ، فَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا فَرَّطَ فِي زَكَاتِهِ وَحَجِّهِ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إنْ أَوْصَى بِهَا أُدِّيَتْ مِنْ ثُلُثِهِ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْهَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ شَيْءٌ. وَتَعَلُّقُ الشَّافِعِيُّ ظَاهِرٌ بِبَادِئِ الرَّأْيِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ؛ فَلَزِمَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، لَاسِيَّمَا وَالزَّكَاةُ مَصْرِفُهَا إلَى الْآدَمِيِّ.

وَمُتَعَلَّقُ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ إسْقَاطَ الزَّكَاةِ أَوْ تَرْكَ الْوَرَثَةِ فُقَرَاءَ، لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ تَرْكَ الْكُلِّ، حَتَّى إذَا مَاتَ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ جَمِيعَ مَالِهِ؛ فَلَا يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ؛ فَكَانَ هَذَا قَصْدًا بَاطِلًا فِي حَقِّ عِبَادَاتِهِ وَحَقِّ وَرَثَتِهِ؛ وَكُلُّ مَنْ قَصَدَ بَاطِلًا فِي الشَّرِيعَةِ نُقِضَ عَلَيْهِ قَصْدُهُ، تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ اُتُّهِمَ بِهِ إذَا ظَهَرَتْ عَلَامَتُهُ، كَمَا قَضَيْنَا بِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ لِلْقَاتِلِ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}.

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لَا تَدْرُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسَيْنِ يَشْفَعُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

الثَّانِي: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا؛ أَيُّهُمْ أَرْفَعُ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ لَمْ يُؤْمَنْ- إذَا قَسَّمَ التَّرِكَةَ فِي الْوَصِيَّةِ، حِيفَ أَحَدُكُمْ، لِتَفْضِيلِ ابْنٍ عَلَى بِنْتٍ، أَوْ أَبٍ عَلَى أُمٍّ، أَوْ وَلَدٍ عَلَى وَلَدٍ، أَوْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَى أَحَدٍ، فَتَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَسْمَهَا بِعِلْمِهِ، وَأَنْفَذَ فِيهَا حِكْمَتَهُ بِحُكْمِهِ، وَكَشَفَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَعَبَّرَ لَكُمْ رَبُّكُمْ عَنْ وِلَايَةِ مَا جَهِلْتُمْ، وَتَوَلَّى لَكُمْ بَيَانَ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ وَمَصْلَحَتُكُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما تم ذلك تشوفت النفوس إلى بيان مقادير الاستحقاق بالإرث لكل واحد، وكان قد تقدم ذكر استحقاق الرجال والنساء من غير تقييد يتيم، فاقتضت البلاغة بيان أصول جميع المواريث، وشفاء العليل بإيضاح أمرها، فقال -مستأنفاً في جواب من كأنه سأل عن ذلك مؤكداً لما أمر به منها غاية التأكيد مشيراً إلى عظمة هذا العلم بالتقدم في الإيصاء في أول آياته، والتحذير من الضلال في آخرها، ورغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نصف العلم، وحذر من إضاعته بأنه أول علم ينزع من الأمة: {يوصيكم الله} أي بما له من العظمة الكاملة والحكمة البالغة، وبدأ بالأولاد لأن تعلق الإنسان بهم أشد فقال: {في أولادكم} أي إذا مات مورثهم.

ولما كان هذا مجملاً كان بحيث يطلب تفسيره، فقال جواباً لذلك بادئاً بالأشرف بياناً لفضله بالتقديم وجعله أصلاً والتفضيل: {للذكر} أي منهم إذا كان معه شيء من الإناث، ولم يمنعه مانع من قتل ولا مخالفة دين ونحوه {مثل حظ الأنثيين} أي نصيب من شأنه أن يغني ويسعد، وهو الثلثان، إذا انفردتا فللواحدة معه الثلث، فأثبت سبحانه للإناث حظاً تغليظاَ لهم من منعهن مطلقاً، ونقصهن عن نصيب الرجال تعريضاً بأنهم أصابوا في نفس الحكم بإنزالهن عن درجة الرجال.

ولما بان سهم الذكر مع الأنثى بعبارة النص، واشعر ذلك بأن لهن إرثاً في الجملة وعند الاجتماع مع الذكر، وفُهم بحسب إشارة النص وهي ما ثبت بنظمه، لكنه غير مقصود، ولا سبق له النص- حكم الأنثيين إذا لم يكن معهن ذكر، وهو أن لهما الثلثين، وكان ذلك أيضاً مفهماً لأن الواحدة غذا كان لها مع الأخ الثلث كان لها ذلك مع الأخت إذا لم يكن ثمَّ ذكر من باب الأولى، فاقتضى ذلك أنهن إذا كن ثلاثاً أو أكثر ليس معهم ذكر استغرقن التركة، وإن كانت واحدة ليس معها ذكر لم تزد على الثلث؛ بين أن الأمر ليس كذلك -كما تقدم- بقوله مبيناً إرثهن حال الانفراد: {فإن كن} أي الوارثات {نساء} أي إناثاً.

ولما كان ذلك قد يحمل على أقل الجمع، وهو اثنتان حقيقة أو مجازاً حقق ونفى هذا الاحتمال بقوله: {فوق اثنتين} أي لا ذكر معهن {فلهن ثلثا ما ترك} أي الميت، لا أزيد من الثلثين {وإن كانت} أي الوارثة {واحدة} أي منفردة، ليس معها غيرها {فلها النصف} أي فقط.

ولما قدم الإيصاء بالأولاد لضعفهم إذا كانوا صغاراً، وكان الوالد أقرب الناس إلى الولد وأحقهم بصلته وأشدهم اتصالاً به أتبعه حكمه فقال: {ولأبويه} أي الميت، ثم فصل بعد أن أجمل ليكون الكلام آكد، ويكون سامعه إليه أشوق بقوله مبدلاً بتكرير العامل: {لكل واحد منهما} أي أبيه وأمه اللذين ثنيا بأبوين {السدس مما ترك} ثم بين شرط ذلك فقال: {إن كان له} أي الميت {ولد} أي ذكر، فإن كانت أنثى أخذ الأب السدس فرضاً، والباقي بعد الفروض حق عصوبة.

ولما بين حكمهما مع الأولاد تلاه بحالة فقدهم فقال: {فإن لم يكن له ولد} أي ذكر ولا أنثى {وورثه أبواه} أي فقط {فلأمه الثلث} أي وللأب الباقي لأن الفرض أنه لا وارث له غيرهما، ولما كان التقدير: هذا مع فقد الإخوة أيضاً، بني عليه قوله: {فإن كان له إخوة} أي اثنان فصاعدا ذكوراً أو لا، مع فقد الأولاد {فلأمه السدس} أي لأن الإخوة ينقصونها عن الثلث إليه، والباقي للأب، ولا شيء لهم، وأما الأخت الواحدة فإنها لا تنقصها إلى السدس سواء كانت وارثة أو لا، وكذا الأخ إذا كان واحداً، ثم بين أن هذا كله بعد إخراج الوصية والدين لأن ذلك سبق فيه حق الميت الذي جمع المال فقال: {من بعد وصية يوصي بها} أي كما مندوب لكل ميت، وقدمها في الوضع على ما هو مقدم عليها في الشرع بعثاً على أدائها، لأن أنفس الورثة تشح بها، لكونها مثل مشاركتهم في الإرث لأنها بلا عوض {أو دين} أي إن كان عليه دين.

ولما كان الإنسان قد يرى أن بعض أقربائه من أصوله أو فصوله أو غيرهم أنفع له، فأحب تفضيله فتعدى هذه الحدود لما رآه، وكان ما رآه خلاف الحق في الحال أو في المآل، وكان الله تعالى هو المستأثر بعلم ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما" الحديث، لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف شاء؛ قال تعالى حاثاً على لزوم ما حده مؤكداً بالجملة الاعتراضية -كما هو الشأن في اعتراض- لأن هذه القسمة مخالفة لما كانت العرب تفعله، وهي على وجوه لا تدرك عللها: {أبآؤكم وأبنآؤكم} أي الذين فضلنا لكم إرثهم على ما ذكرنا {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} أي من غيره، لأنه لا إحاطة لكم في علم ولا قدرة، فلو وكل الأمر في القسمة إليكم لما وضعتم الأمور في أحكم مواضعها.

ولما بين أن الإرث على ما حده سبحانه وتعالى مؤكداً له بلفظ الوصية، وزاده تأكيداً بما جعله اعتراضاً بين الإيصاء وبين (فريضة) بين أنه على سبيل الحتم الذي من تركه عصى، فقال ذاكراً مصدراً مأخوذاً من معنى الكلام: {فريضة من الله} أي الذي له الأمر كله، ثم زادهم حثاً على ذلك ورغبة فيه بقوله تعليلاً لفريضته عليهم مطلقاً وعلى هذا الوجه: {إن الله} أي المحيط علماً وقدرة {كان} ولم يزل ولا يزال لأن وجود لا يتفاوت في وقت من الأوقات، لأنه لا يجري عليه زمان، ولا يحويه مكان، لأنه خالقهما {عليماً} أي بالعواقب {حكيماً *} أي فوضع لكم هذه الأحكام على غاية الإحكام في جلب المنافع لكم ودفع الضر عنكم، ورتبها سبحانه وتعالى أحسن ترتيب، فإن الوارث يتصل بالميت تارة بواسطة وهو الكلالة، وأخرى بلا واسطة، وهذا تارة يكون بنسب، وتارة بصهر ونسب، فقدم ما هو بلا واسطة لشدة قربه، وبدأ منه بالنسب لقوته، وبدأ منهم بالولد لمزيد الاعتناء به.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

أمر الله تعالى فيما قبل هاتين الآيتين من أوائل السورة بإعطاء اليتامى والنساء أموالهم إلا من كان سفيها لا يحسن تثمير المال ولا حفظه، فيثمره له الولي ويحفظه له إلى أن يرشد، ونهى عن أكل أموالهم، وأبطل ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريثهم. فناسب بعد هذا أن يبين أحكام الميراث وفرائضه. فكان بيانه في هاتين الآيتين وآية في آخر السورة. فهذه هي الفرائض التي جرى عليها العمل بعد نزولها فبطل بها وبقوله (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) ما كان من نظام التوارث في الجاهلية وفي أول الإسلام.

أما الجاهلية فكانت أسباب الإرث عندها ثلاثة:

(أحدها) النسب وهو خاص بالرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون الأعداء ويأخذون الغنائم ليس للضعيفين الطفل والمرأة منه شيء.

(ثانيها) التبني، فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيرثه ويكون له غير ذلك من أحكام الدين الصحيح وقد أبطل الله التبني بآيات من سورة الأحزاب ونفذ النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك بذلك العمل الشاق وهو التزوج بمطلقة زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه قبل الإسلام.

(ثالثها) الحلف والعهد، كان الرجل يقول للرجل: دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك. فإذا تعاهدوا على ذلك فمات أحدهما قبل الآخر كان للحي ما اشترط من مال الميت. وقيل إن هذا لم يبطل إلا بآيات الميراث.

وأما الإسلام فقد جعل التوارث أولا بالهجرة والمؤاخاة فكان المهاجر يرث المهاجر البعيد، ولا يرثه غير المهاجر وإن كان قريبا، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يؤاخي بين الرجلين فيرث أحدهما الآخر، وقد نسخ هذا وذاك واستقر الأمر عند جميع المسلمين بعد نزول أحكام الفرائض أن أسباب الإرث ثلاثة: النسب والصهر والولاء.

وحكمة ما كان في أول الإسلام ظاهرة، فإن ذوي القربى والرحم للمسلمين كان أكثرهم مشركين وكان المسلمون لقلتهم وفقرهم محتاجين إلى التناصر والتكافل بينهم ولا سيما المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وترك ذو المال منهم ماله فيها.

وذهب كثير من العلماء إلى أن الوصية للوالدين والأقربين قد نسخت أيضا بآيات الميراث ولكنك ترى أن هاتين الآيتين المفصلتين لأحكام الإرث قد جعلتا الوصية مقدمة على الإرث وأكدت ذلك بتكراره عند كل نوع من أنواع الفرائض فيها، وترى أن الوصية للوالدين والأقربين في سورة البقرة مؤكدة تأكيدا ينافي النسخ، وتقدم ذلك في سورة البقرة (راجع تفسير2: 182 (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) [البقرة: 182] -الآيات في ج 2 تفسير) وقد ذكر ذلك الأستاذ الإمام في الدرس، وأعاد ما قاله في تفسير تلك الآية فتركنا إعادته استغناء عنه بالإحالة عليه في محله...

قال الأستاذ الإمام:

الخطاب في الآية عام موجه إلى جميع المكلفين في الأمة لأنهم هم الذين يقسمون التركة. وينفذون الوصية ولتكافل الأمة في الأمور العامة. وقال غيره: إن الآية وما بعدها تفصيل للإجمال في قوله (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) الآية، وقالوا إنه يدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا حجة لهم فيها على هذا القول، إذا الظاهر أنها نزلت هي وما قبلها- ومنها تلك الآية المجملة- في وقت واحد. وما ذكر في سبب النزول لا يدل على التراخي والتأخير عن وقت الحاجة. ويجوز على فرض التأخر والتراخي أن تكون الآية الأولى أبطلت هضم حق المرأة والطفل لما فيه من الظلم والقسوة، ولم يكن المسلمون وقت نزولها قد كثروا وكثر أقاربهم منهم واستعدوا بذلك لنسخ أسباب الإرث الأولى الموقتة بأسباب الإرث الدائمة، فلما استعدوا لذلك نزل التفصيل بعد غزوة أحد كما في رواية جابر.

(يوصيكم الله) من الإيصاء والاسم الوصية وهي كما أفهم من ذوق اللغة واستعمال أهلها في القديم والحديث أنها ما تعهد به إلى غيرك من العمل في المستقبل القريب أو البعيد يقولون يسافر فلان إلى بلد كذا وأوصيته أو وصيته بأن يحضر لي معه كذا؛ ويقولون وصيت المعلم بأن يراقب آداب الصبي ويؤدبه على ما يسيء به. ولكنهم لا يقولون في طلب الشيء الحاضر أو العمل أوصيت ولا وصيت. وما كنت أظن أن هذا الحرف يحتاج إلى تفسير لولا أنني رأيت الرازي ينقل عن القفال أن الإيصاء بمعنى الإيصال، يقال وصى من الثلاثي بمعنى وصل يصل وأوصى يوصي بمعنى أوصل يوصل، وأن معنى الجملة في الآية يوصلكم الله إلى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم وعن الزجاج أن معناها يفرض عليكم. ثم رجعت إلى الراغب فرأيته يقول: الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ، من قولهم أرض واصية متصلة النبات. وهذا أظهر من القولين قبله ولكنه لم يرجعني عن فهمي الأول.

(في أولادكم) أي في شأن أولادكم من بعدكم أو ميراثهم وما يستحقونه مما تتركونه من أموالكم سواء أكانوا ذكورا أم إناثا كبارا أم صغارا، واختلف العلماء في أولاد الأولاد فقالت الشافعية إنهم يدخلون في مفهوم الأولاد مجازا لا حقيقة. وقالت الحنفية إن لفظ الأولاد يتناولهم حقيقة إذا لم يكن للميت أولاد من صلبه. ولا خلاف بين المسلمين في قيام أولاد البنين مقام والديهم عند فقدهم وعدم إرثهم مع وجودهم لأن النسب للذكور...

وقول النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحسن ابن بنته فاطمة رضي الله عنهم "ابني هذا سيد "كما في الصحيح مبني على خصوصيته في جعل ذريته من بنته أو من صلب علي كما ورد في حديث آخر. وأما الخنثى فينظر في علامات الذكورة والأنوثة فيه، فأيهما رجح حكم به. والمرجع في ذلك للأطباء الثقات العارفين.

ونقل القرطبي الإجماع على أن الترجيح يعرف بالبول، فالعضو الذي يبول منه هو الذي يرجح ذكورته أو أنوثته.

(للذكر مثل حظ الأنثيين) استئناف لبيان الوصية في إرث الأولاد وقدمه لأنه الأهم في بابه كما سيأتي بيانه، أي للذكر منهم مثل نصيب اثنتين من إناثهم إذا كانوا ذكورا وإناثا. قال الأستاذ الإمام: جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب واختير فيها هذا التعبير للإشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء كما تقدم، فكأنه جعل إرث الأنثى مقررا معروفا وأخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الأصل في التشريع وجعل إرث الذكر محمولا عليه؛ يعرف بالإضافة إليه، ولولا ذلك لقال: للأنثى نصف حظ الذكر، وإذا لا يفيد هذا المعنى ولا يلتئم السياق بعده كما ترى، أقول: ويؤيد هذا ما تراه في بقية الفرائض في الآيتين من تقديم بيان ما للإناث بالمنطوق الصريح مطلقا أو مع مقابلته بما للذكور كما ترى في فرائض الوالدين والأخوات والإخوة وليس عندنا في هاتين الآيتين في الفرائض شيء عن الأستاذ الإمام غير بيان هذه النكتة وما تقدم من نكتة الخطاب في مجموع الأمة.

والحكمة في جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين هي أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجه فكان له سهمان. وأما الأنثى فهي تنفق على نفسها فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها وبهذا الاعتبار يكون نصيب الأنثى من الإرث أكثر من نصيب الذكر في بعض الحالات بالنسبة إلى نفقاتهما.

وما ذكره بعض المفسرين في بيان الحكمة من نقص عقولهن وغلبة شهوتهن المفضية إلى الإنفاق في الوجوه المنكرة فهو قول منكر شنيع وضعف عقولهن لا يقتضي نقص نصيبهن بل ربما يقال إنه يقتضي زيادته كضعف أبدانهن لقلة حيلتهن في الكسب وعجزهن عن الكثير منه ولذلك روي عن بعض السلف أن الميراث جاء على خلاف القياس المعقول، وما أرى الرواية صحيحة كما أن معناها غير صحيح لما علمت من الحكمة التي بيناها. وأما ما يزعمون من كون شهوتهن أقوى من شهوة الرجال وما بنوه عليه من إفضائه إلى كثرة إنفاق المال فهو باطل بني على باطل وإننا نعلم بالاختبار أن الرجال هم الذين ينفقون الكثير من أموالهم في سبيل إرضاء شهواتهم وقلما نسمع أن امرأة أنفقت شيئا من مالها في مثل ذلك فهن يأخذن ولا يعطين والرجال هم الذين يبذلون لأنهم أقوى شهوة وأشد ضراوة. نعم إن النساء يملن إلى الإسراف في الزينة وهي تستلزم نفقات كثيرة، والشرع ينهى عن الإسراف فلا تكون أحكامه مبنية عليه، ولكن علم بالاختبار أنهن كثيرا ما يرجحن الاقتصاد إذا كان أمر النفقة موكولا إليهن فإن كانت من الوالد أو الزوج فلا يكاد إسرافهن يقف عند حد، ولهذا نرى بعض الرجال المقتصدين يكلون أمر النفقة في بيوتهم إلى أزواجهم فتقل النفقة ويتوفر منها ما لم يكن يتوفر من قبل.

قال المفسرون: ويدخل في عموم الأولاد من كان منهم كافرا ويخرج بالسنة إذ تبين فيها أن اختلاف الدين مانع من الإرث وهو ما عليه عمل المسلمين من الصدر الأول إلى الآن، وقد يقال: إن الكافر لا يدخل في هذا العموم لما علم من أن كفره قطع الصلة بينه وبين والده المؤمن كما علم من سورة هود المكية قال تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب أن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم) [هود: 45-46] فقد أخرجه من أهله بكفره على الوجه المشهور في الآية: فالمراد بالأولاد المؤمنون كما أن المخاطبين بها هم المؤمنون أو يقال إن لفظ "أولادكم" من العام الذي أريد به الخصوص ابتداء لا من العام الذي خصصته السنة.

وقالوا إنه يدخل في عمومها القاتل عمدا لأحد أبويه ويخرج بالسنة والإجماع وأقول: إن حرمانه من الإرث عقوبة مالية فيجوز أن يثبت بالسنة أو بالإجماع أن يعاقب أي مذنب بعقوبة مالية أو بدنية كما هو معهود في جميع شرائع الأمم أي أنه لا مانع منه عقلا ولا قبح فيه، فمنعه من الميراث هو فرع استحقاقه له فهو لا ينافي القرآن، وإذا قيل إنه ليس من باب التخصيص لعمومه لم يكن بعيدا إذ قال إن له حقه من الإرث بنص الآية ثم إن الشريعة عاقبته على قتله لوالده بحرمانه من حقه في تركته ليرتدع أمثاله وتعد ذريعة الفساد على الأشرار الطامعين الذين يستعجلون التمتع بما في أيدي والديهم فيقتلونهم لأجل ذلك ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.

ويدخل فيه الرقيق أيضا والرق مانع من الإرث بالإجماع لأن المملوك لا يملك بل كل ما يصل إلى يده من المال يكون لسيده ومالكه فلو أعطيناه من التركة شيئا لكنا معطين ذلك لسيده فيكون السيد هو الوارث بالفعل، ولما كان الرق عارضا وخلاف الأصل ومرغوبا عنه في الشرع جعل كأنه غير موجود فهو بهذا الاعتبار لا ينافي عموم الآية وإطلاقها، ولا تعد منافاته للإرث خروجا من حكمها.

وأما الميراث من النبي (صلى الله عليه وسلم) فقد قيل أنه لا يدخل في عموم الآية لأنه (صلى الله عليه وسلم) لا يدخل في العموم الوارد على لسانه سواء كان من كلامه أو من كلام الله عز وجل المأمور هو بتبليغه، وقيل إنه يدخل فيه وإنه استثني من هذا العموم بحديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" وفي المسألة خلاف الشيعة، وقد فصل القول فيه السيد الآلوسي في روح المعاني...

(فإن كن نساء) أي فإن كان الأولاد – وأنث الضمير باعتبار الخبر- وقيل المولودات أو الوارثات نساء ليس معهن ذكر (فوق اثنتين) أي زائدات على اثنتين مهما بلغ عددهن (فلهن ثلثا ما ترك) والدهن المتوفى أو والدتهن (وإن كانت) المولود أو الوراثة امرأة (واحدة) ونصب "واحدة" هو قراءة الجمهور وقرأها نافع بالرفع على إن كان تامة أي فإن وجدت امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت، (فلها النصف) مما ترك، والباقي لسائر الورثة يعرف حق كل منهم من محله.

هذا ما ذكره تعالى في إرث الأولاد وهم أقرب الطبقات إلى الميت وقد فصل فيه فروض الإناث منهم، وهو أنهن إذا كن مع الذكور كان للذكر مثل حظ الأنثيين منهن، فإذا كانا ذكرا وأنثى مثلا أخذ الذكر الثلثين والأنثى الثلث، وإذا كانوا ذكرا وأنثيين أخذ الذكر النصف والأنثيان النصف الآخر لكل منهما نصفه وهو ربع التركة وعلى هذا القياس. وإذا كن منفردات بالإرث كان الحكم فيهن ما ذكروه وهو النصف للواحدة والثلثان للجمع وسكت عن الثنتين، فاختلف فيهما، فروي عن ابن عباس أن لهما النصف كالواحدة، والجمهور على أن لهما الثلثين كالجمع وعليه العمل من عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) كما في حديث جابر الذي تقدم واستدلوا له بوجوه أظهرها اثنان:

أحدهما: ما قاله أبو مسلم من أنه يستفاد من قوله تعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين) وذلك أن الذكر مع الأنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظ الأنثيين، فهو يرى أن حكمها مأخوذ من منطوق الآية ويدل له عطف حكم الجمع منهن وما يتلوه من حكم الواحدة بالفاء.

وثانيهما: القياس على الأخوات فإنه ذكر حكمهن في آخر السورة ومنه قوله: (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) وأقول يمكن أن يؤخذ ذلك من مجموع الكلام على إرث البنات هنا والأخوات في آخر السورة بطريق آخر فقد ترك هناك حكم الجمع من الأخوات كما ترك هنا حكم الاثنتين من البنات فيؤخذ من كل من الآيتين حكم المتروك من الأخرى فهو من قبيل الاحتباك. وسنعيد بيانه في حجب الأخوة للأم. ولست أرضى قول من قال إن كلمة "فوق" زائدة ولا قول من قال إن المعنى اثنتين ففوق.

وقد علم من هذا التفصيل في الإناث أن البنات لا يستغرق فرضهن التركة وفهم منه أن الولد الذكر إذا انفرد يأخذ التركة كلها وإذا كان معه أخ له فأكثر كانت التركة بينهما أو بينهم بالمساواة. ثم انتقل من حكم الأولاد إلى حكم الوالدين، وهم في المرتبة الثانية من مستحقي الأقربين الذين يتصلون بالميت بغير واسطة فقال:

(ولأبويه) أي أبوي الميت وهو معلوم من السياق لا يتوقف الذهن في ذلك (ولكل واحد منهما السدس مما ترك) فهما سواء في هذه الفريضة لا يتفاضلان فيها كما يتفاضل الذكور والإناث من الأولاد والأخوات والأزواج وذلك لعظم مقام الأم بحيث تساوي الأب بالنسبة إلى ولدهما وإن كانا يتفاضلان في الزوجية وغيرها. وهذا (إن كان له ولد) أي كان للميت ولد واحد فأكثر، وما زاد عن الثلث الذي يتقاسمه الوالدان يكون لأولاده على التفصيل المتقدم فيهم (فإن لم يكن له ولد) ما لا ولد صلب ولا ولد ابن أو ابن ابن الخ (وورثاه أبواه) فقط (فلأمه الثلث) مما ترك والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث فيهما. وههنا يدخل الأبوان في قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" كل في طبقته، وإنما تساويا مع وجود الأولاد ليكون احترامهم لهما على السواء على أن الأب لا يفضل الأم هنا بالفرضية بل له السدس فرضا ويأخذ الباقي بالتعصيب إذ لا عصبة هنا سواه. وإنما كان حظ الوالدين من الإرث أقل من حظ الأولاد مع عظم حقهما على الولد لأنهما يكونان في الغالب أقل حاجة من الأولاد إما لكبرهما وقلة ما بقي من عمرهما وإما لاستقلالهما وتمولهما وإما لوجود من تجب عليه نفقتهما من أولادهما الأحياء، وأما الأولاد فإما أن يكونوا صغارا لا يقدرون على الكسب وإما أن يكونوا على كبرهم محتاجين إلى نفقة الزواج وتربية الأطفال فلهذا وذاك كان حظهم من الإرث أكثر من حظ الوالدين.

(فإن كان له إخوة) أي الميت مع إرث أبويه له (فلأمه السدس) مما ترك سواء كان الإخوة ذكورا أو إناثا من الأبوين أو من أحدهما كل جمع منهم يحجب الأم من الثلث إلى السدس ولا يحجبها الواحد. واختلفوا في الأخوين أو الأختين فأكثر الصحابة على أنهما كالجمع في حجب الأم من الثلث إلى السدس وعليه العمل من الصدر الأول، وخالف فيه ابن عباس فقد روي أنه قال لعثمان: ثم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس وإنما قال الله تعالى: (فإن كان له إخوة) والأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار. فقول ابن عباس إن الاثنين لا يعدان جمعا وإجازة عثمان له حجة على أن أقل الجمع ثلاثة؛ وهو المختار عند جمهور علماء الأصول وقال بعضهم إن أقله اثنان وهو مذهب أبي بكر الباقلاني واحتجوا له بقوله تعالى: (فقد صغت قلوبكما) [التحريم: 4] وليس للمخاطبتين بهذا إلا قلبان. وهو احتجاج ضعيف فالعرب إنما تجمع المثنى إذا أضافته إلى ضميره كراهة الجمع بين تثنيتين. واحتجوا بحديث "الاثنان فما فوقهما جماعة" وهو حديث ضعيف رواه ابن ماجه والدارقطني والحاكم من حديث أبي موسى، ويقويه حديث أبي أمامة عند أحمد "هذان جماعة" وما أورده البخاري في معناه ولكن الكلام في هذه الأحاديث ليس في الجمع اللغوي وإنما هو في أقل ما تحصل به فضيلة صلاة الجماعة، وهو إمام ومأموم. واحتجوا بقوله تعالى: (فإن كن نساء فوق اثنتين) [النساء: 11] فوصف النساء بالزيادة على اثنتين يفيد أن لفظ النساء يطلق على الاثنتين، وهو كما ترى ليس بقوي ولو كان القرآن يدل على ذلك لما قال ابن عباس ما قاله ووافقه عليه عثمان. جرى على ذلك جمهور الأصوليين فقالوا إن صيغة الجمع وحقيقته في الثلاثة فما فوق، فإن استعملت في الاثنين كانت مجازا.

إذا ما هو دليل الجمهور على حجب الأم بالأخوين وبالأختين، وهو ما قضى به النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدون رضي الله عنه وليس ابن عباس بأعلم منهم ولا أدق فهما في القرآن؟ الظاهر لنا أن اللغة إذا لم تدل في أصلها على دخول الاثنين في إطلاق صيغة الجمع ولو على قلة، بمثل ما ذكرناه آنفا من الشواهد. فلنا أن نقول: إن الشرع قد جعل للاثنين حكم الجمع في صلاة الجماعة والإرث، إذ جعل للأختين والبنتين الثلثين كالجمع من البنات والأخوات إذا لم يكن هنالك ذكر كما تقدم آنفا؛ وإذا جاز لنا أن نقول: إن البنتين المسكوت عنهما كالأختين المنصوص عليهما، والأخوات المسكوت عنهن كالبنات المنصوص عليهن، لأنه تعالى بين في أحكام كل منهما ما حذف نظيره من مقابله وحذف من كل منهما ما بين نظيره في الآخر على طريقة الاحتباك كقوله: (قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) [الجن: 20] أي لا ضرا ولا نفعا ولا رشدا ولا إغواء، وقوله: (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) [الإنسان: 12] أي لا شمسا ولا قمرا ولا حرا ولا زمهريرا- إذا جاز هذا وعددناه من منطوق القرآن أو مفهومه، أفلا يجوز لنا أن نقول: إن الأخوين والأختين لهما حكم الإخوة والأخوات في حجب الأم أيضا لأنه تقرر عدم الفصل في هذا المقام بين المثنى والجمع؟ بلى. وبهذا عمل النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدون ومن بعدهم، فخلاف ابن عباس رضي الله عنه بناء على ظاهر استعمال اللغة لا ينافي هذا الاصطلاح الشرعي واللغة على وضعها. ولا مشاحة في الاصطلاح.

ولكن له ههنا رأيا آخر يخالف فيه الجمهور، ربما كان أقرب مما قالوا إلى المعقول، وهو أن الإخوة الذين يحجبون الأم من الثلث إلى السدس يأخذون السدس الذي حجبوها عنه وما بقي يكون للأب. فهو يرى أنه لا معنى لحجبهم إياها إلا أخذهم لما نقص من فرضها وهو المعهود في سائر مسائل الحجب، فإن من لا يرث لا يحجب، ولا يعقل أن يكون وجودهم سببا لزيادة نصيب الأب فقط وأما الجمهور فيقولون: إن الآية بينت أنهم يحجبون وليس فيها أنهم يأخذون شيئا فيكون ما بقي – وهو خمسة أسداس- كله للأب، سدس منه بالفرض لأن فرضه كفرضها والباقي بالتعصيب. فقول الجمهور هنا أقرب إلى لفظ القرآن، وقولهم السابق أقرب إلى معناه، وقول ابن عباس بالعكس في الموضعين.

ذكرت الآية حكم الأبوين مع الولد وحكمهما منفردين ليس معهما وارث آخر وحكمهما مع الإخوة، وبقي حكمهما مع الزوج وإن شئت فقل أحد الزوجين. وفي هذه المسألة خلاف بين جمهور الصحابة وابن عباس رضي الله عنه فالجمهور على أن الزوج يأخذ نصيبه وهو النصف إن كان رجلا والربع إن كان أنثى، ويكون الباقي للأبوين ثلثه للأم وباقيه للأب. وقال ابن عباس: يأخذ الزوج نصيبه وتأخذ الأم الثلث أي ثلث التركة كلها ويأخذ الأب ما بقي. وقال: لا أجد في كتاب الله الثلث الباقي، وفي المسألة صورتان أو هما مسألتان، ويسميهما الفرضيون بالعمريتين وبالغراوين بالغريبتين إحداهما: زوجة وأبوان للزوجة الربع وهو 3 من 12 وللأم ثلث الباقي عند الجمهور وهو 3 وللأب الباقي وهو 6 فيجري حظ الأبوين على قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين". وللأم ثلث الأصل على رأي ابن عباس وهو 4 من 12 وللأب الباقي وهو 5 فلا يجري على القاعدة والثانية زوج وأبوان. للزوج النصف 6 من 12 وللأم ثلث الباقي عند الجمهور 2 من 12 وللأب الباقي 4 على القاعدة. وأما على رأي ابن عباس فللأم ثلث الأصل وهو 4 من 12 وللأب الباقي وهو اثنان، فيكون على عكس القاعدة إذ يكون للأنثى مثل حظ الذكرين. فرأي الجمهور هو الموافق للقرآن في القاعدة التي تقررت في كل من الأولاد والإخوة وفي الوالدين مع الإخوة كما تقدم وفي الزوجين كما في الآية التالية؛ وابن عباس وافق ظاهر اللفظ فقط.

ومن الاعتبار في هذا: أن حقوق الزوجية مقدمة في الإرث على حقوق الوالدين. فإن الوالدين إنما يتقاسمان ما يبقى بعد أخذ الزوج حصته، قال بعضهم في توجيه هذا: إن الزوجين لما كانا يتوارثان بالزوجية العارضة لا بالقرابة كان فرضهما من قبيل الوصية له التقديم ويؤخذ من أصل التركة ويقسم الباقي بين الوالدين الوارثين بالقرابة.

ونقول: لو كان كذلك لاطرد تقديم فرض الزوج مع الأولاد والإخوة فقدم كالوصية وقسم الباقي بين الأولاد أو الإخوة وليس الأمر كذلك وإنما وجهه عندي أن حق الأزواج في الأموال والنفقات آكد من حق الوالدين وإن كانا أشرف وأجدر من الزوج بالاحترام. ذلك أن الوالدين يكونان عند زواج الولد عريقين في الاستقلال بأنفسهما في المعيشة من جهة وأقل حاجة إلى المال من الأولاد وأزواجهم الذين أو اللواتي في سنهم غالبا لانصرام أكثر أعمارهما ولأنهما إذا احتاجا إلى مال الأولاد كان ذلك على مجموع أولادهما، وأما الزوجان فإنهما يعيشان مجتمعين كل منهما متمم لوجود الآخر حتى كأنه نصف ماهيته ويكون ذلك بانفصال كل منهما عن والديه لاتصاله بالآخر. فبهذا كانت حقوق المعيشة بينهما آكد ولهذا تقرر في الشريعة أن يكون حق المرأة على الرجل في النفقة هو الحق الأول فإذا لم يجد إلا رغيفين وسد رمقه بأحدهما وجب عليه أن يجعل الثاني لامرأته لا لأحد أبويه ولا لغيرهما من أقاربه. فصلة الزوجية أشد وأقوى صلة حيوية اجتماعية حتى أن صلة البنوة فرع منها وإن كان حق الأولاد أقوى من جهة أخرى كما تقدم.

ثم قال تعالى: (من بعد وصية) أي يوصيكم الله ويعهد إليكم أيها المؤمنون بأن لأولاد من يموت منكم كذا ولأبويه كذا من بعد وصية (يوصى بها) أي يقع الإيصاء بها من الميت. هكذا قرأ ابن عامر وابن كثير وأبو بكر عن عاصم" يوصى "بفتح الصاد مبنيا للمفعول مخففا وقرأه الباقون" يوصي "بكسر الصاد بالبناء للفاعل. ووصف الوصية بأنها يوصي بها لتأكيد أمرها والتحقق من نسبتها إلى الميت لأن الحقوق يجب التثبت فيها. هذا ما تبادر إلى فهمي وقيل إن فائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها وقيل فائدته التعميم. (أو دين) أي ومن بعد دين يتركه عليه. وقدمت الوصية على الدين في الذكر لأنها شبيهة بالميراث شاقة على الورثة وإن كان الدين مقدما عليها في الوفاء، فهو أول ما يجب في التركة ويليه الوصية فهي مما فضل عن الدين وما بقي بعد أدائهما هو الذي يقسم على الوارثين. وعطف الدين على الوصية بأو دون الواو للإيذان بأنهما متساويان في الوجوب متقدمان على القسمة مجموعين أو منفردين.

(آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) جاءت هذه الجملة بين بيان ما فرض الله للأولاد والوالدين من تركة الميت وما اشترط فيه من كونه فاضلا عن الوصية والدين وبين قوله: (فريضة من الله) أي فرض ما ذكر من الأحكام فريضة من الله لا هوادة في وجوب العمل بها. ومعنى هذه الجملة المعترضة: أنكم لا تدرون أي الفريقين أقرب نفعا لكم، أأباؤكم أم أبناؤكم فلا تتبعوا في قسمة تركة الميت ما كانت عليه الجاهلية من إعطائها للأقوياء الذين يحاربون الأعداء، وحرمان الأطفال والنساء لأنهم من الضعفاء، بل اتبعوا ما أمركم الله به فهو أعلم منكم بما هو أقرب نفعا لكم مما تقوم به في الدنيا مصالحكم؛ وتعظم به في الآخرة أجوركم.

وذهب بعضهم إلى أن الجملة متعلقة بالوصية أي لا تدرون أي آبائكم وأبنائكم أقرب لكم نفعا أمن يوصي ببعض ماله فيمهد لكم طريق المثوبة في الآخرة بإمضاء وصيته وذلك من أعمال البر تباشرونه فتكونون جديرين بأن تفعلوا مثله والخير داعية الخير؟ أم من لم يوص بشيء فيوفر لكم عرض الدنيا؟ بل الله أعلم بذلك منكم فعليكم أن تمتثلوا أمره؛ وتقفوا عند حدوده، ولا تتبرموا بإمضاء الوصية وإن كثرت، ولا تذكروا الموصي إلا بالخير (إن الله كان عليما حكيما) فهو لعلمه المحيط بشؤونكم ولحكمته البالغة التي يقدر بها الأشياء قدرها؛ ويضعها في مواضعها اللائقة بها، لا يشرع لكم من الأحكام إلا ما فيه المصلحة والمنفعة لكم، إذ لا يخفى عليه شيء من وجوه المصالح والمنافع، وهو منزه عن الغرض والهوى اللذين من شأنهما أن يمنعا من وضع الشيء في موضعه؛ وإعطاء الحق لمستحقه.

لما فرغ من بيان فرائض عمود النسب في القرابة وهو الأولاد والوالدون وقدم الأهم منهما من حيث الحاجة إلى المال المتروك وهم الأولاد دون الأشرف وهم الوالدون- بين فرائض الزوجين وهما في المرتبة الثانية لأنهما سبب لحصول الأولاد. والسبب إنما يقصد لأجل غيره والمسبب هو المقصود لذاته. وهذا لا يعارض ما قلناه آنفا في قوة رابطة الزوجية فالوجوه في التفاضل تختلف باختلاف الاعتبارات.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والآن نجيء إلى نظام التوارث. حيث يبدأ بوصية الله للوالدين في أولادهم؛ فتدل هذه الوصية على أنه -سبحانه- أرحم وأبر وأعدل من الوالدين مع أولادهم؛ كما تدل على أن هذا النظام كله مرده إلى الله سبحانه؛ فهو الذي يحكم بين الوالدين وأولادهم، وبين الأقرباء وأقاربهم. وليس لهم إلا أن يتلقوا منه سبحانه، وأن ينفذوا وصيته وحكمه.. وأن هذا هو معنى "الدين "الذي تعنى السورة كلها ببيانه وتحديده كما أسلفنا.. كذلك يبدأ بتقرير المبدأ العام للتوارث: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).. ثم يأخذ في التفريع، وتوزيع الأنصبة، في ظل تلك الحقيقة الكلية، وفي ظل هذا المبدأ العام.. ويستغرق هذا التفصيل آيتين: أولاهما خاصة بالورثة من الأصول والفروع، والثانية خاصة بحالات الزوجية والكلالة. ثم تجيء بقية أحكام الوراثة في آخر آية في السورة استكمالا لبعض حالات الكلالة [وسنعرضها في موضعها]:

(يوصيكم الله في أولادكم: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك. وإن كانت واحدة فلها النصف. ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك -إن كان له ولد- فإن لم يكن له ولد، وورثه أبواه، فلأمه الثلث. فإن كان له إخوة فلأمه السدس -من بعد وصية يوصي بها أو دين- آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا. فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما.. ولكم نصف ما ترك أزواجكم -إن لم يكن لهن ولد- فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن -من بعد وصية يوصين بها أو دين- ولهن الربع مما تركتم -إن لم يكن لكم ولد- فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم -من بعد وصية توصون بها أو دين- وإن كان رجل يورث كلالة، أو امرأة، وله أخ أو أخت، فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث -من بعد وصية يوصى بها أو دين- غير مضار، وصية من الله، والله عليم حليم)..

هاتان الآيتان، مضافا إليهما الآية الثالثة التي في نهاية السورة، ونصها: (يستفتونك. قل: الله يفتيكم في الكلالة: إن امرؤ هلك ليس له ولد، وله أخت، فلها نصف ما ترك. وهو يرثها -إن لم يكن لها ولد- فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك. وإن كانوا إخوة رجالا ونساء، فللذكر مثل حظ الأنثيين. يبين الله لكم أن تضلوا، والله بكل شيء عليم)..

هذه الآيات الثلاث تتضمن أصول علم الفرائض -أي علم الميراث- أما التفريعات فقد جاءت السنة ببعضها نصا، واجتهد الفقهاء في بقيتها تطبيقا على هذه الأصول. وليس هنا مجال الدخول في هذه التفريعات والتطبيقات فمكانها كتب الفقه -فنكتفي- في ظلال القرآن -بتفسير هذه النصوص، والتعقيب على ما تتضمنه من أصول المنهج الإسلامي..

(يوصيكم الله في أولادكم: للذكر مثل حظ الأنثيين..)..

وهذا الافتتاح يشير- كما ذكرنا -إلى الأصل الذي ترجع إليه هذه الفرائض، وإلى الجهة التي صدرت منها، كما يشير إلى أن الله أرحم بالناس من الوالدين بالأولاد، فإذا فرض لهم فإنما يفرض لهم ما هو خير مما يريده الوالدون بالأولاد..

وكلا المعنيين مرتبطان ومتكاملان..

إن الله هو الذي يوصي، وهو الذي يفرض، وهو الذي يقسم الميراث بين الناس- كما أنه هو الذي يوصي ويفرض في كل شيء، وكما أنه هو الذي يقسم الأرزاق جملة -ومن عند الله ترد التنظيمات والشرائع والقوانين، وعن الله يتلقى الناس في أخص شؤون حياتهم- وهو توزيع أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم -وهذا هو الدين. فليس هناك دين للناس إذا لم يتلقوا في شؤون حياتهم كلها من الله وحده؛ وليس هناك إسلام، إذا هم تلقوا في أي أمر من هذه الأمور- جل أو حقر -من مصدر آخر. إنما يكون الشرك أو الكفر، وتكون الجاهلية التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس.

وإن ما يوصي به الله، ويفرضه، ويحكم به في حياة الناس- ومنه ما يتعلق بأخص شؤونهم، وهو قسمة أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم -لهو أبر بالناس وأنفع لهم، مما يقسمونه هم لأنفسهم، ويختارونه لذرياتهم.. فليس للناس أن يقولوا: إنما نختار لأنفسنا. وإنما نحن أعرف بمصالحنا.. فهذا- فوق أنه باطل -هو في الوقت ذاته توقح، وتبجح، وتعالم على الله، وادعاء لا يزعمه إلا متوقح جهول!

قال العوفي عن ابن عباس: "[(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).. وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض، للولد الذكر، والأنثى، والأبوين، كرهها الناس- أو بعضهم -وقالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير. وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، ولا يجوز الغنيمة! اسكتوا عن هذا الحديث، لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه، أو نقول له فيغير! فقالوا: يا رسول الله، تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس، ولا تقاتل القوم. ويعطى الصبي الميراث، وليس يغني شيئا- وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، ولا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر].. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير..

فهذا كان منطق الجاهلية العربية، الذي كان يحيك في بعض الصدور؛ وهي تواجه فريضة الله وقسمته العادلة الحكيمة.. ومنطق الجاهلية الحاضرة الذي يحيك في بعض الصدور اليوم -وهي تواجه فريضة الله وقسمته- لعله يختلف كثيرا أو قليلا عن منطق الجاهلية العربية. فيقول: كيف نعطي المال لمن لم يكد فيه ويتعب من الذراري؟ وهذا المنطق كذاك.. كلاهما لا يدرك الحكمة، ولا يلتزم الأدب؛ وكلاهما يجمع من ثم بين الجهالة وسوء الأدب!

(للذكر مثل حظ الأنثيين)..

وحين لا يكون للميت وارث إلا ذريته من ذكور وإناث، فإنهم يأخذون جميع التركة، على أساس أنللبنت نصيبا واحدا، وللذكر نصيبين اثنين.

وليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس. إنما الأمر أمر توازن وعدل، بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي: فالرجل يتزوج امرأة، ويكلف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كل حالة، وهي معه، وهي مطلقة منه... أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط، وإما أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء. وليست مكلفة نفقة للزوج ولا للأبناء في أي حال.. فالرجل مكلف -على الأقل- ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي. ومن ثم يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم. ويبدو كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى، وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسري لا تستقيم معها حياة.

ويبدأ التقسيم بتوريث الفروع عن الأصول:

(فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف).

فإذا لم يكن له ذرية ذكور، وله بنتان أو أكثر فلهن الثلثان. فإن كان له بنت واحدة فلها النصف.. ثم ترجع بقية التركة إلى أقرب عاصب له: الأب أو الجد. أو الأخ الشقيق. أو الأخ لأب. أو العم. أو أبناء الأصول...

والنص يقول: (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك).. وهذا يثبت الثلثين للبنات -إذا كن فوق اثنتين- أما إثبات الثلثين للبنتين فقط فقد جاء من السنة ومن القياس على الأختين في الآية التي في آخر السورة.

فأما السنة فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر. قال: [جاءت امرأة سعد بن الربيع، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدا؛ وأن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا؛ ولا ينكحان إلا ولهما مال. قال: فقال:"يقضي الله في ذلك "فنزلت آية الميراث. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال:"اعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك "]..

فهذه قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للبنتين بالثلثين. فدل هذا على أن البنتين فأكثر، لهما الثلثان في هذه الحالة.

وهناك أصل آخر لهذه القسمة؛ وهو أنه لما ورد في الآية الأخرى عن الأختين: (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك).. كان إعطاء البنتين الثلثين من باب الأولى، قياسا على الأختين. وقد سويت البنت الواحدة بالأخت الواحدة كذلك في هذه الحالة.

وبعد الانتهاء من بيان نصيب الذرية يجيء بيان نصيب الأبوين -عند وجودهما- في الحالات المختلفة. مع وجود الذرية ومع عدم وجودها:

(ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك -إن كان له ولد- فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث. فإن كان له إخوة فلأمه السدس).

والأبوان لهما في الإرث أحوال:

الحال الأول: أن يجتمعا مع الأولاد، فيفرض لكل واحد منهما السدس والبقية للولد الذكر أو للولد الذكر مع أخته الأنثى أو أخواته: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإذا لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لهاالنصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس. وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب، فيجمع له في هذه الحالة بين الفرض والتعصيب. أما إذا كان للميت بنتان فأكثر فتأخذان الثلثين، ويأخذ كل واحد من الأبوين السدس.

والحال الثاني: ألا يكون للميت ولد ولا إخوة ولا زوج ولا زوجة، وينفرد الأبوان بالميراث. فيفرض للأم الثلث، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب، فيكون قد أخذ مثل حظ الأم مرتين. فلو كان مع الأبوين زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف، أو الزوجة الربع. وأخذت الأم الثلث [إما ثلث التركة كلها أو ثلث الباقي بعد فريضة الزوج أو الزوجة على خلاف بين الأقوال الفقهية] وأخذ الأب ما يتبقى بعد الأم بالتعصيب على ألا يقل نصيبه عن نصيب الأم.

والحال الثالث: هو اجتماع الأبوين مع الإخوة -سواء كانوا من الأبوين أو من الأب، أو من الأم- فإنهم لا يرثون مع الأب شيئا، لأنه مقدم عليهم وهو أقرب عاصب بعد الولد الذكر؛ ولكنهم -مع هذا- يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس. فيفرض لها معهم السدس فقط. ويأخذ الأب ما تبقى من التركة. إن لم يكن هناك زوج أو زوجة. أما الأخ الواحد فلا يحجب الأم عن الثلث، فيفرض لها الثلث معه، كما لو لم يكن هناك ولد ولا إخوة.

ولكن هذه الأنصبة كلها إنما تجيء بعد استيفاء الوصية أو الدين:

(من بعد وصية يوصي بها أو دين)..

قال ابن كثير في التفسير: "أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية".. وتقديم الدين مفهوم واضح. لأنه يتعلق بحق الآخرين. فلا بد من استيفائه من مال المورث الذي استدان، ما دام قد ترك مالا، توفية بحق الدائن، وتبرئة لذمة المدين. وقد شدد الإسلام في إبراء الذمة من الدين؛ كي تقوم الحياة على أساس من تحرج الضمير، ومن الثقة في المعاملة، ومن الطمأنينة في جو الجماعة، فجعل الدين في عنق المدين لا تبرأ منه ذمته، حتى بعد وفاته:

عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله. أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم. إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر". ثم قال: "كيف قلت؟ "فأعاد عليه. فقال: "نعم. إلا الدين. فإن جبريل أخبرني بذلك".. [أخرجه مسلم ومالك والترمذي والنسائي].

وعن أبي قتادة كذلك: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل ليلصلي عليه. فقال صلى الله عليه وسلم:"صلوا على صاحبكم فإن عليه دينا "فقلت: هو علي يا رسول الله. قال:"بالوفاء؟ "قلت: بالوفاء. فصلى عليه.

وأما الوصية فلأن إرادة الميت تعلقت بها. وقد جعلت الوصية لتلافي بعض الحالات التي يحجب فيها بعض الورثة بعضا. وقد يكون المحجوبون معوزين؛ أو تكون هناك مصلحة عائلية في توثيق العلاقات بينهم وبين الورثة؛ وإزالة أسباب الحسد والحقد والنزاع قبل أن تنبت. ولا وصية لوارث. ولا وصية في غير الثلث. وفي هذا ضمان ألا يجحف المورث بالورثة في الوصية.

وفي نهاية الآية تجيء هذا اللمسات المتنوعة المقاصد:

(آباءكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا. فريضة من الله. إن الله كان عليما حكيما)..

واللمسة الأولى لفتة قرآنية لتطييب النفوس تجاه هذه الفرائض. فهنالك من تدفعهم عاطفتهم الأبوية إلى إيثار الابناء على الآباء، لأن الضعف الفطري تجاه الابناء أكبر. وفيهم من يغالب هذا الضعف بالمشاعر الأدبية والأخلاقية فيميل إلى إيثار الآباء. وفيهم من يحتار ويتأرجح بين الضعف الفطري والشعور الأدبي.. كذلك قد تفرض البيئة بمنطقها العرفي اتجاهات معينة كتلك التي واجه بها بعضهم تشريع الإرث يوم نزل، وقد أشرنا إلى بعضها من قبل.. فأراد الله سبحانه أن يسكب في القلوب كلها راحة الرضى والتسليم لأمر الله، ولما يفرضه الله؛ بإشعارها أن العلم كله لله؛ وأنهم لا يدرون أي الأقرباء أقرب لهم نفعا. ولا أي القسم أقرب لهم مصلحة:

(آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا)..

واللمسة الثانية لتقرير أصل القضية. فالمسألة ليست مسألة هوى أو مصلحة قريبة. إنما هي مسألة الدين ومسألة الشريعة:

(فريضة من الله)..

فالله هو الذي خلق الآباء والأبناء. والله هو الذي أعطى الأرزاق والأموال. والله هو الذي يفرض، وهو الذي يقسم، وهو الذي يشرع. وليس للبشر أن يشرعوا لأنفسهم، ولا أن يحكموا هواهم، كما أنهم لا يعرفون مصلحتهم!

(إن الله كان عليما حكيما)..

وهي اللمسة الثالثة في هذا التعقيب. تجيء لتشعر القلوب بأن قضاء الله للناس -مع أنه هو الأصل الذي لا يحل لهم غيره- فهو كذلك المصلحة المبنية على العلم والحكمة. فالله يحكم لأنه عليم -وهم لا يعلمون- والله يفرض لأنه حكيم -وهم يتبعون الهوى.

وهكذا تتوالى هذه التعقيبات قبل الانتهاء من أحكام الميراث، لرد الأمر إلى محوره الأصيل. محوره الاعتقادي. الذي يحدد معنى" الدين "فهو الاحتكام إلى الله. وتلقي الفرائض منه. والرضى بحكمه: (فريضة من الله. إن الله كان عليما حكيما)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

تتنزّل آية {يوصيكم الله في أولادكم} منزلة البيان والتفصيل لقوله {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء: 7] وهذا المقصد الذي جعل قوله: {للرجال نصيب} [النساء: 7] إلخ بمنزلة المقدّمة له فلذلك كانت جملة: {يوصيكم} مفصولة لأنّ كلا الموقعين مقتض للفصل

ومن الاهتمام بهذه الأحكام تصدير تشريعها بقوله: {يوصيكم} لأنّ الوصاية هي الأمر بما فيه نفع المأمور وفيه اهتمام الآمر لشدّة صلاحه، ولذلك سمّي ما يعهد به الإنسان، فيما يصنع بأبنائه وبماله وبذاته بعد الموت، وصية...

بيَّن الله في هذه الآيات فروض الورثة، وناط الميراث كلّه بالقرابة القريبة، سواء كانت جبلّية وهي النسب، أو قريبة من الجبلّية، وهي عصمة الزوجية، لأنّ طلب الذكر للأنثى جبليّ، وكونُها المرأةَ المعيَّنة يحصل بالإلف، وهو ناشئ عن الجبلّة. وبيَّن أهل الفروض ولم يبيّن مرجع المال بعد إعطاء أهل الفروض فروضَهم، وذلك لأنّه تركه على المتعارف عندهم قبل الإسلام من احتواء أقرب العصبة على مال الميّت، وقد بيّن هذا المقصد قول النبي صلى الله عليه وسلم "أَلِحقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا فما بَقِي فلأوْلىَ رَجُلٍ ذَكَرٍ". ألا ترى قوله تعالى بعد هذا {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمِّه الثلث} فلم يبيّن حظّ الأب، لأنّ الأب في تلك الحالة قد رجع إلى حالته المقرّرة، وهي احتواء المال فاحتيج إلى ذكر فرض الأم.

وابتدأ الله تعالى بميراث الأبناء لأنّهم أقرب الناس.

والأولاد جمع ولد بوزن فَعَل مثل أسَد... والولد اسم للابن ذكرا كان أو أنثى، ويطلق على الواحد وعلى الجماعة من الأولاد، والوارد في القرآن بمعنى الواحد وجمعه أولاد.

و {في}: في إرثِ أولادكم.

وجملة: {للذكر مثل حظ الأنثيين} بيان لجملة {يوصيكم} لأنّ مضمونها هو معنى مضمون الوصية، فهي مثل البيان في قوله تعالى: {فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم} وتقديم الخبر على المبتدأ في هذه الجملة للتنبيه من أوّل الأمر على أنّ الذكر صار له شريك في الإرث وهو الأنثى لأنّه لم يكن لهم به عهد من قبل إذ كان الذكور يأخذون المال الموروث كلّه ولا حظّ للإناث، كما تقدّم آنفاً في تفسير قوله تعالى: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء: 7].

وقوله: {للذكر مثل حظ الأنثيين} جعل حظّ الأنثيين هو المقدار الذي يقدّر به حظّ الذكر، ولم يكن قد تقدّم تعيين حظّ للأنثيين حتّى يقدّر به، فعُلم أنّ المراد تضعيف حظّ الذكر من الأولاد على حظّ الأنثى منهم، وقد كان هذا المراد صالحاً لأن يؤدّى بنحو: للأنثى نصف حظّ ذكر، أو للأنثيين مثلّ حظّ ذكر، إذ ليس المقصود إلاّ بيان المضاعفة. ولكن قد أوثر هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيماء إلى أن حظّ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهَمّ من حظّ الذكر، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظّها في أول ما يقرع الأسماع قد عُلم أنّ قسمة المال تكون باعتبار عدد البنين والبنات.

وقوله: {فإن كن نساء فوق اثنتين} إلخ معاد الضمير هو لفظ الأولاد، وهو جمع ولد فهو غير مؤنّث اللفظ ولا المدلول لأنّه صالح للمذكّر والمؤنث، فلمّا كان ما صدَقُه هُنا النساء خاصّة أعيد عليه الضمير بالتأنيث.

ومعنى: {فوق اثنتين} أكثر من اثنتين، ومن معاني (فوق) الزيادة في العدد، وأصل ذلك مجاز، ثم شاع حتّى صار كالحقيقة، والآية صريحة في أنّ الثلثين لا يعطيان إلاّ للبنات الثلاث فصاعداً لأنّ تقسيم الأنصباء لا يُنتقل فيه من مقدار إلى مقدار أزيدَ منه إلاّ عند انتهاء من يستحقّ المقدار الأول.

والوصف ب {فوق اثنتين} يفيد مفهوما وهو أنّ البنتين لا تعطيان الثلثين، وزاد فقال: {وإن كانت واحدة فلها النصف} فبقي ميراث البنتين المنفردتين غير منصوص في الآية فألحقهما الجمهور بالثلاث لأنّهما أكثر من واحدة، وأحسن ما وجِّه به ذلك ما قاله القاضي إسماعيل بن إسحاق « إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها إذا انفرد الثلث فأحرى أن تأخذ الثلثَ مع أختها» يعني أنّ كلّ واحدة من البنتين هي مقارنة لأختها الأخرى فلا يكون حظّها مع أخت أنثى أقلّ من حظّها مع أخ ذكر، فإنّ الذكر أولى بتوفير نصيبه، وقد تلقّفه المحقّقون من بعده، وربما نسب لبعض الذين تلقّفوه.

وعلَّله ووَجَّهه آخرون: بأنّ الله جعل للأختين عند انفرادهما الثلثين فلا تكون البنتان أقلّ منهما. وقال ابن عباس: للبنتين النصف كالبنت الواحدة، وكأنّه لم ير لتوريثهما أكثر من التشريك في النصف محمَلا في الآية، ولو أريد ذلك لما قال {فوق اثنتين}. ومنهم من جعل لفظ (فوق) زائداً، ونظّره بقوله تعالى: {فاضربوا فوق الأعناق} [الأنفال: 12]. وشتَّان بين فوق التي مع أسماء العدد وفوق التي بمعنى مكان الفعل. قال ابن عطية: وقد أجمع الناس في الأمصار والأعصار على أنّ للبنتين الثلثين، أي وهذا الإجماع مستند لسنّة عرفوها. وردّ القرطبي دعوى الإجماع بأنّ ابن عباس صحّ عنه أنّه أعطى البنتين النصف. قلت: لعلّ الإجماع انعقد بعدما أعطى ابن عباس البنتين النصف على أنّ اختلال الإجماع لمخالفة واحد مختلف فيه، أمّا حديث امرأة سعد بن الربيع المتقدّم فلا يصلح للفصل في هذا الخلاف، لأنّ في روايته اختلافا هل ترك بنتين أو ثلاثاً.

وقوله: {فلهن} أعيد الضمير إلى نساء، والمراد ما يصدق بالمرأتين تغليبا للجمع على المثنى اعتمادا على القرينة.

وقرأ الجمهور: « وإن كانت واحدة» بنصب واحدة على أنّه خبر كانت، واسم كانت ضمير عائد إلى ما يفيده قوله: {في أولادكم} من مفرد ولد، أي وإن كانت الولد بنتا واحدة، وقرأ نافع، وأبو جعفر بالرفع على أنّ كان تامّة، والتقدير: وإن وجدت بنت واحدة، لما دلّ عليه قوله: {فإن كن نساء}.

وصيغة {أولادكم} صيغة عموم لأنّ أولاد جمع معرّف بالإضافة، والجمع المعرّف بالإضافة من صيغ العموم، وهذا العموم، خصّصه أربعة أشياء:

الأوّل: خصّ منه عند أهل السنّة النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه عنه أبو بكر أنّه قال: "لا نورث ما تركنا صدقة "ووافقه عليه عمر بن الخطاب وجميع الصحابة وأمَّهات المؤمنين. وصحّ أنّ علياً رضي الله عنه وافق عليه في مجلس عمر بن الخطاب ومن حضر من الصحابة كما في « الصحيحين».

الثاني: اختلاف الدين بالإسلام وغيره، وقد أجمع المسلمون على أنّه لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ.

الثالث: قاتل العمد لا يرث قريبه في شيء.

الرابع: قاتل الخطأ لا يرث من الدية شيئاً.

{ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس}.

الضمير المفرد عائد إلى الميّت المفهوم من قوله: {يوصيكم الله في أولادكم} إذ قد تقرّر أنّ الكلام في قسمة مال الميّت. وجاء الكلام على طريقة الإجمال والتفصيل ليكون كالعنوان، فلذلك لم يقل: ولكلّ من أبويه السدس، وهو كقوله السابق: {في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11].

وقوله: {وورثه أبواه} زاده للدلالة على الاقتصار أي: لا غيرهما، ليعلم من قوله: {فلأمه الثلث} أنّ للأب الثلثين، فإن كان مع الأمّ صاحب فرض لا تحجبه كان على فرضه معها وهي على فرضها. واختلفوا في زوجة وأبوين وزوج وأبوين: فقال ابن عباس: للزوج أو الزوجة فرضهما وللأمّ ثلثها وما بقي للأب، حملا على قاعدة تعدّد أهل الفروض، وقال زيد بن ثابت: لأحد الزوجين فرضه وللأمّ ثلث ما بَقي وما بقي للأب، لئلا تأخذ الأمّ أكثر من الأب في صورة زوج وأبوين، وعلى قول زيد ذهب جمهور العلماء. وفي « سنن ابن أبي شيبة»: أنّ ابن عباس أرسل إلى زيد « أين تجد في كتاب الله ثلث ما بقي» فأجاب زيد « إنما أنت رجل تقول برأيك وأنا أقول برأيي».

وقد علم أنّ للأب مع الأمّ الثلثين، وترك ذكره لأنّ مبني الفرائض على أنّ ما بقي بدون فرض يرجع إلى أصل العصابة عند العرب.

وقرأ الجمهور: فلأمَّه بضمّ همزة أمّه، وقرأه حمزة، والكسائي بكسر الهمزة اتّباعاً لكسرة اللام.

وقوله: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} أي إن كان إخوة مع الأبوين وهو صريح في أنّ الإخوة يحجبون الأمّ فينقلونها من الثلث إلى السدس. والمذكور في الآية صيغة جمع فهي ظاهرة في أنّها لا ينقلها إلى السدس إلاّ جماعة من الإخوة ثلاثة فصاعداً ذكوراً أو مختلطين. وقد اختلف فيما دون الجمع، وما إذا كان الإخوة إناثاً: فقال الجمهور الأخوان يحجبان الأمّ، والأختان أيضاً، وخالفهم ابن عباس أخذا بظاهر الآية. أمّا الأخ الواحد أو الأخت فلا يحجب الأمّ والله أعلم بحكمة ذلك. واختلفوا في السدس الذي يحجب الإخوة عنه الأمّ: هل يأخذه الإخوة أم يأخذه الأب، فقال بالأوّل ابن عباس رضي الله عنه وهو أظهر، وقال بالثاني الجمهور بناء على أنّ الحاجب قد يكون محجوباً. وكيفما كان فقد اعتبر الله للأخوة حظّا مع وجود الأبوين في حالة خاصّة، ولو كان الإخوة مع الأمّ ولم يكن أب لكان للأمّ السدس وللأخوة بقية المال باتّفاق، وربما كان في هذا تعضيد لابن عباس.

{من بعد وصية يوصي بها أو دين}

المجرور في موضع الحال، فهو ظرف مستقرّ، وهو قيد يرجع إلى الجمل المتقدّمة: أي تقتسمون المال على حسب تلك الأنصباء لكلّ نصيبه حالة كونه من بعد وصيّة أو دين.

وجيء بقوله: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} بعد ذكر صنفين من الفرائض: فرائض الأبناء، وفرائض الأبوين، لأنّ هذين الصنفين كصنف واحد إذ كان سببهما عمود النسب المباشر. والمقصد هنا التنبيه على أهمّية الوصيَّة وتقدّمها. وإنَّما ذكر الدين بعدها تتميماً لما يتعيّن تقديمه على الميراث مع علم السامعين أنّ الدين يتقدّم على الوصيّة أيضاً لأنّه حقّ سابق في مال الميّت، لأنّ المدين لا يملك من ماله إلاّ ما هو فاضل عن دين دائنه.

فموقع عطف {أو دين} موقع الاحتراس، ولأجل هذا الاهتمام كرّر الله هذا القيد أربع مرات في هذه الآيات.

ووصف الوصية بجملة {يوصي بها} لئلا يُتوهّم أنّ المراد الوصيّة التي كانت مفروضة قبل شرع الفرائض، وهي التي في قوله: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين} [البقرة: 180]. وقرأ الجمهور: {يوصي بها} في الموضعين في هذه الآية بكسر الصاد والضمير عائد إلى معلوم من الكلام وهو الميّت، كما عاد ضمير {ما ترك} [النساء: 7] وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، في الموضعين أيضاً: يوصَى بفتح الصاد مبنيا للنائب أي يوصى بها موصٍ.

{ءاباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيا}

ختم هذه الفرائض المتعلّقة بالأولاد والوالدين، وهي أصول الفرائض بقوله: {آباؤكم وأبناؤكم} الآية...أي: المذكورون آباؤكم وأبناؤكم لا شكّ في ذلكّ. ثم قال: {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} فهو إما مبتدأ وإما حال، بمعنى أنهم غير مستوين في نفعكم متفاوتون تفاوتاً يتبع تفاوت الشفقة الجبلية في الناس ويتبع البرور ومقدار تفاوت الحاجات. فربّ رجل لم تعرض له حاجة إلى أن ينفعه أبواه وأبناؤه، وربما عرضت حاجات كثيرة في الحالين، وربما لم تعرض فهم متفاوتون من هذا الاعتبار الذي كان يعتمده أهل الجاهلية في قسمة أموالهم، فاعتمدوا أحوالاً غير منضبطه ولا موثوقاً بها، ولذلك قال تعالى: {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} فشرع الإسلام ناط الفرائض بما لا يقبل التفاوت وهي الأبوة والبنوة، ففرض الفريضة لهم نظراً لصلتهم الموجبة كونهم أحقّ بمال الأبناء أو الآباء.

والتذييل بقوله: {الله كان عليماً حكيماً} واضح المناسبة.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

قد بين الله سبحانه وتعالى الواجب بالنسبة لليتامى ورعاية حقوقهم، في الموال التي يرثونها، والأموال التي تؤول إليهم. كما بين سبحانه حق الفقراء والمساكين وذوي القرابة الذين لا ميراث لهم عند تقسيم التركات. وفي هذه الآية يبين حقوق أكثر الوارثين، وهي تقسيم الله سبحانه وتعالى.

إن الميراث قد تولى القرآن بيان أكثر أحكامه، ولم يفصل أحكاما كما فصل أحكام الميراث...

والميراث هو وصية الله تعالى بتوزيع التركات على مستحقيها؛ فإنه إذا كان للعبد وصايا في أمواله من بعد وفاته، فالميراث هو وصيته سبحانه وتعالى ووصية الله تعالى أولى بالإيجاب وأحق بالتنفيذ. ولكي تكون وصية الله تعالى لها مكانتها فإنه قد جعل لها الثلثين، ولوصية صاحب المال الثلث... وفي هذه الآيات كما قلنا بيان حقوق طائفة من الوارثين، وهم الأولاد والآباء، والأزواج وأولاد الأم، وقد مزج بين الآباء والأولاد في الحقوق؛ لأن الأولاد لا يحجبون الآباء أي لا يمنعونهم من الميراث، ولذلك يعدون طبقة واحدة، وقد قال تعالى في ذلك:

{يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} هذا النص الكريم يبين ميراث الأولاد، وقد ذكر لهم ثلاث أحوال: الحال الأولى إذا كانوا ذكورا وإناثا فإن الميراث بينهم يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، والحظ هنا النصيب، والتعبير بالحظ إشارة إلى أن عطاء الأنثى، ولو كان نصف عطاء الرجل، قدر كبير لها فيه حظ، أي عطاء فيه كرم وسخاء؛ لأن التكليفات المالية عليها دون التكليفات المالية على الرجل بقدر كبير يعد أكثر من النصف.

الحال الثانية: أن الأولاد إن كن نساء فقط، يكون نصيبهن الثلثين،والنص الكريم يقول: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} يفيد بيان نصيب الأكثر من اثنتين، ولم يبين الأنثيين، ولكن يفهم من آية أخرى أن نصيب الاثنتين هو الثلثان أيضا؛ لأن الله تعالى قال في توريث الإخوة والأخوات: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك وليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك...176} [النساء].

ففي الأخوات نص على أن نصيب الأختين الثلثان، وبالأولى يكون نصيب البنتين الثلثين؛ لأن البنتين أقوى قرابة وأكثر اتصالا، وأجدر بالرعاية، فإذا كانت الأختان تأخذان الثلثين فأولى أن تأخذ البنتان الثلثين، فما حذف في آية البنات وجد ما يدل عليه في آية الأخوات. وكذلك حذف في آية الأخوات نصيب الأكثر من أختين، وصرح به في آية البنات، ففهم بطريق الأولى أن الأكثر من أختين تأخذان الثلثين؛ لأنه إذا كان الأكثر من بنتين يأخذ الثلثين فقط، فأولى أن يأخذ الأكثر من أختين الثلثين. والمعنى أنه حذف من آية البنات ما يفهم بالأولى من آية الأخوات، وحذف من آية الأخوات ما يفهم بالأولى من آية البنات، وذلك بلاغة الإيجاز، وهو من سر الأعجاز.

الحال الثالثة: أن يترك الشخص بنتا واحدة، وهي في هذه الحال تستحق النصف بصريح الآية: {وإن كانت واحدة فلها النصف}.

هذا توريث الأولاد، ويلاحظ ما يأتي:

أولا: أن نصيب الأولاد إذا كانوا ذكورا وإناثا يكون بعد أن يأخذ الأبوان والأجداد والجدات وأحد الزوجين أنصبتهم. فإذا كان للمتوفى أب وزوجة وأبناء وبنات، فإن القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين تكون بعد أخذ الأب والزوجة نصيبهما.

ثانيا: أن الأولاد يطلقون على كل فروع الشخص من صلبه، أي أبناؤه وأبناء أبنائه، وبنات أبنائه. أما بنات بناته، فإنهن لا يكن من أولاده. وقد خالف في ذلك الشيعة فلم يفرقوا في نسبة الأولاد بين من يكون من أولاد الظهور ومن يكون من أولاد البطون، أي لا يفرقون بين من تتوسط بينه وبين المتوفى أنثى ومن لا تتوسط.

ثالثها: أن أبناء الشخص وبناته يقدمن على أبناء أبنائه وبنات ابنه، أي أن الطبقة الأولى تمنع من يليها.

رابعها: أن بنات الابن يأخذن حكم البنات تماما إذا لم يكن للشخص أولادا قط، لا ذكورا ولا إناثا، بل إن جمهور الفقهاء يجعل لبنات الابن السدس، وإذا كان للمتوفى بنت واحدة تأخذ النصف، وذلك لحديث ابن مسعود الذي سئل فيه عن رجل توفى عن بنته وبنت ابن ابنه وأخته...فأعطى البنت النصف، وبنت الابن السدس، والأخت الباقي، وقال: ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس} هذا ميراث الأبوين، وقد ذكر القرآن الكريم حالا يشترك فيها الأب والأم، وهي أن يأخذ كل واحد منهما السدس إذا كان للمتوفى ولد. والمراد من الولد الفرع الذي لا يتوسط بينه وبين المتوفى أنثى، وذلك عند الجمهور، وعند الشيعة الإمامية: كل من يتصل إلى الميت من الفروع بطريق الإناث أو الذكور فهو ولد.

و الأب قد يأخذ مع السدس باقي التركة إذا كان للمتوفى فروع من الإناث فقط، فإنه عند الجمهور يأخذ السدس مع الباقي...

وحالا ثانية ذكرها للأم صراحة، وللأب ضمنا، فقال سبحانه: {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} فإن هذا النص يفيد أمرين: أحدهما – أن الميراث للأبوين إن لم يكن أولاد، وثانيهما – أنه يكون للأم الثلث، ومادام الميراث منحصرا في الأبوين؛ فإنه يكون للأم الثلث والباقي للأب.

وإذا كان معهما زوج أو زوجة، فهل الآية تفيد الحكم؟ ونقول إنها لا تفيده صراحة، بل تفيده ضمنا، وذلك انها قررت أنه في حال انحصار الإرث في الأبوين يكون نصيب الأم الثلث، ونصيب الأب الثلثين فهذه الآية قد حددت النسبة، أي أن نصيب الأم يكون على النصف من نصيب الأب، وبتطبيق ذلك على حال وجود أحد الزوجين، فإن أحدهما يأخذ فرضه وتأخذ الأم ثلث الباقي، ويأخذ الأب ثلثيه، وهذا رأي ابن مسعود وزيد، وعلى، على أرجح الروايتين عنه، وعمر وعثمان، وهو الذي اختاره الأئمة الأربعة وأكثر فقهاء الأمصار.

وهناك رأيان آخران:أحدهما- أنها تأخذ ثلث التركة كلها، وقد أخذ هذا القول من صريح الآية، وهو يؤدي إلى ألا يكون نصيب الأم، كأن يكون زوج وأم و أب، فإن الزوج يأخذ النصف والأم تأخذ الثلث، والأب يأخذ الباقي وهو السدس، أي أن الأب يأخذ نصف نصيب الأم، وهذا الرأي رأي الإمامية، وفيه شذوذ كما ترى، وقد نسب إلى ابن عباس، وقيل إنه روى عن علي ومعاذ بن جبل. والثاني – أنها تأخذ ثلث الكل في حال ما إذا كانت زوجة وأب وأم، وتأخذ ثلث الباقي إذا كانت المسألة فيها زوج بدل الزوجة، وذلك لا يأخذ الأب أقل من الأم. وأسلم الآراء أولها، وهو أوضحها وأعدلها.

وحالا ثالثة بالنسبة للأم أنها تأخذ السدس إذا كان هناك إخوة أو أخوات زادوا على واحد، فإنها تأخذ السدس، وهذه الحال خاصة بالأم؛ لأن الأب لا يؤثر في نصيبه على الإخوة والأخوات، بل إنهم لا يرثون معه.

هذا ميراث الأولاد والأبوين، وقد بين – سبحانه وتعالى – حكمة ذلك وأكد تقسيمه بقوله سبحانه:

{آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} يبين الله أن هذه قسمته، ولا يصح أن تحكموا أهواءكم في أموالكم بعد وفاتكم، فإنكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا، آباؤكم أو أبناؤكم؛ لأنه عند حكم الهوى يفقد العقل تقديره ميزانه فلا يدري أين يكون النفع، وقد صدر الآية بذكر الآباء والأبناء لقوة قرابتهم واتحاد اتصالهم، ومع ذلك لا يعلمون النافع منهم. وقد أكد الله معنى هذا التقسيم بتأكيدين: أحدهما – قوله سبحانه {فريضة من الله} أي فرض الله ذلك فريضة وقدره تقديرا فلا يجوز خلافه، لأنه تقدير الله وقسمته، وليس لأحد أن يخالف قسمة الله جلت قدرته – التأكيد الثاني: قوله سبحانه: {إن الله كان عليما حكيما}.فإن الله تعالى ذيل النص الكريم بهذه الآية تأكيدا للنفع في هذا التقسيم؛ لأن الله الذي قسم القسمة العادلة، وهو كان دائما عليما حكيما، يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وهو يدبر الأمر على مقتضى هذا العلم، وبحكمته سبحانه، وهو العزيز الحكيم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ونعم الرب خالقنا؛ إنه يوصينا في أولادنا، سبحانه رب العرش العظيم، كأننا عند ربنا أحب منا عند آبائنا. وقوله الكريم:"يوصيكم الله في أولادكم" توضح أنه رحيم بنا ومحب لنا. ومادة الوصية إذا ما استقرأناها في القرآن نجد بالاستقراء أن مادة الوصية مصحوبة بالباء، فقال سبحانه:

{ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (من الآية 153 سورة النعام)

وقال سبحانه: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} (من الآية 13 سورة الشورى).

وقال الحق أيضا: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن} (من الآية 14 سورة لقمان).

كل هذه الآيات جاءت الوصية فيها مصحوبة بالباء التي تأتي للإلصاق.

لكن عندما وصى الآباء على الأبناء قال: "يوصيكم الله في أولادكم "فكأن الوصية مغروسة ومثبتة في الأولاد، فكلما رأيت الظرف وهو الولد ذكرت الوصية وما هي الوصية؟ إنها "للذكر مثل حظ الأنثيين" وقلنا من قبل "إن الحق قال {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} (من الآية 7 سورة النساء).

ولم يحدد النصيب بعد هذه الآية مباشرة إلا بعد ما جاء بحكاية اليتامى وتحذير الناس من أكل مال اليتيم، لماذا؟ لأن ذلك يربي في النفس الاشتياق للحكم، وحين تستشرف النفس إلى تفصيل الحكم، ويأتي الحكم بعد طلب النفس له، فإنه يتمكن منها. والشيء حين تطلبه النفس تكون مهيأة لاستقباله، لكن حينما يعرض الأمر بدون طلب، فالنفس تقبله مرة وتعرض عنه مرة أخرى. ونلحظ ذلك في مناسبة تحديد أنصبة الميراث.

فقد قال الحق سبحانه أولا:

{للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} (من الآية 7 سورة النساء).

وعرض بعد ذلك أمر القسمة ورعاية اليتامى والمساكين وأولي القربى، ثم يأتي الأمر والحكم برعاية مال اليتيم والتحذير من نهبه، وبعد ذلك يقول:"يوصيكم الله في أولادكم "ويأتي البند الأول في الوصية" للذكر مثل حظ الأنثيين "ولماذا لم يقل" للأنثيين مثل حظ الذكر". أو "للأنثى نصف حظ الذكر"، هذه معان يمكن أن تعبر عن المطلوب.

لقد أراد الله أن يكون المقياس، أو المكيال هو حظ الأنثى، ويكون حظ الرجل هنا منسوبا إلى الأنثى، لأنه لو قال:"للأنثى نصف حظ الرجل؟ لكان المقياس هو الرجل، لكنه سبحانه جعل المقياس للأنثى فقال: "للذكر مثل حظ الأنثيين".

والذين يقولون: هذا أول ظلم يصيب المرأة، نريد المساواة. نقول لهم: انظروا إلى العدالة هنا. فالذكر مطلوب له زوجة ينفق عليها، والأنثى مطلوب لها ذكر ينفق عليها، إذن فنصف حظ الذكر يكفيها إن عاشت دون زواج و إن تزوجت فإن النصف الذي يخصها سيبقى لها، وسيكون لها زوج يعولها. إذن فأيهما أكثر حظا في القسمة؟ إنها الأنثى. ولذلك جعلها الله الأصل والمقياس حينما قال:"للذكر مثل حظ الأنثيين "فهل في هذا القول جور أو فيه محاباة للمرأة؟ إن في هذا القول محاباة للمرأة؛ لأنه أولا جعل نصيبها المكيال الذي يرد إليه الأمر؛ لأن الرجل مطلوب منه أن ينفق على الأنثى، وهي مطلوب لها زوج ينفق عليها. إذن فما تأخذه من نصف حظ الذكر يكون خالصا لها، وكان يجب أن تقولوا: لماذا حابى الله المرأة؟ لقد حابى الله المرأة لأنها عرض، فصانها، فإن لم تتزوج تجد ما تنفقه، وإن تزوجت فهذا فضل من الله.

ثم يقول الحق:"فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك".

وأنا أريد أن نستجمع الذهن هنا جيدا لنتعرف تماما على مراد الحق ومسالك القرآن في تنبيه الأذهان لاستقبال كلام الله. فقد كرم الله الإنسان بالعقل، والعقل لا بد له من رياضة. ومعنى الرياضة هو التدريب على حل المسائل، وإن طرأت مشكلات هيأ نفسه لها بالحل، وأن يملك القدرة على الاستنباط والتقييم، كل هذه من مهام العقل. فيأتي الحق في أهم شيء يتعلق بالإنسان وهو الدين، والدليل إلى الدين وحافظ منهجه هو القرآن، فيجعل للعقل مهمة إبداعية.

إنه سبحانه لا يأتي بالنصوص كمواد القانون في الجنايات أو الجنح، ولكنه يعطى في مكان ما جزءا من الحكم، ويترك بقية القانون لتتضح معالمه في موقع آخر من القرآن بجزئية أخرى، لأنه يريد أن يوضح لنا أن المنهج الإلهي كمنهج واحد متكامل، وانه ينقلب من شيء إلى شيء، ويستكمل حكما في أكثر من موقع بالقرآن. وذلك حتى تتعرف على المنهج ككل. وأنك إذا كنت بصدد شيء فلا تظن أن هذا الشيء بمفرده هو المنهج، ولكن هناك أشياء ستأتي استطرادا تتداخل مع الشيء الذي تبحث عن حكم الله فيه، مثال ذلك: مسألة اليتيم التي تتداخل مع أحكام الميراث. وهذه الآية تعطينا مثل هذه المسألة لماذا؟ لأن الله يريد لك يا صاحب العقل الدربة في الإطار الذي يضم الحياة كلها. وما يهمك أولا هو دينك، فلتعمل عقلك فيه، فإذا أعملت عقلك في الدين أعطيت عقلك النشاط ليعمل في المجال الآخر.

لكن إذا غرق ذهنك في أي أمر جزئي فهذا قد يبعد بك عن الإطار العام لتنشغل بالتفاصيل عن الهدف العام...

والحق سبحانه أراد ان تكون أحكامه موزعة في المواقع المختلفة، ولننظر إلى قوله: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك" أي أنه إن لم ينجب المورث ذكرا وكان له أكثر من اثنتين فلهن ثلثا ما ترك.

أما لو كان معهن ذكر، فالواحدة منهن ستأخذ نصف نصيب الذكر، وإن كانت الوارثة بنتا واحدة، فالآية تعطيها النصف من الميراث "وإن كانت واحدة فلها النصف" وبقي شيء لم يأت الله له بحكم، وهو أن يكون المورث قد ترك ابنتين. وهنا نجد أن الحق قد ضمن للاثنتين في إطار الثلاث بنات أو أكثر أخذ الثلثين من التركة، هكذا قال العلماء، ولماذا لم ينص على ذلك بوضوح؟ لقد ترك هذه المهمة للعقل، فالبنت حينما ترث مع الذكر تأخذ ثلث التركة، وعندما تكون مع ابنة أخرى دون ذكر، تأخذ الثلث.

فإذا كانت مع الذكر وهو القائم بمسئولية الكدح تأخذ الثلث، ولذلك فمن المنطقي أن تأخذ كل أنثى الثلث إن كان المورث قد ترك ابنتين. وهناك شيء آخر، لتعرف أن القرآن يأتي كله كمنهج متماسك، فهناك آية أخرى في سورة النساء تناقش جزئية من هذا الأمر ليترك للعقل فرصة العمل والبحث، يقول سبحانه:

{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم 176} (سورة النساء).

لقد جاء الحق هنا بأختي المورث وأوضح أن لهما الثلثين من التركة، فأيهما ألصق بالمورث، البنتان أم الأختان؟ إن ابنتي المورث ألصق به من أختيه، ولذلك فللبنتين الثلثان، فالابنة إن كانت مع أخيها فستأخذ الثلث، وإن كانت قد ورثت بمفردها فستأخذ النصف. وإن كانت الوارثات من البنات أكثر من اثنتين فسيأخذن الثلثين، وإن كانتا اثنتين فستأخذ كل منهما الثلث، لماذا؟ لأن الله أعطى الأختين ثلثي ما ترك المورث إن لم يكن له أولاد.

ومن العجيب انه جاء بالجمع في الآية الأولى الخاصة بتوريث البنات، وجاء بالمثنى في الآية التي تورث الأخوات، لنأخذ المثنى هناك في آية توريث الأخوات لينسحب على الجمع هنا، ونأخذ الجمع هنا في آية توريث البنات لينسحب على المثنى هناك.

لقد أراد الحق أن يجعل للعقل مهمة البحث والاستقصاء والاستنباط وذلك حتى تأخذ الأحكام بعشق وحسن فهم، وعندما يقول سبحانه: "يستفتونك "فمعنى يستفتونك أي يطلبون منك الفتوى، وهذا دليل على أن المؤمن الذي سأل وطلب الفتيا قد عشق التكليف، فهو يحب أن يعرف حكم الله، حتى فيما لم يبدأ الله به الحكم. وقد سأل المؤمنون الأوائل وطلبوا الفتيا عشقا في التكليف" يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة "والكلالة مأخوذة من الإكليل وهو ما يحيط بالرأس، والكلالة هي القرابة التي تحيط بالإنسان وليست من أصله ولا من فصله.

{إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم} (من الآية 176 سورة النساء).

وهذه الآية تكمل الآية الأولى. ونعود إلى تفصيل الآية الأولى التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها:"ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث".

ومعنى ذلك أن المورث إن لم يكن له أولاد فللأم الثلث، والأب له الثلثان، فإن كان للمورث إخوة أشقاء أو لأب لأم فللأم السدس حسب النص القرآني "فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين"، وذلك بعد أن تنفذ وصية المورث، ويؤدي الدين الذي عليه. والوصية هنا مقدمة على الدين؛ لأن الدين له مطالب، فهو يستطيع المطالبة بدينه، أما الوصية فليس لها مطالب، وقد قدمها الحق للعناية بها حتى لا نهملها. ويذيل الحق هذه الآية:

{آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} (من الآية 11 سورة النساء).

فإياك أن تحدد الأنصباء على قدر ما تظن من النفعية في الآباء أو من النفعية في الأبناء، فالنفعية في الآباء تتضح عندما يقول الإنسان:"لقد رباني أبي وهو الذي صنع لي فرص المستقبل". والنفعية في الأبناء تتضح عندما يقول الإنسان: إن أبي راحل وأبنائي هم الذين سيحملون ذكرى واسمي والحياة مقبلة عليهم. فيوضح الحق: إياك أن تحكم بمثل هذا الحكم؛ فليس لك شأن بهذا الأمر: "لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا".

وما دمت لا تدري أيهم أقرب لك نفعا فالتزم حكم الله الذي يعلم المصلحة وتوجيهها في الأنصبة كما يجب أن تكون.

ونحن حين نسمع: "إن الله كان عليما حكيما" أو نسمع: "إن الله كان غفورا رحيما" فنحن نسمعها في إطار أن الله لا يتغير، ومادام كان في الأزل عليما حكيما وغفورا رحيما فهو لا يزال كذلك إلى الأبد.

فالأغيار لا تأتي إلى الله، وثبت له العلم والحكمة والخبرة والمغفرة والرحمة أزلا وهو غير متغير، وهذه صفات ثابتة لا تتغير. لذلك فعندما تقرأ: "إن الله كان عليما حكيما" أو "إن الله كان غفورا رحيما" فالمسلم منا يقول بينه وبين نفسه: ولا يزال كذلك.