الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{۞وَقَيَّضۡنَا لَهُمۡ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَوۡلُ فِيٓ أُمَمٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ إِنَّهُمۡ كَانُواْ خَٰسِرِينَ} (25)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقيضنا لهم} في الدنيا {قرناء} من الشياطين، يقول: وهيأنا لهم قرناء في الدنيا.

{فزينوا لهم}: فحسنوا لهم، كقوله: {كذلك زين} [يونس:12]

{ما بين أيديهم} يعني من أمر الآخرة، وزينوا لهم التكذيب بالبعث والحساب والثواب والعقاب أن ذلك ليس بكائن.

{و} زينوا لهم {وما خلفهم} من الدنيا، فحسنوه في أعينهم، وحببوها إليهم حتى لا يعملوا خيرا.

{وحق عليهم القول} يعني وجب عليهم العذاب.

{في أمم} يعني مع أمم.

{قد خلت من قبلهم} يعني من قبل كفار مكة.

{من} كفار {الجن والإنس} من الأمم الخالية، {إنهم كانوا خاسرين}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"وَقَيّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ" وبعثنا لهم نُظراء من الشياطين، فجعلناهم لهم قرناء قرنّاهم بهم يزيّنون لهم قبائح أعمالهم، فزينوا لهم ذلك...

وقوله: "فَزَيّنُوا لَهُمْ ما بَينَ أيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ "يقول: فزين لهؤلاء الكفار قرناؤهم من الشياطين ما بين أيديهم من أمر الدنيا. فحسنوا ذلك لهم وحبّبوه إليهم حتى آثروه على أمر الآخرة، "وَما خَلْفَهُمْ" يقول: وحسّنوا لهم أيضا ما بعد مماتهم بأن دعوهم إلى التكذيب بالمعاد، وأن من هلك منهم، فلن يُبعث، وأن لا ثواب ولا عقاب حتى صدّقوهم على ذلك، وسهل عليهم فعل كلّ ما يشتهونه، وركوب كلّ ما يلتذونه من الفواحش باستحسانهم ذلك لأنفسهم...

وقوله: "وَحَقّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ" يقول تعالى ذكره: ووجب لهم العذاب بركوبهم ما ركبوا مما زين لهم قرناؤهم وهم من الشياطين...

"في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الجِنّ والإنْسِ"، يقول تعالى ذكره: وحقّ على هؤلاء الذين قيضنا لهم قُرَناء من الشياطين، فزيّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم العذاب في أمم قد مضت قبلهم من ضربائهم، حقّ عليهم من عذابنا مثل الذي حَقّ على هؤلاء بعضهم من الجنّ وبعضهم من الإنس.

"إنّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ" يقول: إن تلك الأمم الذين حقّ عليهم عذابنا من الجنّ والإنس، كانوا مغبونين ببيعهم رضا الله ورحمته بسخطه وعذابه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} الآية [الزخرف: 36]

ثم اختلف في قوله: {وقيّضنا لهم قُرناء}:...قال بعضهم: أي مكّنا للشياطين حتى يقذفوا في قلوبهم من الوساوس وغيرها، أو كلام نحوه.

وقال بعضهم: أي خلّينا بينهم وبين الشياطين يعملون بهم ما ذكر.

قيل: {ما بين أيديهم} ما عملوا بأنفسهم {وما خلفهم} ما سنّوا لغيرهم من بعدهم كقوله تعالى: {علمت نفس ما قدّمت وأخّرت} [الانفطار: 5] والله أعلم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

قال الجبائي: التقييض: إحواج بعض العباد إلى بعض كحاجة الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل،وقال قوم: التقييض: المماثلة، والمقايضة: المقايسة، فالمعنى على هذا إنا نضم إلى كل كافر قرينا له من الجن مثله في الكفر في نار جهنم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

إذا أراد الله بعَبْدٍ خيراً قَيَّضَ له قرناءَ خير يُعِينونه على الطاعات ويَحْمِلونه عليها، ويدعونه إليها. وإذا كانوا إخوانَ سوءٍ حملوه على المخالفات، ودَعَوْه إليها...

ومن ذلك الشيطانُ؛ فإنهُ مُقَيَّضٌ مُسَلَّطٌ على الإنسان يوسوس إليه بالمخالفات. وشرٌّ من ذلك النَّفْسُ. فإنها بئس القرين!! فهي تدعو العبدَ -اليومَ -إلى ما فيه هلاكه، وتشهد عليه غداً بفعل الزلَّة. فالنفسُ- وشرُّ قرينٍ للمرءِ نفسهُ -والشياطينُ وشياطينُ الإنْسِ كلها تُزيِّن لهم {مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من طول الأمل، {وَمَا خَلْفَهُمْ} من نسيان الزَّلَلِ، والتسويف في التوبة، والتقصير في الطاعة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ذكر وعيدهم في الدنيا والآخرة، أتبعه كفرهم الذي هو سبب الوعيد، وعطفه على ما تقديره: فإنا طبعناهم طبيعة سوء تقتضي أنهم لا ينفكون عما يوجب العتب، فأعرضوا ولم تنفعهم النذرى بصاعقة عاد وثمود، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن التصرف في القلوب أمر عظيم جداً: {وقيضنا} أي جئنا وأتحنا وبعثنا وسببنا ووكلنا وهيأنا، من القيض الذي هو المثل، وقشر البيضة الأعلى اليابس {لهم قرناء} أي أشخاصاً أمثالهم في الأخلاق والأوصاف أقوياء وهم مع كونهم شديدي الالتصاق بهم والإحاطة في غاية النحس والشدة في اللؤم والخبث واللجاجة فيما يكون به ضيق الخير واتساع الشر من غواة الجن والإنس {فزينوا لهم} أي من القبائح {ما} وعم الأشياء كلها فلم يأت بالجار فقال: {بين أيديهم} أي يعلمون قباحته حتى حسنوه لهم فارتكبوه ورغبوا فيه {وما خلفهم} أي ما يجهلون أمره ولا يزالون في كل شيء يزينونه ويلحون فيه ويكررونه حتى يقبل، فإن التكرير مقرون بالتأثير... ولما كان التقدير: فلم يدعوا قبيحة حتى ارتكبوها، عطف عليه قوله: {وحق} أي وجب وثبت {عليهم القول} أي بدوام الغضب.

ولما كان هذا مما يوجب شدة أسفه صلى الله عليه وسلم، خفف منه بقوله: {في} أي كائنين في جملة {أمم} أي كثيرة. ولما عبر عنهم بما يقتضي تعظيمهم بأنهم مقصودون، حقرهم بضمير التأنيث فقال: {قد خلت} أي لم تتعظ أمة منهم بالأخرى. ولما كان الخلو قد يكون بالموت في زمانهم، بين أنه مما مضى وفات.

ولما كان بعض من مضى غير مستغرق لجميع الزمان، عبر ب "من "فقال: {من قبلهم} أي في الزمان، وقدم الأقوى لتفهم القدرة عليه القدرة على ما دونه من باب الأولى، فإن الإنس كانوا يعدون أنفسهم دون الجن فيعوذون بهم فقال: {من الجن والأنس}؛ ثم علل حقوق الشقاء عليهم بقوله منبهاً بالتأكيد على أنهم ينكرون أن تكون القبائح موجبة للخسر.

{إنهم} أي جميع المذكورين منهم وممن قبلهم: {كانوا} أي طبعاً وفعلاً {خاسرين}.

فعلى العاقل أن يجتهد في اختيار أصحابه وأخدانه وأحبابه، فإن العاقبة فيهم حسنة جسيمة أو قبيحة وخيمة...

روى البخاري عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما والنسائي عن أبي هريرة وحده رضي الله عنه والبخاري أيضاً عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى". وفي رواية النسائي:"ما من وال إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، فمن وقي شرها فقد وقي، وهو إلى من يغلب عليه منهما"، ورواية البخاري عن أبي أيوب نحوها.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فلينظروا كيف هم في قبضة الله الذي يستكبرون عن عبادته، وكيف أن قلوبهم التي بين جنوبهم تقودهم إلى العذاب والخسارة وقد قيض الله وأحضر قرناء يوسوسون لهم، ويزينون لهم كل ما حولهم من السوء، ويحسنون لهم أعمالهم فلا يشعرون بما فيها من قبح. وأشد ما يصيب الإنسان أن يفقد إحساسه بقبح فعله وانحرافه، وأن يرى كل شيء من شخصه حسنا ومن فعله! فهذه هي المهلكة وهذا هو المنحدر الذي ينتهي دائماً بالبوار. وإذا هم في قطيع السوء. في الأمم التي حق عليها وعد الله من قبلهم من الجن والإنس. قطيع الخاسرين (إنهم كانوا خاسرين)...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف على جملة {ويَوْمَ نَحْشُر أَعْدَاءَ الله} [فصلت: 19]، وذلك أنه حُكي قولهم المقتضي إعراضهم عن التدبر في دعوة الإيمان ثم ذكر كفرهم بخالق الأكوان بقوله قُل أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [فصلت: 9] ثم ذكر مصيرهم في الآخرة بقوله ويوم نحشر أعداء الله ثم عقب ذلك بذكر سبب ضلالهم الذي نشأتْ عنه أحوالهم بقوله: وَقَيَّضنا لَهُم قُرَنَاءَ}. وتخلل بين ما هنالك وما هنا أفانين من المواعظ والدلائل والمنن والتعاليم والقوارع والإيقاظ. وَقَيَّض: أَتاح وهيَّأ شيئاً للعمل في شيء. والقرناء جَمْعُ: قرين، وهو الصاحب الملازم، والقرناء هنا: هم الملازمون لهم في الضلالة: إمَّا في الظاهر مثلُ دعاة الكفر وأيمتِه، وإما في باطن النفُوس مثلُ شياطين الوسواس الذين قال الله فيهم: {ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطاناً فهو له قرين} ويأتي في سورة الزخرف (36). ومعنى تقييضهم لهم: تَقديرهم لهم، أي خَلْق المناسبات التي يتسبب عليها تقارن بعضهم مع بعض لتناسب أفكار الدعاةِ والقابلين كما يقول الحُكماء « استفادة القابل من المبدإ تتوقف على المناسبة بينهما». فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحابّ بين الجماعات، ولمختلف الطبائع المكوَّنَةِ في نفوس بعض الناس فيقتضي بعضها جاذبيةَ الشياطين إليها وحدوثَ الخواطر السيئة فيها. وللإِحاطة بهذا المقصود أُوثر التعبير هنا ب {قيضنا} دون غيره من نحو: بَعثنا، وأرسلنا. والتزيين: التحسين، وهو يشعر بأن المزيَّن غير حسن في ذاته. و {مَّا بَيْنَ أيْدِيهِم} يستعار للأمور المشاهدة، وما خلفهم يستعار للأمور المغيبة. والمراد ب {مَّا بَيْنَ أيْدِيهِم} أمور الدنيا، أي زينوا لهم ما يعملونه في الدنيا من الفساد مثل عبادة الأصنام، وقتل النفس بلا حق، وأكل الأموال، والعدول على الناس باليد واللسان، والميسر، وارتكاب الفواحش، والوأد. فعوّدوهم باستحسان ذلك كله لما فيه من موافقة الشهوات والرغبات العارضة القصيرة المدى، وصرفوهم عن النظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذاتية الدائمة. والمراد ب {ما خلفهم} الأمور المغيبة عن الحس من صفات الله، وأمور الآخرة من البعث والجزاء مثل الشرك بالله ونسبة الولد إليه، وظنهم أنه يخفى عليه مستور أعمالهم، وإحالتهم بعثة الرسل، وإحالتهم البعث والجزاء. ومعنى تزيينهم هذا لهم تلقينهم تلك العقائد بالأدلة السفسطائية مثل قياس الغائب على الشاهد، ونفي الحقائق التي لا تدخل تحت المدركات الحسية كقولهم: {أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون} [الصافات: 16، 17].

و {حق عليهم} أي تحقق فيهم القول وهو وعيد الله إياهم بالنار على الكفر، فالتعريف في {القَوْل} للعهد. وفي هذا العهد إجمال؛ لأنه وإن كان قد ورد في القرآن ما يُعهد منه هذا القول مثل قوله: {أفمن حق عليه كلمة العذاب} [الزمر: 19] وقوله: {فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون} [الصافات: 31]، فإنه يمكن أن لا تكون الآيات المذكورة قد سبقت هذه الآية.

{فِي أُمَمٍ} حال من ضمير {عَلَيْهِم}، أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم. والظرفية هنا مجازية، وهي بمعنى التبعيض، أي هم من أمم قد خلت من قبلهم حق عليهم القول.

و {مِن} في قوله: {مِنَ الجِنِّ والإنْسِ} بيانية، فيجوز أن يكون بياناً ل {أُمَمٍ}، أي من أمم من البشر ومن الشياطين فيكون مثل قوله تعالى: {قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} [ص: 84، 85]، وقوله: {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار} [الأعراف: 38] ويجوز أن يكون بياناً ل {قُرَنَاءَ} أي ملازمين لهم ملازمة خفية وهي ملازمة الشياطين لهم بالوسوسة وملازمة أيمة الكفر لهم بالتشريع لهم ما لم يأذن به الله.

وجملة {إنَّهُم كَانُوا خاسرين} يجوز أن تكون بياناً للقول مثل نظيرتها {فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون} في سورة الصافات (31)، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة {وحَقَّ عَلَيهِم القَوْلُ في أُمَمٍ} والمعنيان متقاربان...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

معنى {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ..} يعني: أعددنا لهم وهيّأنا لهم {قُرَنَآءَ..} أصحاباً يلازمونهم، وأصل المقايضة في البيع والشراء كأنْ تدفع الثمن وتأخذ السلعة؛ لأن الله تعالى يريد للعبد أنْ يسير على طريق الخير الذي رسمه الله له، وطريق الخير المرسوم لك من الله يريد منه أنْ يؤكد صدقك في التوجه إليه، فيأتي بقرناء يعترضون طريقك ويحاولون صَرْفك عنه.

فإنْ أطعتَ هؤلاء القرناء ملْتَ معهم وضللتَ طريقك الذي اختاره الله لك، وإنْ عصيتهم فقد نجوْتَ وخابت معك حيل الشيطان الذي يُزيِّن لك سواء من شياطين الإنس أو من شياطين الجن.

فكأن الشيطان ما جاء إلا ليختبر إيمان المؤمن فهو يُوسوس للجميع، ويُزيِّن الشر للجميع، لكن قويّ الإيمان يقف أمام هذه الوسوسة ويعرف مصدرها فلا يطيع، أما ضعيف الإيمان فينقاد ويقع في المخالفة، ولولا وجود الشيطان لكان الإيمانُ رتابةً لا معارضَ لها، لكن وُجِد المعارض، ومع ذلك ثبت أهل الإيمان على إيمانهم.

قوله: {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ..} ما بين أيديهم: الموجود الحالي من الشهوات، وما خلفهم: أي: ما ينتظرهم من أمر القيامة والحساب {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ}.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ثم تشير الآية الثانية إلى العذاب الدنيوي لهؤلاء فتقول: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) حيث قام هؤلاء الجلساء بتصوير المساوئ لهم حسنات. «قيضنا» من (قيض) على وزن (فيض) وتعني في الأصل قشرة البيضة الخارجية، ثمّ قيلت لوصف الأشخاص الذين يسيطرون على الإنسان بشكل كامل، كسيطرة القشرة على البيضة. وهذه إشارة إلى أنّ أصدقاء السوء والرفاق الفاسدين يحيطون بهم من كل مكان، حيث يصادرون أفكارهم، ويهيمنون عليهم بحيث يفقدون معه قابلية الإدراك والإحساس المستقل، وعندها ستكون الأمور القبيحة السيئة جميلة حسنة في نظرهم، وبذلك ينتهي الإنسان إلى الوقوع في مستنقع الفساد وتغلق بوجهه أبواب النجاة. في بعض الأحيان تستخدم كلمة «قيضنا» لتبديل شيء مكان شيء آخر، ووفقاً لهذا المعنى سيكون مقصود الآية، هو أنّنا سنأخذ منهم الأصدقاء الصالحين ونسلب منهم رفاق الخير، لنبدلهم بأصدقاء السوء والقرناء الفاسدين.

لقد ورد هذا المعنى بشكل أوضح في الآيتين (36_37) من سورة «الزخرف» في قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين وإنّهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنّهم مهتدون). إنّ التمعّن بالمجتمعات الفاسدة والفئات المنحرفة الضالة ينتهي بنا بسهولة إلى اكتشاف آثار أقدام الشياطين في حياتهم، إذ يحاصرهم رفاق السوء وقرناء الشر من كلّ جانب وصوب، ويسيطرون على أفكارهم ويقلبون لهم الحقائق.

وقد يكون (ما بين أيديهم) إشارة إلى وضعهم الدنيوي (وما خلفهم) إلى المستقبل الذي سينتظرهم وأبناءهم، إذ عادة ما يرتكب هذه الجرائم تحت شعار تأمين المستقبل...