اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَقَيَّضۡنَا لَهُمۡ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَوۡلُ فِيٓ أُمَمٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ إِنَّهُمۡ كَانُواْ خَٰسِرِينَ} (25)

قوله : «وَقَيَّضْنَا لَهُمْ » بعثنا لهم وولكنا ، وقال مقاتل : هَيَّأْنَاهُ{[48755]} . وقال الزجاج : سينالهم{[48756]} وأصل التقييض التيسير والتهيئة ، قيضته للداء هيأته له ويسّرته ، وهذان ثوبان قيِّضان أي كل منهما مكافئ للآخر في الثمن . والمقايضة المعارضة ، وقوله { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } [ الزخرف : 36 ] أي نسهل ونيسر ليستولي عليه استيلاء القَيْض على البَيْض{[48757]} .

والقيض في الأصل قشر البيض الأعلى{[48758]} . قال الجوهري{[48759]} : ويقال : قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع ، وهما قيضان كما يقال : بيعان . وقيَّض الله فلاناً لفلان أي جاء به ومنه قوله تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ }{[48760]} و المراد بالقرناء النظراء من الشياطين حتى أضلوهم { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة «وَمَا خَلْفَهُمْ » من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث{[48761]} .

وقال الزجاج : زينوا ( لهم{[48762]} ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنَّه لا بعث ولا جنة ولا نار ، وما خلفهم من أمر الدنيا وأن الدنيا قديمة ، ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك{[48763]} .

وقيل{[48764]} : مابين أيديهم أعمالهم التي يعملونها وما خلفهم ما يعزمون{[48765]} أن يعملوه .

وقال ابن زيد : مابين أيديهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة ( وما بقي من أعمالهم الخسيسة ){[48766]} ) .

فصل

دلت هذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر ؛ لأنه تعالى قيَّض لهم قرناء فزينوا لهم الباطل ، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر .

وأجاب الجُبَّائيُّ بأن قال : لو أراد المعاصي لكانوا بفعلها{[48767]} مطيعين ؛ لأن الفاعل لما يريده منه غيره يجب أن يكون مطيعاً له . وأجاب ابن الخطيب : بأنه لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعاً له لوجب أن يكون الله مطيعاً لعباده إذا فعل ما أرادوه{[48768]} فهذا إلزام الشيء على نفسه وإن أردت غيره فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه هلا يصح أم لا{[48769]} .

قوله : «فِي أُمَمٍ » نصب على الحال من الضمير في «عَلَيْهِمْ » والمعنى كائنين في جملة أمَمٍ ، وهذا كقوّله ( شِعْراً ){[48770]} :

4364 إنّْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَة مَأْ *** فُوكاً فَفِي آخَرِين قَدْ اَفِكُوا{[48771]}

أي في جملة قوم آخرين . وقيل : في بمعنى «مع »{[48772]} .

فصل

احتجّ أهل السنة بأنه تعالى أخبر أن هؤلاء حق عليهم القول فلو لم يكونوا كفاراً لانقلب هذا الخبر الحق باطلاً ، وهذا العلم جهلاً ، وهذا الخبر الصدق كذباً ، وكل ذلك محال ، ومستلزم المحال فثبت أن صدور الإيمان وعدم صدور الكفر عنهم محال .


[48755]:انظر معالم البغوي 6/110.
[48756]:نقله في معاني القرآن وإعرابه 4/384.
[48757]:انظر اللسان قيض 3795 وغريب القرآن 389.
[48758]:اللسان المرجع السابق.
[48759]:هو إسماعيل بن حماد الجوهري الإمام أبو نصر الفارابي كان من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلما، إماما في اللغة والأدب ومن فرسان الكلام والأصول من مؤلفاته: "الصحاح" المشهور اختلف في وفاته فقيل سنة 400. وقيل: 393 هـ البغية 1/446.
[48760]:انظر الصحاح له قيض.
[48761]:قال بهذه المعاني البغوي 6/110.
[48762]:ما بين القوسين الكبيرين بتقديم وتأخير وتداخل لما بعده من الكلام في نسخة ب.
[48763]:قول الزجاج في معاني القرآن 4/384 زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها وما خلفهم وما يعزمون أن يعملوه.
[48764]:نقله الرازي وهو رأي الزجاج كما رأينا.
[48765]:في الرازي وما زعموا أنهم يعملونه.
[48766]:تكملة لرأي ابن زيد عن الرازي 27/119.
[48767]:في ب يفعلونها.
[48768]:في ب أراده.
[48769]:نقله الرازي في تفسيره 27/119.
[48770]:زيادة من ب.
[48771]:من المنسرح لعروة بن أذنية، ويروى: "إن تك عن أفضل المرءة". والمأفوك: المصروف عن الحق وهو يخاطب إنسانا قد عزف عن صنع الخير، قائلا إنك لست الوحيد في ذلك فغيرك كثير ممن لا يلتفتون إلى هذا الأشياء الحسنة. وشاهده: "ففي آخرين" حيث تعلق الجار والمجرور بحال محذوف أي فأنت كائنا أو مستقرا في جملة قوم آخرين. وانظر المحتسب 2/161 و267 والبحر المحيط 7/493 وإصلاح المنطق 23، ولسان العرب أفك 97 والكشاف 2/452، والدر المصون 4/730 والقرطبي 15/355 وديوانه 343.
[48772]:نقله أبو حيان في البحر المرجع السابق ولم يرتضه.