تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس}، يعني بني إسرائيل في الدنيا، {اتخذوني وأمي} مريم {إلهين من دون الله قال سبحانك}، فنزه الرب عز وجل، أن يكون أمرهم بذلك، فقال: {ما يكون لي}، يعني ما ينبغي لي {أن أقول ما ليس لي بحق}، يعني بعدل أن يعبدوا غيرك، {إن كنت قلته} لهم {فقد علمته تعلم ما في نفسي}، يعني ما كان مني وما يكون، {ولا أعلم ما في نفسك}، يقول: ولا أطلع على غيبك، وقال أيضا: ولا أعلم ما في علمك، ما كان منك وما يكون، {إنك أنت علام الغيوب}، يعني غيب ما كان وغيب ما يكون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يوم يجمع الله الرسل، فيقول ماذا أجبتم، "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ "وقيل: إن الله قال هذا القول لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا.
وقال آخرون: بل هذا خبر من الله تعالى ذكره عن أنه يقول لعيسى ذلك في القيامة.
فعلى هذا التأويل يجب أن يكون «وإذْ» بمعنى «وإذا»، كما قال في موضع آخر: "وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا"، بمعنى: يفزعون. وكأنّ من قال ذلك، وجّه تأويل الآية إلى:"فَمَنْ يَكْفُرْ بعدُ مِنْكُمْ فَإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لاَ أُعَذّبُهُ أَحَدا مِنَ الْعَالِمينَ "في الدنيا وأعذّبه أيضا في الآخرة،" إذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه".
وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك، قول من قال: إن الله تعالى قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه، وأن الخبر خبر عما مضى لعلتين: إحداهما: أن «إذ» إنما تصاحب في الأغلب من كلام العرب المستعمل بينها الماضي من الفعل، وإن كانت قد تدخلها أحيانا في موضع الخبر عما يحدث إذا عرف السامعون معناها وذلك غير فاشٍ ولا فصيح في كلامهم، فتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر الأعرف ما وجد إليه السبيل أولى من توجيهها إلى الأجهل الأنكر. والأخرى: أن عيسى لم يشكّ هو ولا أحد من الأنبياء أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه، فيجوز أن يتوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبا لربه تعالى: إن تعذّب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
فإن قال قائل: وما كان وجه سؤال الله عيسى: "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، وهو العالم بأن عيسى لم يقل ذلك؟ قيل: يحتمل ذلك وجهين من التأويل: أحدهما: تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيه، كما يقول القائل لآخر: أفعلت كذا وكذا؟ مما يعلم المقول له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له: «أفعلته» على وجه النهي عن فعله والتهديد له فيه. والآخر: إعلامه أن قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده وبدّلوا دينهم بعده، فيكون بذلك جامعا إعلامه حالهم بعده وتحذيره له قيله.
وأما تأويل الكلام: فإنه: "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين": معبودين تعبدونهما من دون الله؟ قال عيسى: تنزيها لك يا ربّ وتعظيما أن أفعل ذلك أو أتكلم به، "ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ" يقول: ليس لي أن أقول ذلك لأني عبد مخلوق وأمي أمة لك، فهل يكون للعبد والأمة ادّعاء ربوبية؟ "إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ": إنك لا يخفى عليك شيء، وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمرهم به.
"تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ": يقول تعالى ذكره مخبرا عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم أنه يبرأ إليه مما قالت فيه وفي أمه الكفرةُ من النصارى أن يكون دعاهم إليه أو أمرهم به، فقال:"سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَق إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ "ثم قال:"تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي "يقول: إنك يا ربّ لا يخفي عليك ما أضمرته نفسي مما لم أنطق به ولم أظهره بجوارحي، فكيف بما قد نطقت به وأظهرته بجوارحي؟ يقول: لو كنت قد قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله كنت قد علمته، لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما قد نطقت به." وَلا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ": ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه، لأني إنما أعلم من الأشياء ما أعلمتنيه، "إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ ": إنك أنت العالم بخفيات الأمور التي لا يطَّلعُ عليها سواك ولا يعلمُها غيرُك.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين: أحدهما: أنه تعالى سأله عن ذلك توبيخاً لمن ادعى ذلك عليه، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع. والثاني: أنه قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غُيِّرُوا بعده وادعوا عليه ما لم يقله. فإن قيل: فالنصارى لم تتخذ مريم إلهاً، فكيف قال تعالى فيهم ذلك؟ قيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشراً وإنما ولدت إِلَهاً لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك كالقائلين له. {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ} أي أن أدعي لنفسي ما ليس من شأنها، يعني أنني مربوب ولست برب، وعابد ولست بمعبود. وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين: أحدهما: تنزيهاً له عما أضيف إليه. والثاني: خضوعاً لعزته وخوفاً من سطوته. ثم قال: {إِن كُنتُ قُلتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فرد ذلك إلى علمه تعالى، وقد كان الله عالماً به أنه لم يقله، ولكن قاله تقريعاً لمن اتخذ عيسى إلهاً. {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} فيه وجهان. أحدهما: تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه. والثاني: تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. وفي النفس قولان: أحدهما: أنها عبارة عن الجملة كلها. والثاني: أنها عبارة عن بعضه، كقولهم قتل فلان نفسه. {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ} يحتمل وجهين: أحدهما: عالم السر والعلانية. والثاني: عالم ما كان وما يكون. وفي الفرق بين العالم والعلام وجهان: أحدهما: أن العلام الذي تقدم علمه، والعالم الذي حدث علمه. والثاني: أن العلام الذي يعلم ما كان وما يكون، والعالم الذي يعلم ما كان ولا يعلم ما يكون...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ثم قال: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي إني إن كنت مخصوصاً مِنْ قِبَلِكَ بالرسالة -وشرط النبوة العصمة- فكيف يجوز أن أفعل ما لا يجوز لي؟ ثم إني {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}: كان واثقاً بأن الحقَّ -سبحانه- عليم بنزاهته من تلك القالة. {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِى}: أي علمك محيطٌ بكل معلوم. {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي لا أطلع على غيبك إلا بقدر ما تُعَرِّفُني بإعلامك. {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ} الذي لا يخرج معلوم عن علمك، ولا مقدور عن حكمك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سبحانك} من أن يكون لك شريك {مَا يَكُونُ لِي} ما ينبغي لي {أَنْ أَقُولَ} قولاً لا يحق لي أن أقوله {فِي نَفْسِي} في قلبي: والمعنى: تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة وهو من فصيح الكلام وبينه، فقيل: {فِي نَفْسِكَ} لقوله في نفسي {إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} تقرير للجملتين معاً، لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، ولأن ما يعلمه علام الغيوب لا ينتهي إليه علم أحد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال ابن عباس وقتادة وجمهور الناس: هذا القول من الله إنما هو في يوم القيامة، يقول الله له على رؤوس الخلائق، فيرى الكفار تبرية منهم، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل 1.
و"قال" على هذا التأويل بمعنى يقول. ونزل الماضي موضع المستقبل دلالة على كون الأمر وثبوته، وقوله آخراً {وإن تغفر لهم} [المائدة: 118] معناه إن عذبت العالم كله فبحقك وإن غفرت وسبق ذلك في علمك فلأنك أهل لذلك لا معقب لحكمك ولا منازع لك، فيقول عيسى هذا على جهة التسليم والتعزي عنهم مع علمه بأنهم كفرة قد حتم عليهم العذاب، وليس المعنى أنه لا بد من أن تفعل أحد هذين الأمرين. بل قال هذا القول مع علمه بأن الله لا يغفر أن يشرك به. وفائدة هذا التوقيف على قول من قال إنه في يوم القيامة ظهور الذنب على الكفرة في عبادة عيسى وهو توقيف له يتقرر منه بيان ضلال الضالين.
وسبحانك معناه تنزيهاً لك عن أن يقال هذا وينطق به، وقوله {ما يكون لي أن أقول}...الآية. نفي يعضده دليل العقل، فهذا ممتنع عقلاً أن يكون لبشر محدث أن يدعي الألوهية، وقد تجيء هذه الصيغة فيما لا ينبغي ولا يحسن مع إمكانه، ومنه قول الصديق رضي الله عنه: ما كان لابن قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال {إن كنت قلته فقد علمته} فوفق الله عيسى عليه السلام لهذه الحجة البالغة، وقوله {تعلم ما في نفسي} بإحاطة الله به، وخص النفس بالذكر لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات، والمعنى: أن الله يعلم ما في نفس عيسى ويعلم كل أمره مما عسى ألا يكون في نفسه، وقوله: {ولا أعلم ما في نفسك} معناه: ولا أعلم ما عندك من المعلومات وما أحطت به. وذكر النفس هنا مقابلة لفظية في اللسان العربي يقتضيها الإيجاز، وهذا ينظر من طرف خفي إلى قوله {ومكروا ومكر الله} {الله يستهزئ بهم}، فتسمية العقوبة باسم الذنب إنما قاد إليها طلب المقابلة اللفظية إذ هي من فصيح الكلام وبارع العبارة، ثم أقر عليه السلام لله تعالى بأنه {علام الغيوب}، والمعنى ولا علم لي أنا بغيب فكيف تكون لي الألوهية؟.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ومن الأمر الجلي أن عيسى عليه السلام بعد أمر الله تعالى له بذكر هذه النعم يقوم في ذلك الجمع فيذكرها ويذكر المقصود من التذكير بها، وهو الثناء على المنعم بها بما يليق بجلاله، فيحمد ربه تعالى بمحامد تليق بذلك المقام في ذلك الجمع، فمن أنسب الأمور حينئذ سؤاله -وهو المحيط علماً بمكنونات الضمائر وخفيات السرائر إثر التهديد لمن يكفر- عما كفر به النصارى، فلذلك قال تعالى عاطفاً على قوله {إذا قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك} [المائدة: 110] {وإذ قال الله} أي بما له من صفات الجلال والجمال مشيراً إلى ما له من علو الرتبة بأداة النداء: {يا عيسى بن مريم} وذلك تحقيقاً لأنه عمل بمقتضى النعمة وتبكيتاً لمن ضل فيه من النصارى وإنكاراً عليهم {أأنت قلت للناس} أي الذين أرسلت إليهم من بني إسرائيل، وكأنه عبر بذلك لزيادة التوبيخ لهم، لكونهم اعتقدوا ذلك وفيهم الكتاب، فكأنه لا ناس غيرهم {اتخذوني} أي كلفوا أنفسكم خلاف ما تعتقدونه بالفطرة الأولى في الله بأن تأخذوني {وأمي إلهين}.
ولما كانت عبادة غير الله -ولو كانت على سبيل الشرك- مبطلة لعبادة الله، لأنه سبحانه أغنى الأغنياء، ولا يرضى الشرك إلا فقير، قال: {من دون الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له، فيكون المعنى: اتخذوا تألهنا سلماً تتوصلون به إلى الله، ويجوز أن يكون المعنى على المغايرة، ولا دخل حينئذ للمشاركة.
ولما كان من المعلوم لنا في غير موضع أنه لم يقل ذلك، صرح به هنا توبيخاً لمن أطراه، وتأكيداً لما عندنا من العلم، وتبجيلاً له صلى الله عليه وسلم بما يبدي من الجواب، وتفضيلاً بالإعلام بأنه لم يحد عن طريق الصواب، بل بذل الجهد في الوفاء بالعهد، وتقريعاً لمن قال ذلك عنه وهو يدعي حبه واتباعه عليه السلام وتخجيلاً لهم، فلما تشوفت لجوابه الأسماع وأصغت له الآذان، وكان في ذكره من الحكم ما تقدمت الإشارة إليه، ذكره سبحانه قائلاً: {قال} مفتتحاً بالتنزيه {سبحانك} أي لك التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص، ودل بالمضارع على أن هذا القول لا يزال ممنوعاً منه فقال: {ما يكون لي} أي ما ينبغي ولا يصح أصلاً {أن أقول} أي في وقت من الأوقات {ما ليس لي} وأغرق في النفي كما هو حق المقام فقال: {بحق}.
ولما بادر عليه السلام إعظاماً للمقام إلى الإشارة إلى نفي ما سئل عنه، أتبعه ما يدل على أنه كان يكفي في الجواب عنه: أنت أعلم، وإنما أجاب بما تقدم إشارة إلى أن هذا القول تكاد السماوات يتفطرن منه ومبادرة إلى تبكيت من ادّعاه له، فقال دالاً على أنه لم يقنع بما تضمن أعظم المدح لأن المقام للخضوع: {إن كنت قلته} أي مطلقاً للناس أو حدثت به نفسي {فقد علمته} وهو مبالغة في الأدب وإظهار الذلة وتفويض الأمر كله إلى رب العزة؛ ثم علل الإخبار بعلمه بما هو من خواص الإله فقال: {تعلم} ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات، وكان القول يطلق على النفس، فإذا انتفى انتفى اللساني، قال {ما في نفسي} أي وإن اجتهدت في إخفائه، فإنه خلقك، وما أنا له إلا آلة ووعاء، فكيف به إن كنت أظهرته.
ولما أثبت له سبحانه ذلك، نفاه عن نفسه توبيخاً لمن ادعى له الإلهية فقال مشاكلة: {ولا أعلم ما في نفسك} أي ما أخفيته عني من الأشياء؛ ثم علل الأمرين كليهما بقوله: {إنك أنت} أي وحدك لا شريك لك} علام الغيوب / {.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
اتصال هذه الآيات بما قبلها جلي ظاهر، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال} معطوف على قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك} الخ والمعنى: اذكر أيها الرسول للناس يوم يجمع الله الرسل فيسألهم جميعا عما أجابتهم به أممهم إذ يقول لعيسى اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك الخ وإذ يقول له بعد ذلك: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ أي يسأله: أقالوا هذا القول بأمر منك أم هم افتروه وابتدعوه من عند أنفسهم؟
ومعنى قوله: «من دون الله» كائنين من دون الله – أو حال كونكم متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة. فهذا التعبير يصدق باتخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى وهو الشرك، فإن عبادة الشريك المتخذ غير عبادة الله خالق السموات والأرض، سواء اعتقد المشرك أن هذا المتخذ ينفع ويضر بالاستقلال – وهو نادر – أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب، أو بالوساطة عند الله أي بحمله تعالى بما له التأثير والكرامة على النفع والضر، وهو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة كما حكى الله عنهم في قوله: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وقوله: {والذين اتخذوا من دونه أولياء: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] الخ – وقلما يوجد في البشر المتدينين من يتخذ إلها غير الله متجاوزا بعبادته الإيمان بالله الذي هو خالق الكون ومدبره، فإن الإيمان الفطري المغروس في غرائز البشر هو أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك أحد كنهها، فالموحدون أتباع الرسل يتوجهون بعباداتهم القولية والفعلية إلى صاحب هذه القوة الغيبية وحده، معتقدين أنه هو الفاعل المطلق وحده، وأن كل فعل ينسب إلى غيره فإنما ينسب إليه كذبا أو على أنه فعله بإقدار الله إياه عليه وتسخيره له بمقتضى سننه في خلقه، التي قام بها نظام الأسباب والمسببات بمشيئته وحكمته، والمشركون يتوجهون تارة إليه وتارة إلى بعض ما يستكبرون خصائصه من خلقه، كالشمس والنجم، وبعض مواليد الأرض، وتارة يتوجهون إليهما معا فيجعلون الثاني وسيلة إلى الأول.
ومن يشعر بسلطة غيبية تتجلى له في بعض الخلق فهو يخشى ضرها ويرجو نفعها، ولا يمتد نظر عقله ولا شعور قلبه إلى سلطة فوقها، ولا يتفكر في خلق هذه الأكوان، فهو أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، فلا يعد من العقلاء المستعدين لفهم الشرائع وحقائق الدين، على أنه يصدق عليه أنه اتخذ إلها من دون الله، ولكن هذا النوع من الاتخاذ غير مراد هنا لأن الذين شرعوا للناس عبادة المسيح وأمه كانوا من شعوب مرتقية حتى في وثنيتها، ولها فلسفة دقيقة فيها، وهم اليونان والرومان، وبعض اليهود المطلعين على تلك الفلسفة جد الاطلاع. وجملة القول أن اتخاذ إله من دون الله يراد به عبادة غيره سواء كانت خالصة لغيره أو شركة بينه وبين غيره، ولو بدعاء غيره والتوجه إليه ليكون واسطة عنده {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [البينة: 5].
أما اتخاذهم المسيح إلها فقد تقدم بيانه في مواضع من تفسير هذه السورة، وأما أمه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد قسطنطين، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التي حدثت بعد الإسلام بعدة قرون.
إن هذه العبادة التي توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح (عليهما السلام) منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء، واستغاثة واستشفاع، ومنها صيام ينسب إليها، ويسمى باسمها، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها، واعتقاد السلطة الغيبية لها، التي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع وتضر في الدنيا والآخرة بنفسها أو بواسطة ابنها، وقد صرحوا بوجوب العبادة لها، ولكن لا نعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة (إله) عليها، بل يسمونها (والدة الإله) ويصرح بعض فرقهم بأن ذلك حقيقة لا مجاز، والقرآن يقول هنا إنهم اتخذوها وابنها إلهين، والاتخاذ غير التسمية، فهو يصدق بالعبادة وهي واقعة قطعا، وبين في آية أخرى أنهم قالوا: {إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم} وذلك معنى آخر وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى في أهل الكتاب {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} أنهم اتبعوهم فيما يحلون ويحرمون لا أنهم سموهم أربابا.
وأول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب (السواعي) من كتب الروم الأرثوذكس، وقد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى (دير البلمند) وأنا في أول العهد بمعاهد التعليم. وطوائف الكاثوليك يصرحون بذلك ويفاخرون به. وقد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم (المشرق) بصورتها وبالنقوش الملونة، إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع أن مريم البتول «حبل بها بلا دنس الخطية» وأثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية، ومنه قول «الآب لويس شيخو» في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية «إن تعبد الكنيسة الأرمنية للبتول الطاهرة أم الله لأمر مشهور» وقوله: «قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتول المغبوطة أم الله».
من يسمع أو يقرأ سؤال الله تعالى لعيسى عن عبادة الله له ولأمه تتوق نفسه إلى معرفة جوابه عليه السلام، وتتوجه إلى السؤال والاستفهام، فلذلك جاء كأمثاله بأسلوب الاستئناف {قال سبحانك} بدأ عليه السلام جوابه بتنزيهه إلهه وربه عز وجل عن أن يكون معه إله، خلافا لمن قال إن التنزيه هنا إنما هو عن ذلك القول المسؤول عنه، فذهب إلى أن معنى الجملة: أنزهك تنزيها لائقا من أن أقول ذلك، أو من أن يقال ذلك في حقك، وظن أن هذا هو الذي يقتضيه سياق النظم، وستعلم ما فيه من الضعف، وأن ما اخترناه هو الحق.
وكلمة «سبحان» قيل إنها علم للتسبيح، وقيل إنها مصدر للتسبيح الثلاثي كالغفران، واستعملت مضافة باطراد إلا ما شذ في الشعر، والتسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، وهو من مادة السبح والسباحة وهي الذهاب السريع البعيد في البحر أو البر، ومن الثاني سبح الخيل وقالوا فرس سبوح (كصبور) ومثله التقديس من القدس وهو الذهاب البعيد في الأرض، ثم استعمل التسبيح والتقديس في التنزيه. قالوا: إن التسبيح يدل على الإبعاد ولكن عن كل شر وسوء، ولذا خص بتنزيه الله تعالى، ويقابله اللعن فهو يدل على الإبعاد ولكن عن كل خير، وكذلك لفظ الإبعاد والبعد غلب استعماله في مقام الشر؛ {ألا بعدا لعاد قوم هود} [هود: 60] {أولئك في ضلال بعيد} [إبراهيم: 14].
قال الراغب: والتسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله المر السريع في عبادة الله تعالى، وجعل ذلك في فعل الخير، كما جعل الإبعاد في الشر، فقيل أبعده الله، وجعل التسبيح عاما في العبادات قولا كان أو فعلا أو نية. اه ثم أورد الشواهد من الآيات على إطلاق التسبيح بمعنى الصلاة وبمعنى الدلالة على التنزيه كتسبيح السموات والأرض وما فيهما. والمراد بتسبيح النية العلم والاعتقاد. وفي كلمة «سبحانك» – ومثلها سبحان الله – مبالغة في هذا التنزيه أي مبالغة، إذ تدل على المبالغة بمادتها الدالة بمأخذها الاشتقاقي على البعد والايغال والسبح الطويل في هذا البحر المديد الطويل، وبصيغتها الأصلية وهي التسبيح – التي هي مسمى اسم المصدر (سبحان) ومدلوله – فإن التفعيل يدل على التكثير، ثم بالعدول عن هذه الصيغة التي هي مصدر إلى الاسم الذي جعل علما عليها – على قول ابن جني – فإن اسم المصدر يدل على تأكيد معنى المصدر وثباته وحقيقته، لأن مدلوله هو لفظ المصدر، فانتقال الذهن منه إلى المصدر ومن المصدر إلى المعنى بمنزلة تكرار لفظ المصدر، بل هو أبلغ منه وأدل على إرادة الحقيقة دون التجوز، ولم أر أحدا سبقني إلى بيان هذا على كونه في غاية الظهور عند من تأمله (ومن شدة الظهور الخفاء).
قلنا إن عيسى عليه السلام بدأ جوابه بتنزيه الله عز وجل عن أن يكون معه إله، فأثبت بهذا أنه على علم يقيني ضروري بأن الله تعالى منزه في ذاته وصفاته عن أن يشارك في ألوهيته، وانتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق، عن قول ما ليس له بحق، فقال: {ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} أي ليس من شأني ولا مما يصح وقوعه مني أن أقول قولا ليس لي أدنى حق أن أقوله، لأنك أيدتني بالعصمة من مثل هذا الباطل. ولا يخفى أن هذا أبلغ في البراءة من نفي ذلك القول وإنكاره إنكارا مجردا، لأن نفي الشأن يستلزم نفي الفعل نفيا مؤيدا بالدليل، فهو بتنزيه الله تعالى أولا أثبت أن ذلك القول الذي سئل عنه – تمهيدا لإقامة الحجة على من اتخذوه وأمه إلهين – قول باطل ليس فيه شائبة من الحق، ثم قفى على ذلك بأنه ليس من شأنه ولا مما يقع من مثله أن يقول ما ليس له بحق، فنتيجة المقدمتين الثابتتين أنه لم يقل ذلك القول.
ثم أكد هذه النتيجة بحجة أخرى قاطعة على سبيل الترقي من البرهان الأدنى الراجع إلى نفسه وهو عصمته عليه السلام، إلى البرهان الأعلى الراجع إلى ربه العلام، فقال: {إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} أي إن كان ذلك القول قد وقع مني فرضا فقد علمته، لأن علمك محيط بكل شيء، تعلم ما أسره وأخفيه في نفسي، فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه فعلمه مني غيري؟ ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا تهديني إليها بنظر واستدلال كسبي، إلا ما تظهرني عليه بوحي وهبي. قيل إن إضافة كلمة نفس إلى الله تعالى من باب المشاكلة، على أنها وردت بغير مقابل يسوغ ذلك كقوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام: 54] – {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28] وقيل إنها بمعنى الذات، والمهم فهم المعنى من هذا الإطلاق. وتنزيه الله تعالى عن مشابهة نفسه لأنفس خلقه معروف بالنقل والعقل، فاستشكال إطلاق الوحي للأسماء مع هذا ضرب من الجهل {إنك أنت علام الغيوب} أي إنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك لأن علمك المحيط بكل ما كان وما يكون وما هو كائن علم ذاتي لا منتزع من صور المعلومات، ولا مستفاد بتلقين ولا بنظر واستدلال، وإنما علم غيرك منك لا من ذاته، فإما أن يناله بما آتيته من المشاعر أو العقل، وإما أن يتلقاه مما تهبه من الإلهام والوحي، أي وقد علمت أني لم أقل ذلك القول. وشرط «أن» لا يقتضي الوقوع.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...وإن الله -سبحانه- ليعلم ماذا قال عيسى للناس. ولكنه الاستجواب الهائل الرهيب في اليوم العظيم الموهوب: الاستجواب الذي يقصد به إلى غير المسؤول؛ ولكن في صورته هذه وفي الإجابة عليه ما يزيد من بشاعة موقف المؤلهين لهذا العبد الصالح الكريم.. إنها الكبيرة التي لا يطيق بشر عادي أن يقذف بها.. أن يدعي الألوهية وهو يعلم أنه عبد.. فكيف برسول من أولي العزم؟ كيف بعيسى بن مريم؛ وقد أسلف الله له هذه النعم كلها بعد ما اصطفاه بالرسالة وقبل ما اصطفاه؟ كيف به يواجه استجوابا عن ادعاء الألوهية، وهو العبد الصالح المستقيم؟ من أجل ذلك كان الجواب الواجف الراجف الخاشع المنيب.. يبدأ بالتسبيح والتنزيه: (قال: سبحانك!). ويسرع إلى التبرؤ المطلق من أن يكون من شأنه هذا القول أصلا: (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق). ويستشهد بذات الله سبحانه على براءته؛ مع التصاغر أمام الله وبيان خصائص عبوديته وخصائص ألوهية ربه: (إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك. إنك أنت علام الغيوب)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا مبدأ تقريع النصارى بعد أن فُرغ من تقريع اليهود من قوله: {إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك} [المائدة: 110] إلى هنا. وتقريع النصارى هو المقصود من هذه الآيات كما تقدّم عند قوله تعالى: {يوم يجمع الله الرسل} [المائدة: 109] الآية، فالاستفهام هنا كالاستفهام في قوله تعالى للرسل {ماذا أجبتم} [المائدة: 109] والله يعلم أنّ عيسى لم يقل ذلك ولكن أريد إعلان كذب من كفر من النصارى.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {أأنت قلت للناس} يدلّ على أنّ الاستفهام متوجّه إلى تخصيصه بالخبر دون غيره مع أنّ الخبر حاصل لا محالة. فقول قائلين: اتّخِذوا عيسى وأمّه إلهين، واقع. وإنّما ألقي الاستفهام لعيسى أهو الذي قال لهم ذلك تعريضاً بالإرهاب والوعيد بتوجّه عقوبة ذلك إلى من قال هذا القول إن تنصّل منه عيسى فيعلم أحبارهم الذين اخترعوا هذا القول أنّهم المراد بذلك.
والمعنى أنّه إن لم يكن هو قائل ذلك فلا عذر لمن قاله لأنّهم زعموا أنّهم يتّبعون أقوال عيسى وتعاليمه، فلو كان هو القائل لقال: اتّخذوني وأمّي، ولذلك جاء التعبير بهذين اللفظين في الآية. والمراد بالناس أهل دينه.
وقوله: {من دون الله} متعلّق بِ {اتّخذوني}، وحرف {من} صلة وتوكيد. وكلمة {دون} اسم للمكان المجاوز، ويكثر أن يكون مكاناً مجازياً مراداً به المغايرة، فتكون بمعنى (سوى). وانظر ما تقدّم آنفاً عند قوله تعالى: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً} [المائدة: 76]. والمعنى اتّخذوني وأمّي إلهين سوى الله.
وقد شاع هذا في استعمال القرآن قال تعالى: {ومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحبّ الله} [البقرة: 165]، وقال: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]، وغير ذلك من الآيات التي خوطب بها المشركون مع أنّهم أشركوا مع الله غيره ولم ينكروا إلهيّة الله.
وذُكر هذا المتعلّق إلزاماً لهم بشناعة إثبات إلهية لغير الله لأنّ النصارى لمّا ادّعوا حلول الله في ذات عيسى توزّعت الإلهية وبطلت الوحدانية. وقد تقدّم بيان هذا المذهب عند تفسير قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم} في هذه السورة (17).
وجواب عيسى عليه السلام بقوله: {سبحانك} تنزيه لله تعالى عن مضمون تلك المقالة.
وكانت المبادرة بتنزيه الله تعالى أهمّ من تبرئته نفسه، على أنّها مقدّمة للتبرّي لأنّه إذا كان ينزّه الله عن ذلك فلا جرم أنّه لا يأمر به أحداً. وتقدّم الكلام على {سبحانك} في قوله تعالى: {قالوا سبحانك لا علم لنا} في سورة البقرة (32).
وبرّأ نفسه فقال: {ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق}؛ فجملة {ما يكون لي أن أقول} مستأنفة لأنّها جواب السؤال. وجملة {سبحانك} تمهيد.
وقوله: {ما يكون لي} مبالغة في التبرئة من ذلك، أي ما يوجد لديّ قول ما ليس لي بحقّ، فاللام في قوله: {ما يكون لي} للاستحقاق، أي ما يوجد حقّ أن أقول. وذلك أبلغ من لم أقله لأنّه نفى أن يوجد استحقاقه ذلك القول.
والباء في قوله {بحقّ} زائدة في خبر {ليس} لتأكيد النفي الذي دلّت عليه {ليس}. واللام في قوله {ليس لي بحقّ} متعلّقة بلفظ {حقّ} على رأي المحقّقين من النحاة أنّه يجوز تقديم المتعلّق على متعلّقه المجرور بحرف الجرّ. وقدّم الجارّ والمجرور للتنصيص على أنّه ظرف لغو متعلّق {بحقّ} لئلا يتوهّم أنّه ظرف مستقرّ صفة ل {حقّ} حتى يفهم منه أنّه نفى كون ذلك حقّاً له ولكنّه حقّ لغيره الذين قالوه وكفروا به، وللمبادرة بما يدلّ على تنصّله من ذلك بأنّه ليس له. وقد أفاد الكلام تأكيدَ كون ذلك ليس حقّاً له بطريق المذهب الكلامي لأنّه نفى أن يباح له أن يقول ما لا يحقّ له، فعُلم أنّ ذلك ليس حقّاً له وأنّه لم يقله لأجل كونه كذلك. فهذا تأكيد في غاية البلاغة والتفنّن.
ثم ارتقى في التبريء فقال: {إن كنت قلته فقد علمته}، فالجملة مستأنفة لأنّها دليل وحجّة لمضمون الجملة التي قبلها، فكانت كالبيان فلذلك فصلت. والضمير المنصوب في {قلته} عائد إلى الكلام المتقدّم. ونصْب القول للمفرد إذا كان في معنى الجملة شائع كقوله تعالى: {كلاّ إنّها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100]، فاستدلّ على انتفاء أن يقوله بأنّ الله يعلم أنّه لم يقله، وذلك لأنّه يتحقّق أنّه لم يقله، فلذلك أحال على علم الله تعالى. وهذا كقول العرب: يعلم الله أني لم أفعل...
... والنفس تطلق على العقل وعلى ما به الإنسان، إنسان وهي الروح الإنساني، وتطلق على الذات. والمعنى هنا: تعلم ما أعتقده، أي تعلم ما أعلمه لأنّ النفس مقرّ العلوم في المتعارف.
وقوله: {ولا أعلم ما في نفسك} اعتراض نشأ عن {تعلم ما في نفسي} لقصد الجمع بين الأمرين في الوقت الواحد وفي كلّ حال.
وذلك مبالغة في التنزيه وليس له أثر في التبريء، والتنصّل، فلذلك تكون الواو اعتراضية.
وإضافة النفس إلى اسم الجلالة هنا بمعنى العلم الذي لم يُطلع عليه غيره، أي ولا أعلم ما تعلمه، أي ممّا انفردت بعمله..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقال: (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) وفي هذا تأكيد للنفي من وجوه ثلاثة: أولها: أنه نفى أن يكون شأنه ذلك القول فلا يمكن أن يصدر عنه، فهو لم ينف القول فقط، بل نفى احتمال أن يقول ونفى احتمال القول أقوى في الدلالة من نفى المقولة. ثانيهما: أن كلامه يدل على أن ذلك غير معقول في ذاته فكيف يقول. ثالثهما: أنه أثبت أنه مستحيل قوله لأنه ليس بحق: (إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) هذه الجملة تأكيد لنفى ما سئل عنه وهو أنه قال: (اتخذوني وأمي إلهين من دون الله)...وقد أكد علم الله تعالى للغيب بأربعة مؤكدات: أولها ب (إن) المؤكدة. ثانيها بالضمير المؤكد في قوله تعالى: (أنت). وثالثها بصيغة المبالغة التي تعد بالنسبة للعبيد ولكنها حقيقة فوق ما نتصور بالنسبة لله تعالى العليم الحكيم، وإن هذا اقصى ما تتسع له لغتنا القاصرة عن التعبير عن الحقائق الإلهية. رابعها جمع الغيوب فلم يفرد الغيب، بل قال الغيوب بكل أنواعها ما وقع في الماضي وما يقع في المستقبل وما يتعلق بالكائنات كلها الروحاني منها والمادي والكل خلقه سبحانه، من طيور في الهواء واسماك في الماء، وملائكة وجن وإنس وهكذا كل ما هو غيب في ذاته، أو بالنسبة للبشر أو لطواف منهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
..حوار الله وعيسى (ع) يوم القيامة:
وهذا أسلوبٌ من أساليب الحوار القرآني الَّذي يُراد من خلاله إعطاء الفكرة صفة القصة الّتي يدور حولها الحوار من أجل التأكيد على بعض الجوانب الحيّة فيها، كوسيلةٍ من وسائل إثباتها بطريقةٍ حاسمةٍ أو نفيها كذلك. وقد جاءت هذه الآيات لتعالج ما حدث للنصارى الَّذين ينتسبون إلى عيسى (ع)، في اعتقادهم بألوهيّة السيِّد المسيح وعبادتهم له ولوالدته، فتؤكد أنَّ عيسى (ع) غريب عن الموضوع كلياً، فليس له دخل في ذلك من قريب أو من بعيد، بل كانت رسالته على النقيض من ذلك، لأنَّها قامت على توحيد الله في العقيدة والعبادة، فليس لأيّ بشر الحقّ في أن يعبد أحداً من دون الله مهما كانت قيمته، وليس لأيّ إنسان أن يعتقد في نفسه العظمة بالمستوى الَّذي يتحوّل فيه إلى إله أو ما يشبه الإله، فضلاً عن أن يرى في ذاته تجسيداً للإله، أو يرى النَّاس فيه ذلك. وقد أدار الله الموضوع بطريقة الحوار بينه وبين عيسى (ع) في يوم القيامة، على الطريقة القرآنيّة الّتي تتحدث عن المستقبل بصيغة الماضي بالنظر إلى أنَّه محقّق الثبوت. فقد قال الله له وهو يستعرض له الانحرافات الّتي حدثت من بعده: {أَأنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} إنَّ النَّاس تعبدك وتتقرب إليك، وتقدسك وتتخذك إلهاً، كما أنَّهم يعبدون أمك فيخشعون لها ويخضعون لتماثيلها، كما يفعلون مع الله، فكأنَّهم يتخذونها إلهاً من دون الله...