الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡـٔٗا مَّذۡكُورًا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الإنسان مكية.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

مدنية عند الجمهور. قال ابن عباس ومقاتل والكلبي ويحيى بن سلام: هي مكية. وقال آخرون فيها مكي من قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا} إلى آخرها، وما تقدم مدني.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وتسمى سورة الأبرار.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

سورة الدهر.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

في صحيح مسلم، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة "الم تَنزيلُ " السجدة، و " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ".

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

وتسمى:هل أتى، والأمشاج، والدهر.

مقصودها:

ترهيب الإنسان بما دل عليه آخر القيامة من العرض على الملك الديان بتعذيب العاصي في النيران وتنعيم المطيع في الجنان بعد جمع الخلائق كلها؛ الإنس والملائكة والجان وغير ذلك من الحيوان، ويكون لهم مواقف طوال وأهوال وزلزال، لكل منها أعظم شأن، وأدل ما فيها على ذلك الإنسان بتأمل آيته وتدبر مبدئه وغايته...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

في بعض الروايات أن هذه السورة مدنية، ولكنها مكية؛ ومكيتها ظاهرة جدا، في موضوعها وفي سياقها، وفي سماتها كلها. لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها. بل نحن نلمح من سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي.. تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة، وصور العذاب الغليظ، كما يشي به توجيه الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى الصبر لحكم ربه، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور؛ مما كان يتنزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة، مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول [صلى الله عليه وسلم] على الحق الذي نزل عليه، وعدم الميل إلى ما يدهنون به.. كما جاء في سورة القلم، وفي سورة المزمل، وفي سورة المدثر، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة.. واحتمال أن هذه السورة مدنية -في نظرنا- هو احتمال ضعيف جدا، يمكن عدم اعتباره!

والسورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة، والالتجاء إلى الله، وابتغاء رضاه، وتذكر نعمته، والإحساس بفضله، واتقاء عذابه، واليقظة لابتلائه، وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء..

وهي تبدأ بلمسة رفيقة للقلب البشري: أين كان قبل أن يكون؟ من الذي أوجده؟ ومن الذي جعله شيئا مذكورا في هذا الوجود؟ بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟)..

تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة أصله ونشأته، وحكمة الله في خلقه، وتزويده بطاقاته ومداركه: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا)..

ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق، وعونه على الهدى، وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا)..

وبعد هذه اللمسات الثلاث الموحية، وما تثيره في القلب من تفكير عميق، ونظرة إلى الوراء. ثم نظرة إلى الأمام، ثم التحرج والتدبر عند اختيار الطريق.. بعد هذه اللمسات الثلاث تأخذ السورة في الهتاف للإنسان وهو على مفرق الطريق لتحذيره من طريق النار.. وترغيبه في طريق الجنة، بكل صور الترغيب، وبكل هواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم: إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا. إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا. عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا..

وقبل أن تمضي في عرض صور المتاع ترسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ الرغيد: (يوفون بالنذر، ويخافون يوما كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام -على حبه- مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا)..

ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف، الخائفين من اليوم العبوس القمطرير، الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام، يبتغون وجه الله وحده، لا يريدون شكورا من أحد، إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير!

تعرض جزاء هؤلاء الخائفين الوجلين المطعمين المؤثرين. فإذا هو الأمن والرخاء والنعيم اللين الرغيد:

فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نضرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا. متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا. ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا. ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير، قوارير من فضة قدروها تقديرا. ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا، عينا فيها تسمى سلسبيلا. ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا. وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا. عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق، وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا.

فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود اتجه الخطاب إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لتثبيته على الدعوة -في وجه الإعراض والكفر والتكذيب- وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر؛ والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا. فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا. واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا)..

ثم تذكيرهم باليوم الثقيل الذي لا يحسبون حسابه؛ والذي يخافه الأبرار ويتقونه، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله، الذي خلقهم ومنحهم ما هم فيه من القوة، وهو قادر على الذهاب بهم، والإتيان بقوم آخرين؛ لولا تفضله عليهم بالبقاء، لتمضي مشيئة الابتلاء. ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء: إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا. نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا. إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا. وما تشاؤون إلا أن يشاء الله، إن الله كان عليما حكيما. يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما..

تبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة، على أساس الابتلاء، وتختم ببيان عاقبة الابتلاء، كما اقتضت المشيئة منذ الابتداء. فتوحي بذلك البدء وهذا الختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير، لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره. غير واع ولا مدرك، وهو مخلوق ليبتلى، وموهوب نعمة الإدراك لينجح في الابتلاء.

وبين المطلع والختام ترد أطول صورة قرآنية لمشاهد النعيم. أو من أطولها إذا اعتبرنا ما جاء في سورة الواقعة من صور النعيم، وهو نعيم حسي في جملته، ومعه القبول والتكريم، وهو بتفصيله هذا وحسيته يوحي بمكيته، حيث كان القوم قريبي عهد بالجاهلية، شديدي التعلق بمتاع الحواس، يبهرهم هذا اللون ويعجبهم، ويثير تطلعهم ورغبتهم. وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلع صنوف من الناس، ويصلح جزاء لهم يرضي أعمق رغباتهم. والله أعلم بخلقه ما يصلح لهم وما يصلح قلوبهم، وما يليق بهم كذلك وفق تكوينهم وشعورهم. وهناك ما هو أعلى منه وأرق كالذي جاء في سورة القيامة: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).. والله أعلم بما يصلح للعباد في كل حال.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سميت في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة هل أتى على الإنسان.

روى البخاري في باب القراءة في الفجر من صحيحه عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ب ألم السجدة وهل أتى على الإنسان.

واقتصر صاحب الإتقان على تسمية هذه السورة {سورة الإنسان} عند ذكر السور المكية والمدنية، ولم يذكرها في عداد السور التي لها أكثر من اسم.

وتسمى سورة الدهر في كثير من المصاحف.

وقال الخفاجي تسمى {سورة الأمشاج}، لوقوع لفظ الأمشاج فيها ولم يقع في غيرها من القرآن.

وذكر الطبرسي: أنها تسمى سورة الأبرار، لأن فيها ذكر نعيم الأبرار وذكرهم بهذا اللفظ ولم أره لتغييره. فهذه خمسة أسماء لهذه السورة.

واختلف فيها فقيل هي مكية، وقيل مدنية، وقيل بعضها مكي وبعضها مدني، فعن أبن عباس وابن أبي طلحة وقتادة ومقاتل: هي مكية، وهو قول ابن مسعود لأنه كذلك رتبها في مصحفه فيما رواه أبو داود كما سيأتي قريبا. وعلى هذا اقتصر معظم التفاسير ونسبه الخفاجي إلى الجمهور.

وروى مجاهد عن أبن عباس: أنها مدنية، وهو قول جابر بن زيد وحكي عن قتادة أيضا. وقال الحسن وعكرمة والكلبي: هي مدنية إلا قوله {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} إلى آخرها، أو قوله {فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم} الخ. ولم يذكر هؤلاء أن تلك الآيات من أية سورة كانت تعد في مكة إلى أن نزلت سورة الإنسان بالمدينة وهذا غريب. ولم يعينوا أنه في أية سورة كان مقروءا.

والأصح أنها مكية فإن أسلوبها ومعانيها جارية على سنن السور المكية ولا أحسب الباعث على عدها في المدني إلا ما روي من أن آية {يطعمون الطعام على حبه} نزلت في إطعام علي أبن أبي طالب بالمدينة مسكينا ليلة، ويتيما أخرى، وأسيرا أخرى، ولم يكن للمسلمين أسرى بمكة حملا للفظ أسير على معنى أسير الحرب، أو ما روي أنه نزل في أبي الدحداح وهو أنصاري، وكثيرا ما حملوا نزول الآية على مثل تنطبق عليها معانيها فعبروا عنها بأسباب نزول كما بيناه في المقدمة الخامسة...

أغراضها:

التذكير بأن كل إنسان كون بعد أن لم يكن فكيف يقضي باستحالة إعادة تكوينه بعد عدمه.

وإثبات أن الإنسان محقوق بإفراد الله بالعبادة شكرا لخالقه ومحذر من الإشراك به.

وإثبات الجزاء على الحلين مع شيء من وصف ذلك الجزاء بحالتيه والإطناب في وصف جزاء الشاكرين.

وأدمج في خلال ذلك الامتنان على الناس بنعمة الإيجاد ونعمة الإدراك والامتنان بما أعطيه الإنسان من التمييز بين الخير والشر وإرشاده إلى الخير بواسطة الرسل فمن الناس من شكر نعمة الله ومنهم من كفرها فعبد غيره.

وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على القيام بأعباء الرسالة والصبر على ما يلحقه في ذلك، والتحذير من أن يلين للكافرين، والإشارة إلى أن الاصطفاء للرسالة نعمة عظيمة يستحق الله الشكر عليها بالاضطلاع بها اصطفاه له وبإقبال على عبادته.

والأمر بالإقبال على ذكر الله والصلاة في أوقات من النهار.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

محتوى السورة:

هذه السورة رغم قصرها، فانَّ لها محتويات عميقة ومتنوعة وجامعة، ويمكن بنظرة واحدة تقسيمها إلى خمسة أقسام:

القسم الأوّل: يتحدث عن إيجاد الإنسان وخلقه من نطفة أمشاج (مختلطة)، وكذلك عن هدايته وحرية إرادته.

القسم الثّاني: يدور الحديث فيه عن جزاء الأبرار والصالحين، وسبب النزول.

القسم الثّالث: تكرار الحديث عن دلائل استحقاق الصالحين لذلك الثواب في عبارات قصيرة ومؤثرة.

القسم الرّابع: يشير إلى أهمية القرآن وسبيل إجراء أحكامه ومنهج تربية النفس الشاق.

القسم الخامس: جاء الحديث فيه عن حاكمية المشيئة الإلهية (مع حاكمية الإنسان).

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

قوله: {هل أتى على الإنسان} يعني قد أتى على الإنسان {حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} يعني به آدم لا يذكر، وذلك أن الله خلق السماوات وأهلها، والأرض وما فيها من الجن قبل أن يخلق آدم، عليه السلام.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

الآية الأولى: قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} [الإنسان: 1].

- مكي: قال مالك: الحين هنا ما مضى قبل ذلك من أمر الدهر كله، ومن قبل أن يخلق آدم.

- ابن رشد: سئل مالك عن قول الله عز وجل: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} أهو ما بين أن حمل به إلى أن وضعته أمه؟ فقال: لا، ولكن ما مضى قبل ذلك من الدهر كله وقبل أن يخلق آدم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ": قد أتى على الإنسان. وهل في هذا الموضع خبر لا جحد، وذلك كقول القائل لآخر يقرّره: هل أكرمتك؟ وقد أكرمه، أو هل زرتك؟ وقد زاره. وقد تكون جحدا في غير هذا الموضع، وذلك كقول القائل لآخر: هل يفعل مثل هذا أحد؟ بمعنى: أنه لا يفعل ذلك أحد.

والإنسان الذي قال جلّ ثناؤه في هذا الموضع "هَل أتَى عَلى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدّهْرِ": هو آدم صلى الله عليه وسلم.

" حِينٌ مِنَ الدّهْرِ": اختلف أهل التأويل في قدر هذا الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع؛

فقال بعضهم: هو أربعون سنة.

وقالوا: مكثت طينة آدم مصوّرة لا تنفخ فيها الرّوح أربعين عاما، فذلك قدر الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع قالوا: ولذلك قيل: "هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئا مَذْكُورا" لأنه أتى عليه وهو جسم مصوّر لم تنفخ فيه الروح أربعون عاما، فكان شيئا، غير أنه لم يكن شيئا مذكورا.

قالوا: ومعنى قوله: "لَمْ يَكُنْ شَيْئا مَذْكُورا": لم يكن شيئا له نباهة ولا رفعة، ولا شرف، إنما كان طينا لازبا وحمأ مسنونا.

وقال آخرون: لا حدّ للحين في هذا الموضع، وقد يدخل هذا القول من أن الله أخبَر أنه أتى على الإنسان حين من الدهر، وغير مفهوم في الكلام أن يقال: أتى على الإنسان حين قبل أن يوجد، وقبل أن يكون شيئا، وإذا أُريد ذلك قيل: أتى حين قبل أن يُخلق، ولم يقل أتى عليه. وأما الدهر في هذا الموضع، فلا حدّ له يوقف عليه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

لقائل أن يقول: كيف قال: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} فهو إن لم يكن شيئا في ذلك الوقت، لم يكن إنسانا؟ وإذا لم يكن إنسانا لم يأت عليه حين من الدهر، وهو إنسان؟.

وإن كان في ذلك الوقت مخلوقا فقد صار مذكورا، وإذا صار مذكورا فقد أتى عليه حين من الدهر، وهو مذكور، فما معناه؟ قيل: فيه أوجه:

أحدها: أن يكون قوله عز وجل: {هل أتى على الإنسان} أي على ما منه الإنسان، وهو الأصل الذي خلق منه آدم عليه السلام وهو التراب، فقال: {لم يكن شيئا مذكورا} على الاستصغار لذلك الأصل، إذ التراب لا يذكر في الأشياء المذكورة. وإلى هذا يذهب أبو بكر الأصم.

والوجه الثاني: قيل: قد أتى على الخلق حين من الدهر لم يكن الإنسان فيه شيئا مذكورا في تلك الخلائق.

والوجه الثالث: قد أتى عليه حين من الدهر، ولم يكن مذكورا في الممتحنين، وهذا في كل إنسان، لأنه ما لم يبلغ لم يجز عليه الخطاب، ولم يكن مذكورا في الممتحنين.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

هل بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة، والأصل: أهل... فالمعنى: أقد أتى؟ على التقرير والتقريب جميعاً، أي: أتى على الإنسان قبل زمان قريب.

{حِينٌ مّنَ الدهر لَمْ يَكُن} فيه {شَيْئاً مَّذْكُوراً}: أي كان شيئاً منسياً غير مذكور؛ نطفة في الأصلاب. والمراد بالإنسان: جنس بني آدم، بدليل قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} [الإنسان: 2]؟

{حين من الدهر} طائفة من الزمن الطويل الممتد.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{هل} في كلام العرب قد يجيء بمعنى «قد» حكاه سيبويه، لكنها لا تخلو من تقرير وبابها المشهور الاستفهام المحض والتقرير أحياناً. فقال ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى «قد»، و {الإنسان} يراد به آدم عليه السلام، و «الحين»: هي المدة التي بقي طيناً قبل أن ينفخ فيه الروح؛ أي أنه شيء ولم يكن مذكوراً منوهاً به في العالم وفي حالة العدم المحض قبل {لم يكن شيئاً} ولا {مذكوراً}، وقال أكثر المتأولين: {هل} تقرير، و {الإنسان} اسم الجنس، أي إذا تأمل كل إنسان نفسه علم بأنه قد مر {حين من الدهر} عظيم {لم يكن} هو فيه {شيئاً مذكوراً}، أي لم يكن موجوداً، وقد يسمى الموجود {شيئاً} فهو مذكور بهذا الوجه، و «الحين» هنا: المدة من الزمن غير محدودة تقع للقليل والكثير، وإنما تحتاج إلى تحديد الحين في الإيمان، فمن حلف أن لا يكلم أخاه حيناً، فذهب بعض الفقهاء إلى أن الحين سنة، وقال بعضهم: ستة أشهر، والقوي في هذا أن {الإنسان} اسم جنس وأن الآية جعلت عبرة لكل أحد من الناس ليعلم أن الصانع له قادر على إعادته.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

تلاه أول هذه بالاستفهام الإنكاري على ما يقطع معه بأن لا يترك سدى، فقال مفصلاً ما له سبحانه عليه من نعمة الإيجاد والإعداد والإمداد والإسعاد: {هل أتى} أي بوجه من الوجوه {على الإنسان} أي هذا النوع الذي شغله عما يراد به ويراد له لعظم مقداره في نفس الأمر الأنس بنفسه والإعجاب بظاهر حسه والنسيان لما بعد حلول رمسه {حين من الدهر} أي مقدار محدود وإن قل من الزمان الممتد الغير المحدود حال كونه {لم يكن} أي في ذلك الحين كوناً راسخاً {شيئاً مذكوراً} أي ذكراً له اعتبار ظاهر في الملأ الأعلى وغيره حتى أنه يكون متهاوناً به غير منظور إليه ليجوز أن يكون سدى بلا أمر ونهي، ثم يذهب عدماً بالكلية ليس الأمر كذلك، بل ما أتى عليه شيء من ذلك بعد خلقه إلا وهو فيه شيء مذكور، وذلك أن الدهر هو الزمان، والزمان هو مقدار حركة الفلك -كما نقله الرازي في كتاب اللوامع في سورة "يس " عند قوله تعالى " ولا الليل سابق النهار " فإنه قال: الزمان ابتداؤه من حركات السماء فإن الزمان مقدار حركات الفلك- انتهى وآدم عليه السلام تم الخلق بتمام خلقه في آخر يوم الجمعة أول جمعة كانت، وكانت طينته -قبل ذلك بمدة مخمرة هو فيها بين الروح والجسد... فالاستفهام على بابه وهو إنكاري، وليست " هل " بمعنى " قد " إلا إن قدرت قبلها الهمزة، وكان الاستفهام إنكارياً لينتفي مضمون الكلام، والمراد أنه هو المراد من العالم، فحينئذ ما خلق الزمان إلا لأجله، فهو أشرف الخلائق، وهذا أدل دليل على بعثه للجزاء، فهل يجوز مع ذلك أن يترك سدى فيفنى المظروف الذي هو المقصود بالذات، ويبقى الظرف الذي ما خلق إلا صواناً له، والذي يدل على ذلك من أقوال السلف أنه روي أن رجلاً قرأها عند ابن مسعود رضي الله عنه فقال: يا ليت ذلك لم يكن. وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} [الإنسان: 1] تعريف الإنسان بحاله وابتداء أمره ليعلم أن لا طريق له للكبر واعتقاد السيادة لنفسه، وأن لا يغلطه ما اكتنفه من الألطاف الربانية والاعتناء الإلهي والتكرمة فيعتقد أنه يستوجب ذلك ويستحقه

أوجدهم بعد أن لم يكونوا كيف يمتنع عليه إحياؤهم بعد موتهم؟ والمراد بالإنسان جنس بني آدم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذا الاستفهام في مطلع السورة إنما هو للتقرير؛ ولكن وروده في هذه الصيغة كأنما ليسأل الإنسان نفسه: ألا يعرف أنه أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟ ثم ألا يتدبر هذه الحقيقة ويتملاها؟ ثم ألا يفعل تدبرها في نفسه شيئا من الشعور باليد التي دفعته إلى مسرح الحياة، وسلطت عليه النور، وجعلته شيئا مذكورا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا؟ إنها إيحاءات كثيرة تنبض من وراء صيغة الاستفهام في هذا المقام.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وفي مطلع هذه السورة الكريمة يعود الحديث من جديد إلى موضوع الإنسان الذي لم يخلقه الله سدى، ويبين كتاب الله أنه قد مضى زمن طويل على العالم دون أن يكون فيه للإنسان وجود ولا ذكر، ويشير إلى أن وجوده فيه إنما هو طارئ عليه، لحكمة إلهية اقتضت إيجاده وإمداده، وهي حكمة الابتلاء والتكليف والخلافة عن الله في الأرض.