ثم أقسم تعالى بنفسه على صحة هذا القول والخبر وشبهه في اليقين به بالنطق من الإنسان ، وهو عنده في غاية الوضوح ، ولا يمكن أن يقع فيه اللبس ما يقع في الرؤية والسمع ، بل النطق أشد تخلصاً من هذه واختلف القراء في قوله : { مثل ما } ، فقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر «مثلُ » بالرفع ، ورويت عن الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عنهم .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأهل المدينة وجل الناس : «مثلَ » بالنصب ، فوجه الأولى الرفع على النعت ، وجاز نعت النكرة بهذا الذي قد أضيف إلى المعرفة من حرث كان لفظ مثل شائعاً عاماً لوجوه كثيرة ، فهو لا تعرفه الإضافة إلى معرفة ، لأنك إذا قلت : رأيت مثل زيد فلم تعرف شيئاً ، لأن وجوه المماثلة كثيرة ، فلما بقي الشياع جرى عليه حكم النكرة فنعتت به النكرة . و { ما } زائدة تعطي تأكيداً ، وإضافة «مثل » هي إلى قوله : { إنكم } . ووجه قراءة النصب أحد ثلاثة وجوه : إما أن يكون مثل قد بني لما أضيف إلى غير متمكن وهو في موضع رفع على الصفة { لحق } ولحقه البناء ، لأن المضاف إليه قد يكسب المضاف بعض صفته كالتأنيث في قوله :
شرقت صدر القناة . . . {[10594]}
ونحوه ، وكالتعريف في غلام زيد إلى غير ذلك ، ويجري «مثلَ » حينئذ مجرى { عذاب يومئذ }{[10595]} [ المعارج : 11 ] على قراءة من فتح الميم ، ومنه قول الشاعر [ النابغة الذبياني ] : [ الطويل ]
على حين عاتبت المشيب على الصبا . . . {[10596]}
لم يمنع الشرب منها غير أن هتفت . . . {[10597]}
ف «غير » فاعلة ولكنه فتحها . والوجه الثاني وهو قول المازني إن «مثلَ » بني لكونه مع { ما } شيئاً واحداً ، وتجيء على هذا في مضمار ويحما وأينما ، ومنه قول حميد بن ثور : [ الطويل ]
ألا هيما مما لقيت وهيما . . . وويهاً لمن لم يدر ما هن ويحما{[10598]}
فلولا البناء وجب أن يكون منوناً ، وكذلك قول الشاعر [ حسان بن ثابت ] : [ الطويل ]
فأكرم بنا أماً وأكرم بنا ابنما . . . {[10599]}
والوجه الثالث : أن تنصب «مثل » على الحال من قوله : { لحق } وهي حال من نكرة وفيه خلاف لكن جوز ذلك الجرمي ، وأما غيره فيراه حالاً من الذكر{[10600]} المرفوع في قوله { لحق } لأن التقدير { لحق } هو ، وفي هذا نظر . والنطق في هذه الآية : الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني . وروي أن بعض الأعراب الفصحاء سمع هذه الآية فقال : من أحوج الكريم إلى أن يحلف ؟ والحكاية وقعت في كتاب الثعلبي وسبل الخيرات متممة عن الأصمعي ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «قاتل الله قوماً أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه »{[10601]} وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لو فر أحدكم من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت »{[10602]} وأحاديث الرزق والأشعار فيه كثيرة .
بعد أن أكد الكلام بالقسم ب { الذاريات } [ الذاريات : 1 ] وما عطف عليها فرع على ذلك زيادة تأكيد بالقسم بخالق السماء والأرض على أن ما يوعدون حق فهو عطف على الكلام السابق ومناسبته قوله : { وما توعدون } [ الذاريات : 22 ] .
وإظهار اسم السماء والأرض دون ذكر ضميرهما لإدخال المهابة في نفوس السامعين بعظمة الربّ سبحانه .
وضمير { إنه لحقّ } عائد إلى { ما توعدون } [ الذاريات : 22 ] . وهذا من ردّ العجز على المصدر لأنه رد على قوله أول السورة { إن ما توعدون لصادق } [ الذاريات : 5 ] وانتهى الغرض .
وقوله : { مثل ما أنكم تنطقون } زيادة تقرير لوقوع ما أوعدوه بأن شبه بشيء معلوم كالضرورة لا امتراء في وقوعه وهو كون المخاطبين ينطقون . وهذا نظير قولهم : كما أن قبلَ اليوم أمس ، أو كما أن بعد اليوم غداً . وهو من التمثيل بالأمور المحسوسة ، ومنه تمثيل سرعة الوصول لقرب المكان في قول زهير :
وقولهم : مثل ما أنك ها هنا ، وقولهم : كما أنك ترى وتسمع .
وقرأ الجمهور { مثلَ } بالنصب على أنه صفة حال محذوف قصد منه التأكيد . والتقدير : إنه لحق حقاً مثل ما أنكم تنطقون . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف مرفوعاً على الصفة { لحق } صفة أريد بها التشبيه .
و { ما } الواقعة بعد { مثل } زائدة للتوكيد . وأردفت ب ( أنَّ ) المفيدة للتأكيد تقوية لتحقيق حقية ما يوعدون .
واجتلب المضارع في { تنطقون } دون أن يقال : نطقكم ، يفيد التشبيه بنطقهم المتجدد وهو أقوى في الوقوع لأنه محسوس .