معاني القرآن للفراء - الفراء  
{فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقّٞ مِّثۡلَ مَآ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ} (23)

وقوله : { فَوَرَبِّ السَّماء وَالأَرْضِ } .

أقسم عز وجل بنفسه : أن الذي قلت لكم لَحق مثل ما أنكم تنطقون . وقد يقول القائل : كيف اجتمعت ما ، وأنّ وقد يكتفي بإحداهما من الأخرى ؟ وفيه وجهان : أحدهما : أن العرب تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا اختلف لفظهما ، فمن الأَسماء قول الشاعر :

من النّفر اللائي الذين إذا همُ *** يَهاب اللئامُ حلقهَ البابِ قَعْقَعوا

فجمع بين اللائي والذين ، وأحدهما مجزئ من الآخر .

وأما في الأدوات فقوله :

ما إِنْ رأيتُ ولا سمعت به *** كاليوم طالى أيْنُق جُرْب

فجمع بين ما ، وبين إن ، وهما جحدان أحدهما يجزى من الآخر .

وأما الوجه الآخر ، فإن المعنى لو أفرد بما لكان كأنّ المنطق في نفسه حق لا كذب : ولم يُرَد به ذلك . إنما أرادوا أنه لحق كما حقٌّ أن الآدمي ناطق .

ألا ترى أن قولك أحقٌّ منطقك معناه : أحقٌّ هو أم كذب ؟ وأن قولك : أحقٌّ أنك تنطق ؟ معناه : أللانسان النطق لا لغيره . فأدخلتَ أنَّ ليُفرَق بها بين المعنيين ، وهذا أعجب الوجهين إليَّ .

وقد رفع عاصم والأعمش ( مثلَ ) ونصبها أهل الحجاز والحسن ، فمن رفعها جعلها نعتا للحق ومن نصبها جعلها في مذهب المصدر كقولك : إنه لحق حقا . وإن العرب لتنصبها إذا رفع بها الاسم فيقولون : مثلَ من عبد الله ؟ ويقولون : عبد الله [ 185/ا ] مثلَك ، وأنت مثلَه . وعلة النصب فيها أن الكاف قد تكون داخلة عليها ؛ فتُنصب إذا ألقيت الكاف . فإن قال قائل : أفيجوز أن تقول : زيدٌ الأسدَ شدةً ، فتنصب الأسد إذا ألقيت الكاف ؟ قلت : لا ؛ وذلك أن مثلَ تؤدى عن الكاف ؛ والأسدُ لا يؤدى عنها ؛ ألا ترى قول الشاعر :

وزعتُ بكالهراوة أعوجِيٍّ *** إذا وَنتِ الرِّكاب جرى وثابا

أن الكاف قد أجزأت من مثل ، وأن العرب تجمع بينهما ؛ فيقولون : زيد كمثلك ، وقال الله جل وعز : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ، واجتماعهما دليل على أن معناهما واحد كما أخبرتك في ما وإن ولا وغيره .