الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقّٞ مِّثۡلَ مَآ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ} (23)

والضميرُ في " إنَّه لحقٌّ " : إمَّا للقرآنِ ، وإمَّا للدينِ ، وإمَّا لليوم في قولِه : { وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 6 ] { يَوْمَ هُم } [ الذاريات : 13 ] { يَوْمُ الدِّينِ } [ الذاريات : 12 ] وإمَّا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .

قوله { مِثْلَ مَا } الأخَوان وأبو بكر " مثلُ " بالرفع ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه خبرٌ ثانٍ مستقلٌّ كالأولِ . والثاني : أنه مع ما قبله خبرٌ واحدٌ نحو : هذا حُلْوٌ حامِضٌ ، نقلهما أبو البقاء . والثالث : أنَّه نعتٌ ل " حق " و " ما " مزيدةٌ على ثلاثةِ الأوجهِ . و " أنَّكم " مضافٌ إليه أي : لَحَقٌّ مثلُ نُطْقِكم . ولا يَضُرُّ تقديرُ إضافتِها لمعرفةٍ لأنها لا تتعر‍َّفُ بذلك لإِبهامِها .

والباقون بالنصبِ وفيه أوجهٌ ، أشهرُها : أنه نعتٌ ل " حَقٌّ " كما في القراءةِ الأولى ، وإنما بُنِي الاسم لإِضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ ، كما بناه الآخرُ في قولِه :

فتَداعَى مَنْخِراه بدَمٍ *** مثلَ ما أثمرَ حَمَّاضُ الجَبَلْ

بفتح " مثلَ " مع أنها نعتٌ ل " دم " وكما بُنِيَتْ " غيرَ " في قوله :

لم يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَن نَطَقَتْ *** حمامةٌ في غُصونٍ ذاتِ أَوْقالِ

" غيرَ " فاعلُ " يَمْنع " فبناها على الفتح لإِضافتِها إلى " أنْ نَطَقَتْ " وقد تقدَّم في قراءةِ { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] بالفتحِ ما يُغْني عن تقريرِ مثل هذا .

الثاني : أنَّ " مثلَ " رُكِّب مع " ما " حتى صارا شيئاً واحداً . قال المازني : " ومثلُه : وَيْحَما وهَيَّما وأَيْنَما " وأنشد لحميد بن ثور :

ألا هَيَّما مِمَّا لَقِيْتُ وهَيَّما *** ووَيْحاً لِمَنْ لم يَدْرِ ما هُنَّ وَيْحَما

قال : فلولا البناءُ لكان منوَّناً . وأنشد أيضاً :

4108 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فأكْرِمْ بنا أُمَّاً وأكْرِمْ بنا ابْنَما

وهذا الذي ذكرَه ذهب إليه بعضُ النَّحْويين ، وأَنْشد :

أثورَ ما أَصِيْدُكم أم ثورَيْنْ *** أم هذه الجَمَّاءَ ذاتَ القرنَيْنْ

وأمَّا ما أنشدَه مِنْ قولِه : " وأكرِمْ بنا ابنَما " فليس هذا من الباب لأنَّ هذا " ابن " زِيْدَتْ عليه الميم . وإذا زِيْدَتْ عليه الميمُ جُعِلَتِ النونُ تابعةً للميم في الحركاتِ على الفصيح ، فتقول : هذا ابنمٌ ، ورأيت ابنَماً ، ومررت بابنِم ، فتُجْري حركاتِ الإِعراب على الميم وتَتْبَعُها النونُ . " وابنما " في البيت منصوبٌ على التمييز ، فالفتحُ لأجلِ النصبِ لا للبناءِ ، وليس هذه " ما " الزائدةَ ، بل الميمُ وحدَها زائدةٌ ، والألفُ بدلٌ من التنوين .

الثالث : أنَّه منصوبٌ على الظرفِ ، وهو قولُ الكوفيين ، ويجيزون " زيدٌ مثلَك " بالفتح . ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن ، ولكن بعبارةٍ مُشْكِلةٍ فقال : " ويُقْرَأ بالفتح ، وفيه وجهان ، أحدُهما : هو مُعْرَبٌ . ثم في نصبِه أوجهٌ " . ثم قال : " أو على أنه مرفوعُ الموضعِ ، ولكنَّه فُتحَ كما فُتح الظرفُ في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] على قولِ الأخفَشِ " . ثم قال : " والوجه الثاني هو مبنيٌّ " . وقال أبو عبيد : " بعضُ العربِ يَجْعَلُ " مثلَ " نصباً أبداً فيقولون : هذا رجلٌ مثلَك " .

الرابع : أنه منصوب على إسقاطِ الجارِّ ، وهو كافُ التشبيهِ . وقال الفراء : " العربُ تَنْصِبُها إذا رُفِعَ بها الاسمُ ، يعني المبتدأ ، فيقولون : مثلَ مَنْ عبدُ الله ؟ وعبدُ الله مثلَك ، وأنت مثلَه ؛ لأنَّ الكافَ قد تكونُ داخلةً عليها فتُنْصَبُ إذا أَلْقَيْتَ الكافَ " . قلت : وفي هذا نظرٌ ، أيُّ حاجةٍ إلى تقدير دخولِ الكافِ و " مثْل " تفيدُ فائدتَها ؟ وكأنه لمَّا رأى الكافَ قد دخلَتْ عليها في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] قال ذلك .

الخامس : أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : لحَقٌّ حقاً مثلَ نُطْقِكم . السادس : أنه حالٌ من الضميرِ في " لَحَقٌّ " لأنه قد كَثُرَ الوصفُ بهذا المصدرِ ، حتى جَرَى مَجْرى الأوصافِ المشتقةِ ، والعاملُ فيها " حَقٌّ " . السابع : أنه حالٌ من نفس " حقٌّ " وإن كان نكرةً . وقد نَصَّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازِه ، وتابعه أبو عمرَ على ذلك .

و " ما " هذه في مثلِ هذا التركيبِ نحو قولِهم : " هذا حَقٌّ كما أنَّك ههنا " لا يجوز حَذْفُها فلا يُقال : " هذا حَقٌّ كأنَّك هنا " . نَصَّ على ذلك الخليل رحمه الله تعالى فإذا جعلْتَ " مثلَ " معربةً كانت " ما " مزيدةً و " أنكم " في محلِّ خفضٍ بالإِضافةِ كما تقدَّم ، وإذا جَعَلْتَها مبنيَّة : إمَّا للتركيب ، وإمَّا لإِضافتِها إلى غيرِ متمكِّنٍ جاز في " ما " هذه وجهان الزيادةُ وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً/ كذا قال أبو البقاء . وفيه نظرٌ لعدم الوصفِ هنا . فإنْ قال : هو محذوفٌ فالأصلُ عَدَمُه . وأيضاً فنصُّوا على أن هذه الصفةَ لا تُحْذَفُ لإِبهامِ موصوفِها ، وأمَّا " أنَّكم تَنْطِقون " فيجوز أَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ إنْ كانَتْ " ما " مزيدةً ، وإنْ كانت نكرةً كان في موضعِ نصبٍ بإِضمارِ أعني أو رفعٍ بإضمار مبتدأ .