فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقّٞ مِّثۡلَ مَآ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ} (23)

{ وفي الأرض آيات للموقنين( 20 )وفي أنفسكم أفلا تبصرون( 21 )وفي السماء رزقكم وما توعدون( 22 ) فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون( 23 ) }

حكمة الله تعالى تتجلى في كل ما يحيط بنا ، ويعتبر ويتعظ بآياتها من تزيده الشواهد والعبر يقينا ، أما الغافل ، أو المماري المجادل بالباطل ، أو الجاحد الضال الجاهل ، فأولئك لا ينتفعون بآيات ولا ببرهان : { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر . وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر . ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر . حكمة بالغة فما تغني النذر }{[5476]} .

أودع الله البارئ المصور أرضنا عجائب لا نحصيها ، فطبيعة تكوينها ليست المتناهية الثقل ، ولا بالبالغة نهاية الخفة والشفافية ، وبذلك تثبت في حيزها وتستفيد من الشمس والقمر حولها ؛ ولم يجعلها في غاية الصلابة ولا في غاية اللين ، وبهذا يمكن الاستقرار عليها ، وشق الأنهار وحفر الآبار فيها ، وإقامة الأبنية منها وعليها ، وانصداعها بالنبات وانشقاقها عنه ؛ ثم انظر إلى آثار رحمة الله في البركات التي تملأ جنباتها : بشر يخافون ربهم ويطيعونه ، ويسبحونه ويقدسونه ، يباهي الله بهم ملائكته ، سخر لهم الأرض فمنها أصلهم ، وفيها قبورهم ومنها بعثهم ونشورهم ، ومن برها وبحرها ومختلف أقطارها أقواتهم وثيابهم وحليهم ، وعلى سطحها ومن جوفها أرزاقهم ، ومن أنعامها وزرعها غذاؤهم ، وعلى دوابها وفلكها ومراكبها أثقالهم وارتحالهم ، وفي حرها وقرّها وليلها ونهارها صلاح لهم ؛ ثم يدلنا الكتاب الكريم على وحدانية العزيز الغفار ، ويتجاوز بنا مجرد الأخبار- وإنها لحق من الله الحق الفاعل المختار-ويحضنا على النظر والاعتبار ، والتدبر في الصنعة الربانية لتهدينا إلى الصانع الواحد القهار : { فلينظر الإنسان مم خلق }{[5477]} ، وفينا معاشر الآدميين علامات ودلائل تشهد بأننا من خلق رب رحيم قادر عليم ؛ فنحن- وقد فضلنا على سائر خلقه- لا نملك حتى بعد أن يمنحنا السمع والبصر والعقل والقوة أن نُحْدِث لأنفسنا خيرا أو ندفع عنها ضرا-إلا أن يشاء ربنا-فكيف نستطيع أن نوجد أنفسنا أو غيرنا ؟ ! .

لقد أثبت العقل والنقل عجزنا عن مضاهاة خلق ربنا ولو في خلق حبة أو ذرة أو أهون دابة { . . . لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له . . . }{[5478]} ، وفي أصل نشأتنا آيات تدل على تفرد ربنا بالخلق والتدبير ؛ فأبونا آدم من تراب خالطه ماء فإذا هو طين صلصال وحمأ مسنون ، يسويه المولى سبحانه وينفخ فيه من روحه فيتناسل منه ومن زوجه بشر منبثون منتشرون متفرقون ؛ وجعل تناسلنا من ماء مهين بين رجل وامرأة يُقِرُّ الله تعالى منه ما يشاء في الأرحام ، ويرعاه خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث- ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة- : { ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأنه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين }{[5479]} . ويتولنا على امتداد حياتنا ، فبعد تصوير الأجنة في الأرحام يتزايد الفضل والإنعام فنقوى بعد ضعف ، ونوهب التمييز والإدراك : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون }{[5480]} ، ويمنحنا مولانا المظهر السويّ : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم }{[5481]} ؛ وعلى ما أودع أجسامنا من أتقن التراكيب{[5482]} ، ففي الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل ، وفي الأذن عشرة آلاف خلية سمعية ، والقرآن يذكر بجانب من تلك النعم : { ألم نجعل له عينين . ولسانا وشفتين } سورة البلد . الآيتان 9 ، 8 .

{ وفي السماء رزقكم } في جهة السماء السحاب الذي يحمل المطر وفيه حياة العباد والبلاد ، -والنبات والحيوان-أو أسباب رزقكم من النيّرين والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مبادي الرزق . . أو التجوز بجعل وجود الأسباب فيها كوجود المسبب-{[5483]} .

[ وقيل : وفي السماء تقدير رزقكم ، وما فيه لكم مكتوب في أم الكتاب . . { وما توعدون } قال مجاهد يعني من خير وشر . . { فورب السماء والأرض إنه لحق } أكد ما أخبرهم به من البعث ، وما خلق في السماء من الرزق ، وأقسم عليه بأنه لحق ، ثم أكده بقوله : { مثل ما أنكم تنطقون } وخص النطق من بين سائر الحواس لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه . . وقال بعض الحكماء : كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره ، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره . ]{[5484]}


[5476]:سورة القمر. الآيات من 2إلى 5.
[5477]:سورة الطارق. الآية 5.
[5478]:سورة الحج. من الآية 73.
[5479]:سورة المؤمنون الآيتان 14،13.
[5480]:سورة النحل من الآية 78.
[5481]:سورة التين الآية 4.
[5482]:يقول صاحب كتاب [الإسلام يتحدى]: في كل عين مائة وثلاثون مليون من الخلايا الملتقطة للضوء، وباللسان ثلاثة آلاف من شعيرات التذوق لكل منها شعيرة عصبية خاصة متصلة بالمخ ويضيف: بالجلد ثلاثون ألفا من الخلايا الملتقطة للحرارة، وربع مليون من الخلايا الملتقطة للبرودة، وثلاثة ملايين من الغدد العرقية أهـ. وقديما قال الشاعر الحكيم: وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر.
[5483]:مما أورد الألوسي.
[5484]:مما أورد القرطبي.