الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقّٞ مِّثۡلَ مَآ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ} (23)

ثم أقسم سبحانه بنفسه على صِحَّةِ هذا القول والخبر ، وشَبَّهَهُ في اليقين به بالنُّطْقِ من الإنسان ، وهو عنده في غاية الوضوح ، و«ما » زائدة تعطي تأكيداً ، والنطق في هذه الآية هو الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني ، ورُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الأعراب الفصحاء سَمِعَ هذه الآيةَ فقال : مَنْ أَحْوَجَ الكريمَ إلى أَنْ يحلف ؟ ! والحكاية بتمامها في كتاب الثعلبيِّ ، " وسبل الخيرات " ، ورُوِيَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " قَاتَلَ اللَّهُ قَوْماً ، أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ " ورَوَى أبو سعيد الخُدَرِيُّ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لَوْ فَرَّ أَحَدُكُمْ مِنْ رِزْقِهِ لَتَبِعَهُ كَمَا يَتْبَعُهُ المَوْتُ " وأحاديث الرزق كثيرة ، ومن كتاب «القصد إلى اللَّه سبحانه » للْمُحَاسِبِيِّ : قال : قلتُ لشيخنا : من أين وقع الاضطرابُ في القلوب ، وقد جاءها الضمانُ من اللَّه عز وجل ؟ قال : من وجهين .

أحدهما : قِلَّةُ المعرفة بحُسْنِ الظَّنِ ، وإلقاءِ التُّهَمِ عن اللَّه عز وجل .

والوجه الثاني : أنْ يعارضها خوفُ الفَوْت ، فتستجيبَ النفسُ للداعي ، ويَضْعُفَ اليقينُ ، ويَعْدِمَ الصبرُ ، فيظهرَ الجَزَعُ .

قلتُ : شيءٌ غيرُ هذا ؟ قال : نعم ، إنَّ اللَّه عز وجل وَعَدَ الأرزاق ، وضَمِنَ ، وغَيَّبَ الأوقات ؛ ليختبرَ أهلَ العقول ، ولولا ذلك لكان كُلُّ المؤمنين راضين صابرين متوكِّلِين ، لكنَّ اللَّه عز وجل أعلمهم أَنَّهُ رازقهم ، وحَلَفَ لهم على ذلك ، وغَيَّبَ عنهم أوقاتَ العطاء ، فَمِنْ ها هنا عُرِفَ الخَاصّ من العامِّ ، وتفاوت العبادُ في الصبر ، والرضا ، واليقين ، والتوكل ، والسكون ، فمنهم كما علمتَ ساكنٌ ، ومنهم متحرك ، ومنهم راض ، ومنهم ساخط ، ومنهم جَزِعٌ ، فعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين ، وعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في اليقين تفاوتوا في السكون والرضا والصبر والتوكل . اه .