اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقّٞ مِّثۡلَ مَآ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ} (23)

قوله : { فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } الضمير إما للقرآن ، وإما «للدِّين » ، وإما «الْيَوْم » في قوله : { وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } و«يَوْمَ هُمْ » و«يَوْم الدِّينِ » ، وإما للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ودخلت الفاء بمعنى إنَّ ما توعدون لحق بالبرهان المبين ثم بالقسم واليمين أو للعطف على قوله : «والذَّاريات » مع إعادة المقسم عليه لوقوع الفَصْل{[52786]} .

وأقسم أولاً بالمخلوقات وههنا بربها تَرَقِّياً من الأدنى إلى الأعلى{[52787]} .

قوله : «مِثْلَ مَا » قرأ الأخوانِ وأبو بكر مِثْلُ{[52788]} بالرفع ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر ثانٍ مستقلٌّ كالأَول .

الثاني : أنه مع ما قبله خبرٌ واحد ، كقولك : هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ نقلهما أبو البقاء{[52789]} .

والثالث : أنه نعت لحَقٍّ{[52790]} و«ما » مزيدة على الأوجه الثلاثة و«أَنَّكُمْ » مضاف إليه ، أي لَحَقٌّ مِثْلُ نُطْقِكُم ، ولا يضر تقدير إضافتها لمعرفة ، لأنها لا تتعرف بذلك لإبْهَامِهَا{[52791]} .

والباقون بالنصب ، وفيه أوجه :

أشهرها : أنه نعت «لحَقّ » أيضاً كما في القراءة الأولى ، وإنما بني الاسم لإضافته إلى غير متمكن{[52792]} ، كما بناه الآخر في قوله :

فَتَدَاعَى{[52793]} مِنْخَرَاهُ بِدَمٍ *** مِثْلَ مَا أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ{[52794]}

بفتح «مثل » مع أنها نعت لِ «دَمٍ » وكما بنيت «غَيْرُ » في قوله - ( رحمةُ الله عليه ){[52795]} - :

لَمْ يَمْنَع الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ *** حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذَاتِ أَوْقَالِ{[52796]}

«غير » فاعل يمنع ، فبناها على الفتح لإضافتها إلى «أَنْ نَطَقَتْ » وقد تقدم في قراءة : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ }{[52797]} [ الأنعام : 94 ] بالفتح ما يُغْنِي عن تقرير مِثْلِ هذا .

الثاني : أن «مِثْلَ » ركّب مع «ما » حتى صارا شيئاً واحداً{[52798]} ، قال المازني : ومثله : وَيْحَمَا ، وهَيَّمَا وَأيْنَمَا ، وأنشد لحُمَيْد بن ثَوْر - ( رحمة اللَّهِ عليه رَحْمةً واسعةً - ){[52799]} :

أَلاَ هَيَّمَا مِمَّا لَقِيتُ وَهَيَّمَا *** وَوَيْحاً لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا هُنَّ وَيْحَمَا{[52800]}

قال : فلولا البناء لكان منوناً .

وأنشد أيضاً :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَأَكْرِمْ بِنَا أباً وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا{[52801]}

وهو الذي ذهب إليه بعض النحويين{[52802]} وأنشد :

أَثَوْرَ مَا أَصِيدُكُمْ أَمْ ثَوْرَيْنْ *** أَمْ هَذِه الْجَمَّاءُ ذَاتُ القَرنَيْنْ{[52803]}

وأما ما{[52804]} أنشده من قوله : «وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا » فليس من هذا الباب ، لأن هذا «ابنٌ » زيدت عليه الميم وإذا زدتَ عليه الميم جعلت النون تابعةً للميم في الحركات على الفصيح ، فتقول : هذا ابْنُمٌ ، ورأيت ابْنَماً ومررت بابْنِمٍ ، فتجري حركات الإعراب على الميم ويتبعها النون .

وابنما في البيت منصوب على التمييز فالفتح لأجل النصب لا البناء ، وليس هذه «ما » الزائدة ، بل الميم وحدها زائدة ، والألف بدل من التنوين{[52805]} .

الثالث : أنه منصوب على الظَّرْف ، وهو قول الكوفيين{[52806]} .

ويجيزون : زَيْدٌ مِثْلَكَ بالفتح ، ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن ولكن بعبارة مُشْكِلَةٍ فقال : ويقرأ بالفتح ، وفيه وجهان :

أحدهما : هو معرب{[52807]} ، ثم في نصبه أوجه ، ثم قال : أو على أنه مرفوع الموضع ، ولكنه فتح كما فتح الظرف في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } على قول الأخفش ، ثم قال : والوجه الثاني : هو مبنيّ{[52808]} .

وقال أبو عُبَيْد : بعض العرب يجعل «مِثْلَ » نصباً أبداً ، فيقولون : هَذَا رَجُلٌ مِثْلَكَ{[52809]} .

الرابع : أنه منصوب على إسقاط الجارِّ وهو كافُ التشبيه .

وقال الفراء : العرب تنصبها إذا رفع بها الاسم يعني المبتدأ فيقولون : مِثْلَ مَنْ عَبْد الله ؟ وعَبْد الله مثْلَكَ وأنْتَ مِثْلَه لأن الكاف قد تكون داخلة عليها فتُنْصَب إذا ألقيت الكاف{[52810]} .

قال شهاب الدين : وفي هذا نظر ، أيّ حاجة إلى تقدير دخول الكاف و«مِثْلُ » تفيد فائدتها ؟ وكأنه لما رأى أن الكاف قد دخلت عليها في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } قال ذلك{[52811]} .

الخامس : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي لحَقّ حَقًّا مِثْلَ نُطْقِكُمْ{[52812]} .

السادس : أنه حال من الضمير في «لَحَقٌّ » ؛ لأنه قد كثر الوصف بهذا المصدر حتى جرى مَجْرى الأوصاف المشتقة ، والعامل فيها «حَقٌّ »{[52813]} .

السابع : أنه حال من نفس «حَقّ » وإن كان نكرة{[52814]} . وقد نصَّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازه ، وتابعه أبو عمرو على ذلك .

و«ما » هذه في مثل هذا التركيب نحو قولهم : «هَذَا حَقٌّ » ، كما أنك ههنا لا تجوّز حذفها ، فلا يقال : هذا حق كأنك ههنا . نص على ذلك الخليلُ - رحمه الله{[52815]} - .

فإذا جعلت «مِثْلَ » معربة كانت «ما » مزيدة و«أَنَّكُمْ » في محل خفض بالإضافة كما تقدم{[52816]} . وإذا جعلتها مبنية إما للتركيب ، وإما لإضافتها إلى غير متمكن جاز في «ما » هذه وجهان : الزيادة وأن تكون نكرة موصوفة ، ( كذا ){[52817]} قال أبو البَقَاءِ{[52818]} .

وفيه نظر ، لعدم الوصف هنا ، فإن قال : هو محذوف فالأصل عَدمهُ ، وأيضاً فنصوا{[52819]} على أن هذه الصفة لا تحذف ، لإبهام مَوْصُوفِها . وأما «أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ » فيجوز أن يكون مجروراً بالإضافة إن كانت ( «ما » ){[52820]} مزيدة ، وإن كانت نكرة كان في موضع نصب بإضمار أَعْنِي ، أو رفع بإضمار مبتدأ{[52821]} .

فصل

المعنى : { فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } أي ما ذكرت من أمر الرزق لَحق كَمِثْلِ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ فتقولون : لا إله إلاَّ الله .

وقيل : شَبَّه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نُطْق الآدمي كقولك : إنَّه لَحَقٌّ كما أنت ههنا وإنه لحق كما أنك تتكلم والمعنى أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة . قال بعض الحكماء : كما أنَّ كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نَفْسه الذي قُسِمَ له ، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره{[52822]} .

وقيل : معناه إن القرآن لحق تكلم به الملك النازل من السماء مثل ما تتكلمون{[52823]} .


[52786]:بالمعنى هذا كله من تفسير الأستاذ الإمام فخر الدين الرازي 28/209 و208.
[52787]:المرجع السابق.
[52788]:قراءة سبعية متواترة، ذكرها صاحب الكشف 2/287 وصاحب السبعة 209، وابن خالويه في الحجة 332 وانظر الإتحاف 399، والتبيان 1180، والكشاف 4/17، والبحر 8/136.
[52789]:التبيان 1180.
[52790]:السابق والبحر 8/136 والمشكل 2/324 الكشاف 4/17.
[52791]:إذ الإضافة غير محضة، ولأن الأشياء التي يقع التماثل بها بين المتماثلين كثيرة، فلم يتعرف بإضافته إلى "أنكم" لذلك، فلما لم يتعرف حسُن وصف "لحقٌّ" به، كما تقول: "مررت برجل مثلك" وانظر: المشكل السابق والكشف 2/287، ومعاني الفراء 3/85 والبيان 2/391 والتبيان 1180 والقرطبي 17/43.
[52792]:قاله مكي في الكشف 2/287 و288 والزمخشري في الكشاف 4/17 وأبو حيان في البحر 8/136 ومكي أيضا في المشكل 2/323 وأبو البقاء في التبيان 1180.
[52793]:وروي "وتَداعَى" بالواو.
[52794]:من الرّمل وهو من إنشاد ابن برّي كما نقله وصاحب اللسان "حمض" 998. والحُمّاض: بقلة برية تنبُت أيام الربيع في مسايل الماء ولها ثمرة حمراء وهي ذكور البقول. والبيت تشبيه شيء بشيء بجامع الحمرة. والشاهد: جعل "ما ومثل" اسماً واحدا على الفتح مع أنها نعت لدم وهو قول المازنيّ –رحمه الله- وانظر: مجمع البيان 9/233 والسراج المنير 4/98 والكشف 2/287 و288، والأشباه والنظائر 3/210 والمعاني الكبير لابن قتيبة 1/594.
[52795]:زيادة من الأصل.
[52796]:من البسيط لأبي قيس بن الأسلت، والبيت رواية كرواية الكتاب 2/329 وقد روي البيت برفع وفتح غير كما روي في اللسان: سحوق بدل غصون، و"هتفت" بدل نطقت. و"منها" من الوجناء وهي الناقة في بيت قبله والسّحوق: ما طال من شجر الدوم، والأوقال جمع وقل وهو المقل اليابس والمعنى: لم يمنعها أن تشرب إلا أنها سمعت صوت حمامة فنفرت، يعني أنها حديدة النفس يخامرها فزع وذعر لحدّة نفسها. والشاهد: غير أن نطقت بفتح "غير" رغم أنها فاعل لإضافتها إلى مبني غير متمكن، وقد تقدم.
[52797]:وقد قال الأخفش في هذه الآية إن "مثل" مرفوع الموضع ولكنه فتح كما فتح الظرف في آية الأنعام تلك.
[52798]:وانظر: مشكل إعراب القرآن لمكي 2/323 والبحر 8/137 و136.
[52799]:زيادة من أ الأصل.
[52800]:البيت من الطويل أنشده أبو الفتح عن أبي علي في الخصائص 2/181 ورواه أبو حيان في البحر 8/137 عن المازني. والشاهد في "هيما" "ويحما" فكل منهما كلمة أضيفت إلى "ما" وركبت حتى صارتا شيئا واحد، و"هيما" و"ويحما" من "هيّ وما" و"ويح وما" وهيّ معناها التعجب، والتأسف على الشيء يفوت، و"ما" في موضع رفع وكأنه قال: يا عجبي. وانظر: اللسان "هيا" 4742 والبحر 8/137 وقد نسب صاحب البيت لحميد الأرقط وهو في ملحقات ديوان ثور2.
[52801]:عجز بيت من المتقارب للنمر بن تولب والشاهد: تركيب "ابن" مع "ما" تركيبا حتى صارا شيئا واحدا على رأي المازني، وقد اعترض عليه كما سيجيء الآن. وانظر: البحر 8/137 وسمط اللالي 743 لجنة التأليف 1354 هـ.
[52802]:لعله أبو علي الفارسيّ، فقد قال ابن جني في الخصائص "ويدل على أنه قد يضم ما هذه إلى ما قبلها ما أنشدنا أبو علي عن أبي عثمان".
[52803]:رجز لم أعرف قائله. وقد ورد في الخصائص والبحر واللسان "ثور" "تِيكم" بدل "هذه" وقد ورد في الخصائص واللسان والبحر الجماء بالجيم وهي التي لا قرنين لها وهذا لا يتفق مع قوله: ذات القرين غير أنه يحمل على هذه الرواية على الهزء والتهكم وقد ورد في أ الحماء بالحاء والكلام عليها ظاهر لا غبار عليه بينما في ب الجماعة تحريف. والشاهد: أثور ما ففتح الراء منه وفتحة تركيب ثور مع "ما" بعده كفتحة راء "حضرموت" ولو كان فتحة إعراب لوجب التنوين لا محالة لأنه مصروف. وانظر الخصائص 2/181 والبحر 8/138 واللسان "ثور" والتصريح 1/240 وروح المعاني للآلوسي 27/10.
[52804]:هذا اعتراض أبي حيان على المازني وهو نفس القول لابن جني في الخصائص 2/182 قال: "وجريان حركات الإعراب على الميم يدل على أنها ليست "ما" وإنما الميم في آخره كالميم في آخر ضِرذِم ودِقعِم ودِرْدِم.
[52805]:المرجعين السابقين.
[52806]:قال الفراء في معاني القرآن 3/85: "ومن نصبها جعلها في مذهب المصدر كقولك: إنه لحق حقا وإن العرب لتنصبها إذا رفع بها الاسم فيقولون: مثل من عبد الله، ويقولون: عبد الله مثلك وأنت مثله" وانظر: البحر 8/137.
[52807]:التبيان 1180.
[52808]:المرجع السابق.
[52809]:وهو اختيار أبي حاتم أيضا و"مثل" على معنى "كمثل". وانظر: الجامع للعلامة الإمام القرطبي 17/44.
[52810]:معاني القرآن له 3/85.
[52811]:الدر المصون له مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم 11.
[52812]:البحر المحيط 8/137 ومعاني الفراء 3/85.
[52813]:وهو اختيار مكي قال: والأحسن أن يكون حالا من المضمر المرفوع في: "لحقّ" وهو العامل في المضمر وفي الحال، وتكون عليه "ما" زائدة. و"مثل" مضاف إلى "أنكم" انظر: المشكل 2/324، كما ذكره أبو حيان في بحره المرجع السابق وانظر: الكشف 2/288.
[52814]:وهو رأي الجَرْمي رحمه الله، وانظر المشكل والبحر والكشف المراجع السابقة.
[52815]:بالمعنى من البحر لأبي حيان 8/137 قال: "ويقول الناس: هذا حق كما أنك ههنا، وهذا حق كما أنك ترى وتسمع، وهذا كما في الآية و"ما" زائدة بنصّ الخليل، ولا يحفظ حذفها، فتقول: هذا حق كأنك ههنا".
[52816]:قاله أبو البقاء العكبري في التبيان 1180.
[52817]:زيادة من "ب" وهو الأصح.
[52818]:المرجع السابق.
[52819]:كذا في النسختين والأوجه أسلوبيا: فقد نصوا.
[52820]:ساقطة من ب والتصحيح من أ.
[52821]:قال بهذا الإمام الفراء في المعاني 3/85 وابن الأنباري في البيان 2/391، ومكي في مشكل والإعراب 2/323 وأبو البقاء في التبيان 1181.
[52822]:البغوي والخازن 6/244.
[52823]:وهو رأي الرازي في تفسيره 28/209.