قوله : { فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } الضمير إما للقرآن ، وإما «للدِّين » ، وإما «الْيَوْم » في قوله : { وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } و«يَوْمَ هُمْ » و«يَوْم الدِّينِ » ، وإما للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ودخلت الفاء بمعنى إنَّ ما توعدون لحق بالبرهان المبين ثم بالقسم واليمين أو للعطف على قوله : «والذَّاريات » مع إعادة المقسم عليه لوقوع الفَصْل{[52786]} .
وأقسم أولاً بالمخلوقات وههنا بربها تَرَقِّياً من الأدنى إلى الأعلى{[52787]} .
قوله : «مِثْلَ مَا » قرأ الأخوانِ وأبو بكر مِثْلُ{[52788]} بالرفع ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر ثانٍ مستقلٌّ كالأَول .
الثاني : أنه مع ما قبله خبرٌ واحد ، كقولك : هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ نقلهما أبو البقاء{[52789]} .
والثالث : أنه نعت لحَقٍّ{[52790]} و«ما » مزيدة على الأوجه الثلاثة و«أَنَّكُمْ » مضاف إليه ، أي لَحَقٌّ مِثْلُ نُطْقِكُم ، ولا يضر تقدير إضافتها لمعرفة ، لأنها لا تتعرف بذلك لإبْهَامِهَا{[52791]} .
أشهرها : أنه نعت «لحَقّ » أيضاً كما في القراءة الأولى ، وإنما بني الاسم لإضافته إلى غير متمكن{[52792]} ، كما بناه الآخر في قوله :
فَتَدَاعَى{[52793]} مِنْخَرَاهُ بِدَمٍ *** مِثْلَ مَا أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ{[52794]}
بفتح «مثل » مع أنها نعت لِ «دَمٍ » وكما بنيت «غَيْرُ » في قوله - ( رحمةُ الله عليه ){[52795]} - :
لَمْ يَمْنَع الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ *** حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذَاتِ أَوْقَالِ{[52796]}
«غير » فاعل يمنع ، فبناها على الفتح لإضافتها إلى «أَنْ نَطَقَتْ » وقد تقدم في قراءة : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ }{[52797]} [ الأنعام : 94 ] بالفتح ما يُغْنِي عن تقرير مِثْلِ هذا .
الثاني : أن «مِثْلَ » ركّب مع «ما » حتى صارا شيئاً واحداً{[52798]} ، قال المازني : ومثله : وَيْحَمَا ، وهَيَّمَا وَأيْنَمَا ، وأنشد لحُمَيْد بن ثَوْر - ( رحمة اللَّهِ عليه رَحْمةً واسعةً - ){[52799]} :
أَلاَ هَيَّمَا مِمَّا لَقِيتُ وَهَيَّمَا *** وَوَيْحاً لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا هُنَّ وَيْحَمَا{[52800]}
قال : فلولا البناء لكان منوناً .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَأَكْرِمْ بِنَا أباً وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا{[52801]}
وهو الذي ذهب إليه بعض النحويين{[52802]} وأنشد :
أَثَوْرَ مَا أَصِيدُكُمْ أَمْ ثَوْرَيْنْ *** أَمْ هَذِه الْجَمَّاءُ ذَاتُ القَرنَيْنْ{[52803]}
وأما ما{[52804]} أنشده من قوله : «وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا » فليس من هذا الباب ، لأن هذا «ابنٌ » زيدت عليه الميم وإذا زدتَ عليه الميم جعلت النون تابعةً للميم في الحركات على الفصيح ، فتقول : هذا ابْنُمٌ ، ورأيت ابْنَماً ومررت بابْنِمٍ ، فتجري حركات الإعراب على الميم ويتبعها النون .
وابنما في البيت منصوب على التمييز فالفتح لأجل النصب لا البناء ، وليس هذه «ما » الزائدة ، بل الميم وحدها زائدة ، والألف بدل من التنوين{[52805]} .
الثالث : أنه منصوب على الظَّرْف ، وهو قول الكوفيين{[52806]} .
ويجيزون : زَيْدٌ مِثْلَكَ بالفتح ، ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن ولكن بعبارة مُشْكِلَةٍ فقال : ويقرأ بالفتح ، وفيه وجهان :
أحدهما : هو معرب{[52807]} ، ثم في نصبه أوجه ، ثم قال : أو على أنه مرفوع الموضع ، ولكنه فتح كما فتح الظرف في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } على قول الأخفش ، ثم قال : والوجه الثاني : هو مبنيّ{[52808]} .
وقال أبو عُبَيْد : بعض العرب يجعل «مِثْلَ » نصباً أبداً ، فيقولون : هَذَا رَجُلٌ مِثْلَكَ{[52809]} .
الرابع : أنه منصوب على إسقاط الجارِّ وهو كافُ التشبيه .
وقال الفراء : العرب تنصبها إذا رفع بها الاسم يعني المبتدأ فيقولون : مِثْلَ مَنْ عَبْد الله ؟ وعَبْد الله مثْلَكَ وأنْتَ مِثْلَه لأن الكاف قد تكون داخلة عليها فتُنْصَب إذا ألقيت الكاف{[52810]} .
قال شهاب الدين : وفي هذا نظر ، أيّ حاجة إلى تقدير دخول الكاف و«مِثْلُ » تفيد فائدتها ؟ وكأنه لما رأى أن الكاف قد دخلت عليها في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } قال ذلك{[52811]} .
الخامس : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي لحَقّ حَقًّا مِثْلَ نُطْقِكُمْ{[52812]} .
السادس : أنه حال من الضمير في «لَحَقٌّ » ؛ لأنه قد كثر الوصف بهذا المصدر حتى جرى مَجْرى الأوصاف المشتقة ، والعامل فيها «حَقٌّ »{[52813]} .
السابع : أنه حال من نفس «حَقّ » وإن كان نكرة{[52814]} . وقد نصَّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازه ، وتابعه أبو عمرو على ذلك .
و«ما » هذه في مثل هذا التركيب نحو قولهم : «هَذَا حَقٌّ » ، كما أنك ههنا لا تجوّز حذفها ، فلا يقال : هذا حق كأنك ههنا . نص على ذلك الخليلُ - رحمه الله{[52815]} - .
فإذا جعلت «مِثْلَ » معربة كانت «ما » مزيدة و«أَنَّكُمْ » في محل خفض بالإضافة كما تقدم{[52816]} . وإذا جعلتها مبنية إما للتركيب ، وإما لإضافتها إلى غير متمكن جاز في «ما » هذه وجهان : الزيادة وأن تكون نكرة موصوفة ، ( كذا ){[52817]} قال أبو البَقَاءِ{[52818]} .
وفيه نظر ، لعدم الوصف هنا ، فإن قال : هو محذوف فالأصل عَدمهُ ، وأيضاً فنصوا{[52819]} على أن هذه الصفة لا تحذف ، لإبهام مَوْصُوفِها . وأما «أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ » فيجوز أن يكون مجروراً بالإضافة إن كانت ( «ما » ){[52820]} مزيدة ، وإن كانت نكرة كان في موضع نصب بإضمار أَعْنِي ، أو رفع بإضمار مبتدأ{[52821]} .
المعنى : { فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } أي ما ذكرت من أمر الرزق لَحق كَمِثْلِ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ فتقولون : لا إله إلاَّ الله .
وقيل : شَبَّه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نُطْق الآدمي كقولك : إنَّه لَحَقٌّ كما أنت ههنا وإنه لحق كما أنك تتكلم والمعنى أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة . قال بعض الحكماء : كما أنَّ كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نَفْسه الذي قُسِمَ له ، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره{[52822]} .
وقيل : معناه إن القرآن لحق تكلم به الملك النازل من السماء مثل ما تتكلمون{[52823]} .