مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقّٞ مِّثۡلَ مَآ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ} (23)

قوله تعالى : { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } وفي المقسم عليه وجوه ( أحدها ) { ما توعدون } أي ما توعدون لحق يؤيده قوله تعالى : { إنما توعدون لصادق } وعلى هذا يعود كل ما قلناه من وجوه { ما توعدون } إن قلنا إن ذلك هو الجنة فالمقسم عليه هو هي . ( ثانيها ) الضمير راجع إلى القرآن أي أن القرآن حق وفيما ذكرناه في قوله تعالى : { يؤفك عنه } دليل هذه وعلى هذا فقوله : { مثل ما أنكم تنطقون } معناه تكلم به الملك النازل من عند الله به مثل ما أنكم تتكلمون وسنذكره . ( ثالثها ) أنه راجع إلى الدين كما في قوله تعالى : { وإن الدين لواقع } . ( رابعها ) أنه راجع إلى اليوم المذكور في قوله : { أيان يوم الدين } يدل عليه وصف الله اليوم بالحق في قوله تعالى : { ذلك اليوم الحق } . ( خامسها ) أنه راجع إلى القول الذي يقال : { هذا الذي كنتم به تستعجلون } وفي التفسير مباحث :

الأول : الفاء تستدعي تعقيب أمر لأمر فما الأمر المتقدم ؟ نقول فيه وجهان . ( أحدهما ) الدليل المتقدم كأنه تعالى يقول : { إنما توعدون } لحق بالبرهان المبين ، ثم بالقسم واليمين . ( ثانيهما ) القسم المتقدم كأنه تعالى يقول : { والذاريات } ثم { ورب السماء والأرض } وعلى هذا يكون الفاء حرف عطف أعيد معه حرف القسم كما يعاد الفعل إذ يصح أن يقال ومررت بعمرو ، فقوله : { والذاريات ذروا فالحاملات وقرا } عطف من غير إعادة حرف القسم ، وقوله : { فورب السماء } مع إعادة حرفه ، والسبب فيه وقوع الفصل بين القسمين ، ويحتمل أن يقال الأمر المتقدم هو بيان الثواب في قوله : { يوم هم على النار يفتنون } وقوله : { إن المتقين في جنات } وفيه فائدة ، وهو أن الفاء تكون تنبيها على أن لا حاجة إلى اليمين مع ما تقدم من الكشف المبين ، فكأنه يقول ورب السماء والأرض إنه لحق ، كما يقول القائل بعدما يظهر دعواه هذا والله إن الأمر كما ذكرت فيؤكد قوله باليمين ، ويشير إلى ثبوته من غير يمين .

البحث الثاني : أقسم من قبل بالأمور الأرضية وهي الرياح وبالسماء في قوله : { والسماء ذات الحبك } ولم يقسم بربها ، وهاهنا أقسم بربها نقول كذلك الترتيب يقسم المتكلم أولا بالأدنى فإن لم يصدق به يرتقي إلى الأعلى ، ولهذا قال بعض الناس إذا قال قائل وحياتك ، والله لا يكفر وإذا قال : والله وحياتك لا شك يكفر وهذا استشهاد ، وإن كان الأمر على خلاف ما قاله ذلك القائل لأن الكفر إما بالقلب ، أو باللفظ الظاهر في أمر القلب ، أو بالفعل الظاهر ، وما ذكره ليس بظاهر في تعظيم جانب غير الله ، والعجب من ذلك القائل أنه لا يجعل التأخير في الذكر مفيدا للترتيب في الوضوء وغيره .

البحث الثالث : قرئ مثل بالرفع وحينئذ يكون وصفا لقوله لحق ومثل وإن أضيف إلى المعرفة لا يخرجه عن جواز وصف المنكر به ، تقول رأيت رجلا مثل عمرو ، لأنه لا يفيده تعريفا لأنه في غاية الإبهام وقرئ : { مثل } بالنصب ، ويحتمل وجهين : ( أحدهما ) أن يكون مفتوحا لإضافته إلى ما هو ضعيف وإلا جاز أن يقال زيد قاتل من يعرفه أو ضارب من يشتمه . ( ثانيهما ) أن يكون منصوبا على البيان تقديره لحق حقا مثل ، ويحتمل أن يقال إنه منصوب على أنه صفة مصدر معلوم غير مذكور ، ووجهه أنا دللنا أن المراد من الضمير في قوله : { إنه } هو القرآن فكأنه قال إن القرآن لحق نطق به الملك نطقا { مثل ما أنكم تنطقون } وما مجرور لا شك فيه .