وقوله { ونفخ } عبارة عن إفاضة الروح في جسد آدم ، والضمير في { روحه } لله تعالى ، وهي إضافة ملك إلى ملك وخلق إلى خالق ، ثم أظهر تعديد النعم عليهم في أن خصهم في قوله { لكم } بضمير{[9415]} { السمع والأبصار والأفئدة } وهي لمن تقدم ذكره أيضاً{[9416]} كما خص آدم بالتسوية ونفخ الروح وهو لجميع ذريته ، وهذا كله إيجاز واقتضاب وترك لما يدل عليه المنطوق به .
ويحتمل أن يكون { الإنسان } في هذه الآية اسم الجنس ، وقوله تعالى : { قليلاً } صفة لمصدر محذوف ، وهو في موضع الحال حين حذف الموصوف به .
والتسوية : التقويم ، قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] . والضمير المنصوب في { سَوّاه } عائد إلى { نسله } لأنه أقرب مذكور ولأنه ظاهر العطف ب { ثم } وإن كان آدم قد سُوِّي ونفخ فيه من الروح ، قال تعالى : { فإذا سَوّيتُه ونفختُ فيه من روحي فَقَعُوا له ساجدين } [ ص : 72 ] . وذكر التسوية ونفخ الروح في جانب النسل يؤذن بأن أصله كذلك ، فالكلام إيجاز .
وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة للتنويه بذلك السر العجيب الذي لا يعلم تكوينه إلا هو تعالى ، فالإضافة تفيد أنه من أشد المخلوقات اختصاصاً بالله تعالى وإلا فالمخلوقات كلها لله .
والنفخ : تمثيل لسريان اللطيفة الروحانية في الكثيفة الجسدية مع سرعة الإيداع ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فإذا سوّيته ونفخْتُ فيه من رُوحي } في سورة الحجر ( 29 ) .
والانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله : وجعل لكم } التفات لأن المخاطبين من أفراد الناس وجَعْل السمع والأبصار والأفئدة للناس كلهم غير خاص بالمخاطبين فلما انتهض الاستدلال على عظيم القدرة وإتقان المراد من المصنوعات المتحدث عنهم بطريق الغيبة الشامل للمخاطبين وغيرهم ناسب أن يُلتفت إلى الحاضرين بنقل الكلام إلى الخطاب لأنه آثرُ بالامتنان وأسعدُ بما يرد بعده من التعريض بالتوبيخ في قوله { قليلاً ما تشكرون } . والامتنان بقوى الحواس وقوى العقل أقوى من الامتنان بالخلق وتسويته لأن الانتفاع بالحواس والإدراك متكرر متجدد فهو محسوس بخلاف التكوين والتقويم فهو محتاج إلى النظر في آثاره .
والعدول عن أن يقال : وجعلكم سامعين مبصرين عالمين إلى { جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } لأن ذلك أعرق في الفصاحة ، ولما تؤذن به اللام من زيادة المنة في هذا الجعل إذ كان جعلاً لفائدتهم ولأجلهم ، ولما في تعليق الأجناس من السمع والأبصار والأفئدة بفعل الجعل من الروعة والجلال في تمكن التصرف ، ولأن كلمة { الأفئدة } أجمع من كلمة عاقلين لأن الفؤاد يشمل الحواس الباطنة كلها والعقل بعضٌ منها .
وأفرد { السَّمع } لأنه مصدر لا يجمع ، وجمع { الأبصار والأفئدة } باعتبار تعدد الناس . وتقديم السمع على البصر تقدّم وجهه عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } في سورة البقرة ( 7 ) . وتقديم السمع والأبصار } على { الأفئدة } هنا عكس آية البقرة لأنه روعي هنا ترتيب حصولها في الوجود فإنه يكتسب المسموعات والمبصرات قبل اكتساب التعقل .
و { قليلاً } اسم فاعل منتصب على الحال من ضمير { لكم ، } و { ما تشكرون } في تأويل مصدر وهو مرتفع على الفاعلية ب { قليلاً ، } أي : أنعم عليكم بهذه النعم الجليلة وحالكم قلة الشكر . ثم يجوز أن يكون { قليلاً } مستعملاً في حقيقته وهي كون الشيء حاصلاً ولكنه غير كثير . ويجوز أن يكون كناية عن العدم كقوله تعالى : { فلا يؤمنون إلا قليلاً } [ النساء : 46 ] . وعلى الوجهين يحصل التوبيخ لأن النعم المستحقة للشكر وافرة دائمة فالتقصير في شكرها وعدمُ الشكر سواء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم رجع إلى آدم في التقديم، فقال تعالى: {ثم سواه} ثم سوى خلقه، {ونفخ فيه من روحه}.
{وجعل لكم} يعني ذرية آدم عليه السلام، بعد النطفة {السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} يعني بالقليل أنهم لا يشكرون رب هذه النعم في حسن خلقهم فيوحدونه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم سوّى الإنسان الذي بدأ خلقه من طين خلقا سويا معتدلاً، "ونَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ "فصار حيا ناطقا، "وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ والأبْصَارَ والأفْئِدَةَ، قَلِيلاً ما تشْكُرُونَ" يقول: وأنعم عليكم أيها الناس ربكم بأن أعطاكم السمع تسمعون به الأصوات، والأبصار تبصرون بها الأشخاص والأفئدة، تعقلون بها الخير من السوء، لتشكروه على ما وهب لكم من ذلك. وقوله: "قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ" يقول: وأنتم تشكرون قليلاً من الشكر ربكم على ما أنعم عليكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ثم سواه} أي جمعه وقوّمه وركّب بعضه على بعض، {ونفخ فيه من روحه} هو الريح وبالنفخ يتفرق في الجسد، ولذلك ذكر.
{وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} أعطاهم ما به يدركون، ويصلون إلى ما غاب عنهم، ويفهمون ويميزون، وهو ما ذكر من الحواس.
{قليلا ما تشكرون} أي لا تشكرون قط، لأنهم يقولون: إنما خاطب به أهل مكة، أو يقال: إنهم يشكرون قليلا، لكنهم يفسدون وينقضون ما يشكرون بكفرانهم من بعد؛ وأما أهل الإسلام، وإن كان شكرهم لما ذكر من هذه الحواس قليلا، فإنهم قد اعتقدوا في أصل العقد الشكر له في جميع نعمه. والكافر اعتقد الكفران له؛ وإلا يجيء أن يكون قوله: {قليلا ما تشكرون} للمؤمنين، ولهم يقال ذلك، لا للكفرة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "ثم سواه "أي عدله ورتب جوارحه. "قليلا ما تشكرون" أي تشكرون نعم الله قليلا من كثير والتقدير قليلا شكركم، لأن نعم الله لا تحصى.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ونفخ} عبارة عن إفاضة الروح في جسد آدم، ثم أظهر تعديد النعم عليهم في أن خصهم في قوله {لكم} بضمير {السمع والأبصار والأفئدة} كما خص آدم بالتسوية ونفخ الروح وهو لجميع ذريته، وهذا كله إيجاز واقتضاب وترك لما يدل عليه المنطوق به.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{ونفخ فيه من روحه} إضافة إلى نفسه تشريفا له وإشعارا بأنه خلق عجيب، وأن له شأنا له مناسبة ما إلى حضرة الربوبية ولأجله قيل من عرف نفسه فقد عرف ربه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أي: بهذه القوى التي رزقكموها الله عز وجل. فالسعيد مَنْ استعملها في طاعة ربه عز وجل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله: {ثم سواه} أي عدله لما يراد منه بالتخطيط والتصوير وإبداع المعاني.
{ونفخ فيه من روحه} الروح ما يمتاز به الحي من الميت، والإضافة للتشريف، فيا له من شرف ما أعلاه إضافته إلى الله.
{وجعل} أي بما ركب في البدن من الأسباب {لكم السمع} أي تدركون به المعاني المصوتة، ووحده لقلة التفاوت فيه إذا كان سالماً {والأبصار} تدركون بها المعاني والأعيان القابلة، ولعله قدمهما لأنه ينتفع بهما حال الولادة، وقدم السمع لأنه يكون إذ ذاك أمتن من البصر. {قليلاً ما تشكرون *} أي وكثيراً ما تكفرون.
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي 911 هـ :
{ونفخ فيه من روحه} أي جعله حياً حساساً بعد أن كان جماداً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أين تلك النقطة الصغيرة المهينة من ذلك الإنسان الذي تصير إليه في النهاية، لولا أنها يد الله المبدعة التي تصنع هذه الخارقة. والتي تهدي تلك النقطة الصغيرة الضعيفة إلى اتخاذ طريقها في النمو والتطور والتحول من هيئتها الساذج وكل تعليل آخر عاجز عن تفسير تلك العجيبة التي تواجه العقل البشري بالحيرة الغامرة التي لا مخرج منها بغير ذلك التفسير. ومع كل هذا الفيض من الفضل. الفضل الذي يجعل من الماء المهين ذلك الإنسان الكريم. الفضل الذي أودع تلك الخلية الصغيرة الضعيفة، كل هذا الرصيد من القدرة على التكاثر والنماء، والتطور والتحول، والتجمع والتخصص. ثم أودعها كل تلك الخصائص والاستعدادات والوظائف العليا التي تجعل من الإنسان إنسانا.. مع كل هذا الفيض فإن الناس لا يشكرون إلا في القليل: (قليلا ما تشكرون).. إلى ذلك الخلق المعقد المركب العجيب؟إنها يد الله التي سوت هذا الإنسان؛ وإنها النفخة من روح الله في هذا الكيان.. إنها التفسير الوحيد الممكن لهذه العجيبة التي تتكرر في كل لحظة، والناس عنها غافلون..ثم هي النفخة من روح الله التي جعلت من هذا الكائن العضوي إنسانا ذا سمع وذا بصر وذا إدراك إنساني مميز من سائر الكائنات العضوية الحيوانية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والنفخ: تمثيل لسريان اللطيفة الروحانية في الكثيفة الجسدية مع سرعة الإيداع، والامتنان بقوى الحواس وقوى العقل أقوى من الامتنان بالخلق وتسويته؛ لأن الانتفاع بالحواس والإدراك متكرر متجدد فهو محسوس بخلاف التكوين والتقويم فهو محتاج إلى النظر في آثاره.
... وكان ينبغي أن نشكر المنعم كلما سمعنا، وكلما أبصرنا، وكلما عملت عقولنا وتوصلت إلى جديد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«سوّاه» من التسوية، أي الإكمال، وهذه إشارة إلى مجموع المراحل التي يطويها الإنسان من حال كونه نطفة إلى المرحلة التي تتّضح فيها جميع أعضاء بدنه، وكذلك المراحل التي طواها آدم بعد خلقه من التراب حتّى نفخ الروح.