89- لا يعاقبكم الله بسبب ما لم تقصدوه من أيْمانكم ، وإنما يعاقبكم بسبب الحنث فيما قصدتموه ووثَّقتموه من الأَيْمان ، فإن حنثتم فيما حلفتم عليه فعليكم أن تفعلوا ما يغفر ذنوبكم بنقض اليمين ، بأن تطعموا عشرة فقراء يوماً ، مما جرت العادة بأن تأكلوه أنتم وأقاربكم الذين هم في رعايتكم ، من غير سَرَفٍ ولا تقتير . أو بأن تكسوا عشرة من الفقراء كسوة معتادة ، أو بأن تحرروا إنساناً من الرق . فإذا لم يتمكن الحالف من أحد هذه الأمور فعليه أن يصوم ثلاثة أيام . وكل واحد من هذه الأمور يغفر به ذنب الحلف الموثق بالنية إذا نقضه الحالف . وصونوا أيْمانَكم فلا تضعوها في غير موضعها ، ولا تتركوا فعل ما يغفر ذنبكم إذا نقضتموها . على هذا النسق من البيان يشرح الله لكم أحكامه ، لتشكروا نعمه بمعرفتها والقيام بحقها{[56]} .
قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه ، فأنزل الله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } .
قوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : { عقدتم } بالتخفيف ، وقرأ ابن عامر ( عاقدتم ) بالألف ، وقرأ الآخرون ( عقدتم ) بالتشديد ، أي : وكدتم ، والمراد من الآية قصدتم وتعمدتم .
قوله تعالى : { فكفارته } ، أي : كفارة ما عقدتم الأيمان إذا حنثتم .
قوله تعالى : { إطعام عشرة مساكين } ، واختلفوا في قدره ، فذهب قوم إلى أنه يطعم كل مسكين مداً من الطعام ، بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد ، وكذلك في جميع الكفارات ، وهو قول زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وبه قال سعيد بن المسيب ، والقاسم ، وسليمان بن يسار ، وعطاء ، والحسن ، وقال أهل العراق : لكل مسكين مدان ، وهو نصف صاع ، يروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن أطعم من الحنطة فنصف صاع ، وإن أطعم من غيرها فصاع ، وهو قول الشعبي ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والحكم ، ولو غداهم وعشاهم لا يجوز . وجوزه أبو حنيفة رضي الله عنه ، ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه . ولا تجوز الدراهم والدنانير ، ولا الخبز ولا الدقيق ، بل يجب إخراج الحب إليهم ، وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه كل ذلك . ولو صرف الكل إلى مسكين واحد لا يجوز ، وجوز أبو حنيفة أن يصرف طعام عشرة إلى مسكين واحد في عشرة أيام ، ولا يجوز أن يصرف إلا إلى مسلم ، حر ، محتاج ، فإن صرف إلى ذمي أو عبد ، أو غني ، لا يجوز . وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه صرفها إلى أهل الذمة . واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز .
قوله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } ، أي من خير قوت عيالكم ، وقال عبيدة السلماني : الأوسط الخبز والخل ، والأعلى الخبز واللحم ، والأدنى الخبز البحت ، والكل مجز .
قوله تعالى : { أو كسوتهم } ، كل من لزمته كفارة اليمين فهو فيها مخير إن شاء أطعم عشرة من المساكين ، وإن شاء كساهم ، وإن شاء أعتق رقبة ، فإن اختار الكسوة فاختلفوا في قدرها ، فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوباً واحداً مما يقع عليه اسم الكسوة ، إزار أو رداء ، أو قميص أو عمامة ، أو كساء أو نحوها ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاووس ، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى . وقال مالك : يجب لكل إنسان ما تجوز فيه صلاته ، فيكسو الرجال ثوباً واحداً ، والنساء ثوبين : درعاً وخماراً . وقال سعيد بن المسيب : لكل مسكين ثوبان .
قوله تعالى : { أو تحرير رقبة } ، وإذا اختار العتق يجب إعتاق رقبة مؤمنة ، وكذلك جميع الكفارات ، مثل كفارة القتل ، والظهار ، والجماع في نهار رمضان ، يجب فيها إعتاق رقبة مؤمنة ، وأجاز أبو حنيفة رضي الله عنه والثوري رضي الله عنه إعتاق الرقبة الكافرة في جميعها ، إلا في كفارة القتل ، لأن الله تعالى قيد الرقبة فيها بالإيمان ، قلنا : المطلق يحمل على المقيد ، كما أن الله تعالى قيد الشهادة بالعدالة في موضع فقال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ، وأطلق في موضع ، فقال : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } [ البقرة :282 ] ، ثم العدالة شرط في جميعها حملاً للمطلق على المقيد ، كذلك هذا ، ولا يجوز إعتاق المرتد بالإنفاق عن الكفارة ، ويشترط أن يكون سليم الرق ، حتى لو أعتق عن كفارته مكاتباً ، أو أم ولد ، أو عبد ، اشترى بشرط العتق ، أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة يعتق ، ولكن لا يجوز عن الكفارة ، وجوز أصحاب الرأي عتق المكاتب إذا لم يكن أدى شيئاً من النجوم ، وعتق القريب عن الكفارة ، ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً ، حتى لا يجوز مقطوع إحدى اليدين ، أو إحدى الرجلين ، ولا الأعمى ، ولا الزمن ، ولا المجنون المطبق ، ويجوز الأعور ، والأصم ، ومقطوع الأذنين والأنف ، لأن هذه العيوب لا تضر بالعمل ضرراً بيناً ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : كل عيب يفوت جنساً من المنفعة يمتنع الجواز ، حتى جوز مقطوع إحدى اليدين ، ولم يجوز مقطوع الأذنين .
قوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } ، إذا عجز الذي لزمته كفارة اليمين عن الطعام والكسوة ، وتحرير الرقبة ، يجب عليه صوم ثلاثة أيام ، والعجز أن لا يفضل من ماله عن قوته وقوت عياله ، وحاجته ، ما يطعم أو يكسو أو يعتق ، فإنه يصوم ثلاثة أيام . وقال بعضهم : إذا ملك ما يمكنه الإطعام وإن لم يفضل عن كفايته فليس له الصيام ، هو قول الحسن وسعيد بن جبير . واختلفوا في وجوب التتابع في هذا الصوم ، فذهب جماعة إلى أنه لا يجب فيه التتابع ، بل إن شاء تابع وإن شاء فرق ، والتتابع أفضل ، وهو أحد قولي الشافعي ، وذهب قوم إلى أنه يجب فيه التتابع قياساً على كفارة القتل والظهار ، وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه صيام ثلاثة أيام متتابعات .
قوله تعالى : { ذلك } ، أي : ذلك الذي ذكرت .
قوله تعالى : { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } ، وحنثتم ، فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث . واختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث ، فذهب قوم إلى جوازه ، لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ) . وهو قول عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال الحسن ، وابن سيرين ، وإليه ذهب مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، إلا أن الشافعي يقول : إن كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز ، لأنه بدني ، وإنما يجوز بالإطعام ، أو الكسوة ، أو العتق ، كما يجوز تقديم الزكاة على الحول ، ولا يجوز تعجيل صوم رمضان قبل وقته ، وذهب قوم إلى أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث ، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه .
قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } ، قيل : أراد به ترك الحلف ، أي : لا تحلفوا ، وقيل : هو الأصح ، أراد به : إذا حلفتم فلا تحنثوا ، فالمراد منه حفظ اليمين عن الحنث ، هذا إذا لم يكن يمينه على ترك مندوب ، أو فعل مكروه ، فإن حلف على فعل مكروه ، أو ترك مندوب ، فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفر .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا حجاج بن منهال ، أنا جرير بن حازم ، عن الحسن ، عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير ) .
{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } هو ما يبدو من المرء بلا قصد كقول الرجل : لا والله وبلى والله ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وقيل الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن ، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وفي أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه . { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية ، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به وقرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم { عقدتم } بالتخفيف ، وابن عامر برواية ابن ذكوان " عاقدتم " وهو من فاعل بمعنى فعل . { فكفارته } فكفارة نكثه أي الفعلة التي تذهب اثمه وتستره ، واستدل بظاهره على جواز التكفير بالمال قبل الحنث وهو عندنا خلافا للحنفية لقوله عليه الصلاة والسلام " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " . { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } من أقصده في النوع أو القدر ، وهو مد لكل مسكين عندنا ونصف صاع عند الحنفية ، وما محله النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره : أن تطعموا عشرة مساكين طعاما من أوسط ما تطعمون ، أو الرفع على البدل من إطعام ، وأهلون كأرضون . وقرئ " أهاليكم " بسكون الياء على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث كالألف ، وهو جمع أهل كالليالي في جمع ليل والأراضي في جمع أرض . وقيل هو جمع اهلاة . { أو كسوتهم } عطف على إطعام أو من أوسط إن جعل بدلا وهو ثوب يغطي العورة . وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار . وقرئ بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وكأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم الأوسط ، والكاف في محل الرفع وتقديره : أو إطعامهم كأسوتهم . { أو تحرير رقبة } أو إعتاق إنسان ، وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأيمان قياسا على كفارة القتل ، ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكفر في التعيين { فمن لم يجد } أي واحدا منها . { فصيام ثلاثة أيام } فكفارته صيام ثلاثة أيام ، وشرط فيه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه التتابع لأنه قرئ " ثلاثة أيام متتابعات " ، والشواذ ليست بحجة عندنا إذا لم تثبت كتابا ولم ترو سنة . { ذلك } أي المذكور . { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وحنثتم . { واحفظوا أيمانكم } بأن تضنوا بها ولا تبذلوها لكل أمر ، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير ، أو بأن تكفروها إذا حنثتم . { كذلك } أي مثل ذلك البيان . { يبين الله لكم آياته } أعلام شرائعه . { لعلكم تشكرون } نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه .
وقد تقدم القول في سورة البقرة في نظير قوله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } وقوله تعالى : { بما عقدتم } معناه شددتم ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عقّدتم » مشددة القاف ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «عقَدتم » خفيفة القاف ، وقرأ ابن عامر «عاقدتم » بألف على وزن فاعلتم ، قال أبو علي من شدد القاف احتمل أمرين أحدهما أن يكون لتكثير الفعل لأنه خاطب جماعة والآخر يكون عقد مثل ضعف لا يراد به التكثير كما أن ضاعف لا يراد به فعل من اثنين . ومن قرأ «عقَدتم » فخفف القاف جاز أن يراد به الكثير من الفعل والقليل ، وعقد اليمين كعقد الحبل والعهد ، وقال الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الَكَربا{[4674]}
ومن قرأ «عاقدتم » فيحتمل ضربين : أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص ، والآخر أن يراد به فاعلت الذي يقتضي فاعلين كأن المعنى يؤاخذكم بما عاقدتم عليه الإيمان ، ويعدى ( عاقد ) ب «على » لما هو في معنى عاهد ، قال الله تعالى : { ومن أوفى بما عاهد عليه الله }{[4675]} وهذا كما عديت { ناديتم إلى الصلاة }{[4676]} ب «إلى » وبابها أن تقول ناديت زيداً و { ناديناه من جانب الطور الأيمن }{[4677]} لكن لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا كقوله تعالى { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله }{[4678]} عديت نادى ب «إلى » ، ثم يتسع في قوله تعالى «عاقدتم » عليه الإيمان فيحذف الجار ، ويصل الفعل إلى المفعول ، ثم يحذف من الصلة الضمير الذي يعود على الموصول ، وتقديره يؤاخذكم بما عقدتموه الأيمان . كما حذف من قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر }{[4679]} .
و{ الأيمان } جمع يمين وهي الَأِلَّية{[4680]} ، سميت يميناً لما كان عرفهم أن يصفقوا بأيمان بعضهم على بعض عند الألية . وقوله تعالى : { فكفارته } معناه فالشيء الساتر على إثم الحنث في اليمين إطعام ، والضمير على الصناعة النحوية عائد على [ ما ]{[4681]} ، ويحتمل { ما } في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي ، وتحتمل أن تكون مصدرية وهو عائد مع المعنى الذي ذكرناه على إثم الحنث ، ولم يجر له ذكر صحيح لكن المعنى يقتضيه و { إطعام عشرة مساكين } معناه إشباعهم مرة ، قال الحسن بن أبي الحسن إن جمعهم أشبعهم إشباعة واحدة ، وإن أعطاهم أعطاهم مكوكاً مكوكاً{[4682]} ، وحكم هؤلاء أن لا يتكرر واحد منهم في كفارة يمين واحدة ، وسواء أطعموا أفراداً أو جماعة في حين واحد ، ولا يجزىء في شيء من ذلك ذمي وإن أطعم صبي فيعطى حظ كبير ، ولا يجوز أن يطعم عبد ولا ذو رحم تلزم نفقته ، فإن كان ممن لا تلزم المكفر نفقته فقد قال مالك : لا يعجبني أن يطعمه ، ولكن إن فعل وكان فقيراً اجزأه ، ولا يجوز أن يطعم منها غني ، وإن أطعم جهلاً بغناه ففي المدونة وغير كتاب أنه لا يجزىء وفي الأسدية أنه يجزىء واختلف الناس في معنى قوله { من أوسط } فرأى مالك رحمه الله وجماعة معه هذا التوسط في القدر ، ورأى ذلك جماعة في الصنف ، والوجه أن يعم بلفظ الوسط القدر والصنف . فرأى مالك أن يطعم المسكين بالمدينة مداً بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك رطل وثلث من دقيق ، وهذا لضيق المعيشة بالمدينة ، ورأى في غيرها أن يتوسع ولذلك استحسن الغداء والعشاء ، وأفتى ابن وهب{[4683]} بمصر بمد ونصف وأشهب بمد وثلث ، قال ابن المواز : ومد وثلث وسط من عيش أهل الأمصار في الغداء والعشاء ، قال ابن حبيب{[4684]} : ولا يجزىء الخبز َقفاراً{[4685]} ولكن بِإدام{[4686]} زيت أو لبن أو لحم أو نحوه ، وفي شرح ابن مزين أن الخبز القفار يجزىء ، ورأى من يقول إن التوسط إنما هو في الصنف أن يكون الرجل المكفر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد وينحط عن الأعلى ويكفر بالوسط من ذلك ، ومذهب المدونة أن يراعي المكِّفر عيَش البلد ، وفي كتاب ابن المواز أن المراعى عيشه في أهله الخاص به{[4687]} .
وكأن الآية على التأويل الأول معناها من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع ، وعلى التأويل الثاني معناها من أوسط ما يطعم شخص أهله . وقرأ الجمهور «أهليكم » وهو جمع أهل على السلامة وقرأ جعفر بن محمد «من أوسط ما تطعمون أهاليكم » ، وهذا جمع مكسر قال أبو الفتح «أهال » بمنزلة ليال ، كأن واحدها أهلاة وليلاة ، والعرب تقول أهل وأهلة ومنه قول الشاعر :
وأهلة ود قد تبريت ودهم *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4688]}
ويقال ليلة وليلاة وأنشد ابن الأعرابي :
في كل ما يوم وكل ليلاه *** حتى يقول من رآه إذ رآه
يا ويحه من َجَمل ما أشقاه{[4689]}
وقرأ الجمهور «أو كِسوتهم » بكسر الكاف يراد به كسوة الثياب وقرأ سعيد بن المسيب وأبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «أو كُسوتهم » بضم الكاف ، وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميفع اليماني «أو كأسوتهم » من الأسوة قال أبو الفتح كأنه قال أو بما يكفي مثلهم فهو على حذف المضاف بتقدير أو ككفاية أسوتهم ، قال وإن شئت جعلت الأسوة هي الكفاية فلم تحتج إلى حذف مضاف .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، والقراءة مخالفة لخط المصحف ، ومعناها على خلاف ما تأول أهل العلم من أن الحانث في اليمين بالله مخير في الإطعام أو الكسوة أو العتق ، والعلماء على أن العتق أفضل ذلك ثم الكسوة الإطعام ، وبدأ الله تعالى عباده بالأيسر فالأيسر ، ورب ُمَّدة ومسغبة يكون فيها الإطعام أفضل من العتق ، لكن ذلك شاذ وغير معهود والحكم للأغلب ، واختلف العلماء في حد الكسوة فراعى على قوم نفس اللفظ ، فإذا كان الحانث المكفر كاسياً والمسكين مكسواً حصل الإجزاء ، وهذه رتبة تنحصل بثوب واحد أي ثوب كان بعد إجماع الناس أن القلنسوة بانفرادها لا تجزىء في كفارة اليمين ، قال مجاهد : يجزىء في كفارة اليمين ثوب واحد فما زاد ، وقال الحسن : الكسوة ثوب لكل مسكين وقاله طاوس ، وقال منصور : الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار قاله أبو جعفر وعطاء وابن عباس ، وقال قد تجزىء العباءة في الكفارة وكذلك الشملة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : تجزىء العمامة في كفارة اليمين ، وقال مجاهد : يجزىء كل شيء إلا التبان ، وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال : نعم الثوب التبان{[4690]} ، أسنده الطبري وقال الحكم بن عتبة : تجزىء عمامة يلف بها رأسه ، وراعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة ، فقال بعضهم لا يجزىء الثوب الواحد إلا إذا كان جامعاً مما قد يتزيى به كالكساء والملحفة ، قال إبراهيم النخعي : يجزىء الثوب الجامع وليس القميص والدرع والخمار ثوباً جامعاً .
قال القاضي أبو محمد : قد يكون القميص الكامل جامعاً وزياً ، وقال بعضهم : الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء قاله ابن عمر رضي الله عنه ، وروي عن الحسن وابن سيرين وأبي موسى الأشعري أن الكسوة في الكفارة ثوبان لكل مسكين ، وعلق مالك رحمه الله الحكم بما يجزىء في الصلاة ، وهذا أحسن نظر ، فقال : يجزىء في الرجل ثوب واحد ، وقال ابن حبيب يكسى قميصاً أو إزاراً يبلغ أن يلتف به مشتملاً ، وكلام ابن حبيب تفسير ، قال مالك : تكسى المراة درعاً وخماراً ، وقال ابن القاسم في العتبية : وإن كسا صغير الإناث فدرع وخمار كالكبيرة ، والكفارة واحدة لا ينقص منها لصغير ، قال عنه ابن المواز ولا تعجبني كسوة المراضع بحال ، فأما من أمر بالصلاة فيكسوه قيمصاً ويجزئه ، قال ابن المواز من رأيه : بل كسوة رجل كبير وإلا لم يجزىء ، قال أشهب ، تعطى الأنثى إذا لم تبلغ الصلاة ثوب رجل ويجزىء ، وقاله ابن الماجشون ، وقوله { أو تحرير رقبة } التحرير الإخراج من الرق ، ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها ، فمنه قوله تعالى عن أم مريم :{ إني نذرت لك ما في بطني محرراً }{[4691]} أي من شغوب{[4692]} الدنيا ، ومن ذلك قول الفرزدق :
ابني غدانة إنني حررتكم *** فوهبتكم لعطية بن جعال{[4693]}
أي حررتكم من الهجاء ، وخص الرقبة من الإنسان إذ هو العضو الذي فيه يكون الغل والتوثق غالباً من الحيوان ، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها ، واختلف الناس في صفة المعتق في الكفارة كيف ينبغي أن يكون ، فقالت جماعة من العلماء : هذه رقبة مطلقة لم تقيد بأيمان فيجوز في كفارة اليمين عتق الكافر ، وهذا مذهب الطبري وجماعة من العلماء ، وقالت فرقة كل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ فلا يجزي في شيء من الكفارات كافر ، وهذا قول مالك رحمه الله وجماعة معه{[4694]} ، وقال مالك رحمه الله : لا يجزي أعمى ولا أبرص ولا مجنون ، وقال ابن شهاب وجماعة ، وفي الأعور قولان في المذهب ، وكذلك في الأصم وفي الخصي ، وفي العلماء من رأى أن جميع هذا يجزىء وفرق النخعي فجوز عتق من يعمل أشغاله وخدمته ومنع عتق من لا يعمل كالأعمى والمقعد والأشل اليدين ، قال مالك رحمه الله : والأعجمي عندي يجزىء من قصر النفقة وغيره أحب إليّ ، قال سحنون يريد بعد أن يجيب إلى الإسلام ، فإن كان الأعجمي لم يجب إلا أنه ممن يجبر على الإسلام كالكبير من المجوس والصغير من الحربيين الكتابيين فقال ابن القاسم يجزىء عتقه وإن لم يسلم وقال أشهب لا يجزىء حتى يسلم ، ولا يجزىء عند مالك من فيه شعبة حرية كالمدبر وأم الولد ونحوه .
وقوله تعالى { فمن لم يجد } معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة من الإطعام او الكسوة أو عتق الرقبة واختلف العلماء في حد هذا العادم الَوْجد حتى يصح له الصيام ، فقال الشافعي رحمه الله وجماعة من العلماء إذا كان المكفر لا يملك إلا قوته وقوت عياله يومه وليلته فله أن يصوم ، فإن كان عنده زائداً على ذلك ما يطعم عشرة مساكين لزمه الإطعام ، وهذا أيضاً هو مذهب مالك وأصحابه قال مالك في المدونة : لا يجزئه صيام وهو يقدر على أحد الوجوه الثلاثة ، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل له نفقة يوم فإنه لا يصوم ، وقال ابن المواز : ولا يصوم الحانث حتى لا يجد إلا قوته أو يكون في البلد لا يعطف عليه فيه ، وقال ابن القاسم في كتاب ابن مزين : إن كان لحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه ، وقال سعيد بن جبير : إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم وقال قتادة : إذا لم يكن له إلا قدر ما يكفر به صام ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا كان له درهمان أطعم ، قال الطبري : وقال آخرون : جائز لمن لم تكن عنده مائتا درهم أن يصوم وهو ممن لا يجد وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرف به في معاشه أن يصوم ، وقرأ أبي بن كعب فصيام ثلاثة أيام متتابعات ، وكذلك عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي ، وقال بذلك جماعة من العلماء منهم مجاهد وغيره ، وقال مالك رحمه الله وغيره : إن تابع فحسن وإن فرق أجزأ ، وقوله تعالى : { ذلك كفارة أيمانكم } إشارة إلى ما ذكر من الأشياء الثلاثة وقوله { إذا حلفتم } معناه ثم أردتم الحنث أو وقعتم فيه وباقي الآية وصاة وتوقيف على النعمة والإيمان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم)، وهو الرجل يَحلِف على أمرٍ، وهو يرى أنه فيه صادق، وهو كاذب، فلا إثم عليه ولا كفارة، (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان)، يقول: بما عقد عليه قلبُك، فتحلف وتعلم أنك كاذب، (فكفارته)، يعني: كفارة هذا اليمين الذي عقد عليها قلبه وهو كاذب، (إطعام عشرة مساكين)، لكل مسكين نصف صاع حنطة، (من أوسط ما تطعمون)، يعني من أعدل ما تطعمون (أهليكم) من الشبع، نظيرها في البقرة: (جعلناكم أمة وسطا) (البقرة: 143)، يعني عدلا، قال سبحانه في ن: (قال أوسطهم) (القلم: 28)، يعني أعدلهم، يقول: ليس بأدنى ما تأكلون ولا بأفضله. ثم قال سبحانه: (أو كسوتهم)، يعني: كسوة عشرة مساكين، لكل مسكين عباءة أو ثوب، (أو تحرير رقبة) ما، سواء أكان المحرر يهوديا، أو نصرانيا، أو مجوسيا، أو صابئيا، فهو جائز. وهو بالخيار في الرقبة، أو الطعام، أو الكسوة، (فمن لم يجد) من هذه الخصال الثلاث شيئا، (فصيام ثلاثة أيام)، وهي في قراءة ابن مسعود متتابعات، (ذلك) الذي ذكر الله عز وجل (كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم)، فلا تتعمَّدوا اليمينَ الكاذبة، (كذلك يُبيِّن الله لكم آياته لعلكم تشكرون) ربكم في هذه النعم، إذ جعل لكم مخرجا في إيمانكم فيما ذكر في الكفارة.
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [المائدة: 89].
- يحيى: قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا. أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذاك، ثم يوجد على غير ذلك، فهو اللغو.
قوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} [المائدة: 89]. -يحيى: قال مالك: وعقد اليمين، أن يحلف الرجل أن لا يبيع ثوبه بعشرة دنانير، ثم يبيعه بذلك. أو يحلف ليضربن غلامه، ثم لا يضربه. ونحو هذا. فهذا الذي يكفر صاحبه عن يمينه. وليس في اللغو كفارة.
قال مالك: فأما الذي يحلف على الشيء، وهو يعلم أنه آثم. ويحلف على الكذب، وهو يعلم، ليرضي به أحدا، أو ليعتذر به إلى معتذر إليه، أو ليقطع به مالا، فهذا أعظم من أن تكون فيه كفارة.
قوله تعالى: {إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة: 89].
-مكي: قال مالك: إن غداهم وعشاهم أجزأه.
- الباجي: قال مالك: الوسط بالمدينة مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالبلدان التي يكفر فيها بالحنطة، فالوسط من الشبع غداء وعشاء.
قوله تعالى: {أو كسوتهم} [المائدة: 89].
- يحيى: قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة، إن كسا الرجال، كساهم ثوبا ثوبا. وإن كسا النساء، كساهن ثوبين ثوبين. درعا وخمارا. وذلك أدنى ما يجزئ كلا في صلاته.
قوله تعالى: {أو تحرير رقبة} [المائدة: 89].
ابن العربي: قال مالك: إن من لم يملك إلا رقبة أو دارا لا فضل فيهما، أو عرضا، ثمن رقبة لم يجزه إلا العتق.
قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة: 89].
يحيى: قال مالك: وأحب إلي أن يكون، ما سمى الله في القرآن، يصام متتابعا.
- ابن جرير: حدثني يونس، قال: أخبرنا أشهب، قال: قال مالك: كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام، فأن يصام تباعا أحب، فإن فرقها رجوت أن تجزي عنه.
- السيوطي: أخرج مالك قال: كنت أطوف مع مجاهد، فجاءه إنسان يسأله عن صيام الكفارة أيتابع؟ قال حميد: فقلت: لا، فضرب مجاهد في صدري، ثم قال: إنها في قراءة أبي ابن كعب: {متتابعات}.
- يحيى: قال مالك: كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا، أو كذا، فصاحبه مخير في ذلك، أي شيء أحب أن يفعل ذلك، فعل.
وعقد اليمين أن يثبتها على الشيء بعينه ألا يفعل الشيء فيفعله، أو ليفعلنه فلا يفعله، أو لقد كان وما كان، فهذا آثم، وعليه الكفارة لما وصفت من أن الله عز وجل قد جعل الكفارات في عمد المأثم...
قال الشافعي: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لغو اليمين قول الإنسان: لا والله، وبلى والله 530. فقلت للشافعي: وما الحجة فيما قلت؟ قال: ـ الله أعلم ـ اللغو في لسان العرب: الكلام غير المعقود عليه، وجماع اللغو يكون الخطأ. قال الشافعي: فخالفتموه 531، وزعمتم أن اللغو: حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كما حلف عليه، ثم يوجد على خلافه 532. قال الشافعي: وهذا ضد اللغو، وهذا هو الإثبات في اليمين يقصدها، يحلف لا يفعله يمنعه السبب لقول الله تبارك وتعالى: {وَلَـكِنْ يُّوَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ اَلاَيْمَانَ} 533 ما عقدتم: ما عقدتم به عقد الأيمان عليه. ولو احتمل اللسان ما ذهبتم إليه ما منع احتماله ما ذهبت إليه عائشة، وكانت أولى أن تتبع منكم، لأنها أعلم باللسان منكم، مع علمها بالفقه. (الأم: 7/242-243. ون مختصر المزني ص: 290.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للذين كانوا حرّموا على أنفسهم الطيبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا حرّموا ذلك بأيمان حلفوا بها، فنهاهم عن تحريمها، وقال لهم: لا يؤاخذكم ربكم باللغو في أيمانكم.
عن ابن عباس، قال: لما نزلت:"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ في القوم الذين كانوا حرّموا النساء واللحم على أنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:" لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ... "الآية.
فهذا يدلّ على ما قلنا من أن القوم كانوا حرّموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها، فنزلت هذه الآية بسببهم.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز وبعض البصريين:"وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ بتشديد القاف، بمعنى: وكدتم الأيمان وردّدتموها وقرّاء الكوفيين: «بِمَا عَقَدْتُمُ الأَيمَانَ» بتخفيف القاف، بمعنى: أوجبتموها على أنفسكم، وعزمت عليها قلوبُكم.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بتخفيف القاف، وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل فعلت في الكلام، إلا فيما يكون فيه تردّد مرّة بعد مرّة، مثل قولهم: شدّدت على فلان في كذا إذا كرّر عليه الشدّ مرّة بعد أخرى، فإذا أرادوا الخبر عن فعل مرّة واحدة قيل: شَددت عليه بالتخفيف. وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم أن اليمين التي تجب بالحنث فيها الكفارة تلزم بالحنث في حلف مرّة واحدة وإن لم يكرّرها الحالف مرّات، وكان معلوما بذلك أن الله مؤاخذ الحالف العاقد قلبه على حلفه وإن لم يكرّره ولم يردّده، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن لتشديد القاف من عقّدتم وجه مفهوم. فتأويل الكلام إذن: لا يؤاخذكم الله أيها المؤمنون من أيمانكم بما لغوتم فيه، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها وعقدت عليه قلوبكم. وقد بينا اليمين التي هي لغو والتي الله مؤاخذٌ العبدَ بها، والتي فيها الحنث والتي لا حنث فيها، فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع.
وأما قوله: "بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ"؛ عن مجاهد: "وَلَكِنْ يَؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ "قال: بما تعمدتم.
عن الحسن: "وَلَكِنْ يَؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ" يقول: ما تعمدتَ فيه المأثم، فعليك فيه الكفارة.
" فَكَفّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ":
اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله: "فَكَفّارَتُهُ" على ما هي عائدة، ومن ذكر ما؟
فقال بعضهم: هي عائدة على «ما» التي في قوله: بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ. عن الحسن في هذه الآية: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ" قال: هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك، فلا يؤاخذكم الله، فلا كفارة، ولكن المؤاخذة والكفارة فيما حلفت عليه على علم.
عن أبي مالك، قال: الأيمان ثلاث: يمين تكفّر، ويمين لا تكفّر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها. فأما اليمين التي تكفر، فالرجل يحلف على الأمر لا يفعله ثم يفعله، فعليه الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمد فيه الكذب، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها: فالرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو.
قالت عائشة: لغو اليمين ما لم يعقد عليه الحالف قلبه...
فمعنى الكلام على هذا التأويل: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارة ما عقدتم منها: إطعام عشرة مساكين.
وقال آخرون: الهاء في قوله: "فَكَفّارَتُهُ" عائدة على اللغو، وهي كناية عنه. قالوا: وإنما معنى الكلام: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إذا كفرتموه، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الأيمان فأقمتم على المضيّ عليه بترك الحنث والكفارة فيه، والإقامة على المضيّ عليه غير جائزة لكم، فكفّارة اللغو منها إذا حنثتم فيه: إطعام عشرة مساكين. عن ابن عباس قوله: "لا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ" قال: هو الرجل يحلف على أمر ضرار أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير. وقال مرّة أخرى: واللغو من اليمين هي التي تكفر لا يؤاخذ الله بها، ولكن من أقام على تحريم ما أحلّ الله له ولم يتحوّل عنه ولم يكفّر عن يمينه، فتلك التي يؤاخذ بها.
عن سعيد بن جبير، قوله: "لا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ" قال: هو الذي يحلف على المعصية فلا يفي، فيكفّر.
عن إبراهيم، قال: اللغو: يمين لا يؤاخذ بها صاحبها، وفيها كفارة.
والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك، أن تكون الهاء في قوله: "فَكَفّارَتُهُ" عائدة على «ما» التي في قوله: "بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ" لما قدّمنا فيما مضى قبل، أن من لزمته في يمينه كفارة وأوخذ بها غير جائز أن يقال لمن قد أوخذ: لا يؤاخذه الله باللغو، وفي قوله تعالى: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمانِكُمْ" دليل واضح أنه لا يكون مؤاخذا بوجه من الوجوه من أخبرنا تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ.
فإن ظنّ ظانّ أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمانِكُمْ" بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثتم وكفّرتم، لا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير، فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمره ونهيه في كتابه على الظاهر العامّ عندنا بما قد دللنا على صحة القول به في غير هذا الموضع فأغنى عن إعادته، دون الباطن العامّ الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر ولا دلالة من عقل ولا خبر، أنه عنى تعالى ذكره بقوله:"لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمانِكُمْ "بعض معاني المؤاخذة دون جميعها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان من لزمته كفارة في يمين حنث فيها مؤاخذا بها بعقوبة في ماله عاجلة، كان معلوما أنه غير الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها. وإذا كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا، فمعنى الكلام إذن: لا يؤاخذكم الله أيها الناس بلغو من القول والأيمان إذا لم تتعمدوا بها معصية الله تعالى ولا خلاف أمره ولم تقصدوا بها إثما، ولكن يؤاخذكم بما تعمدتم به الإثم وأوجبتموه على أنفسكم وعزمت عليه قلوبكم، ويكفر ذلك عنكم، فيغطى على سيء ما كان منكم من كذب وزُور قول ويمحوه عنكم، فلا يتبعكم به ربكم إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم.
" مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ ": قال عطاء: أوسطه: أعدله، واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ"؛ فقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفّر أهاليهم. عن ابن عمر في قوله: مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال: من أوسط ما يطعم أهله الخبز والتمر، والخبز والسمن والخبز والزيت، ومن أفضل ما يطعمهم: الخبز واللحم.
عن الحسن قال في كفارة اليمين: يجزيك أن تطعم عشرة مساكين أكله واحدة خبزا ولحما، فإن لم تجد فخبزا وسمنا ولبنا، فإن لم تجد فخبزا وخلاّ وزيتا حتى يشبعوا.
ثم اختلف قائلو ذلك في مَبْلَغِه؛
فقال بعضهم: مبلغ ذلك نصف صاع من حنطة، أو صاع من سائر الحبوب غيرها... عن ابن عباس، قال: لكلّ مسكين مدّين من برّ في كفارة اليمين.
وقال آخرون: بل مبلغ ذلك من كلّ شيء من الحبوب مدّ واحد... قال ابن زيد في قوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ" قال: من أوسط ما تعولونهم. قال: وكان المسلمون رأوا أوسط ذلك مدّا بمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنطة. وقال آخرون: بل ذلك غَداء وعَشاء. عن عليّ، قال في كفّارة اليمين: يغدّيهم ويعشيهم.
وقال آخرون: إنما عنى بقوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ": من أوسط ما يطعم المكفّر أهله. قال: إن كان ممن يشبع أهله أشبع المساكين العشرة، وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك أطعم المساكين على قدر ما يفعل من ذلك بأهله في عسره ويسره...
وأولى الأقوال في تأويل قوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ" عندنا قول من قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة. وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفّارات كلها بذلك وردت، وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم في كفّارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعا بين ستين مسكينا لكلّ مسكين ربع صاع. ولا يعرف له صلى الله عليه وسلم شيء من الكفارات أمر بإطعام خبز وإدام ولا بغَداء وعَشاء. فإذا كان ذلك كذلك، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته، كان سبيلها سبيل ما تولى الحكم فيه صلى الله عليه وسلم من أن الواجب على مكفّرها من الطعام مقدار للمساكين العشرة، محدود بكيل دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز مأدوم، إذ كانت سنته صلى الله عليه وسلم في سائر الكفارات كذلك. فإذ كان صحيحا ما قلنا بما به استشهدنا، فبيّن أن تأويل الكلام: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم، وأن «ما» التي في قوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ" بمعنى المصدر، لا بمعنى الأسماء. وإذا كان ذلك كذلك، فأعدل أقوات الموسع على أهله مدّان، وذلك نصف صاع في ربعه إدامه، وذلك أعلى ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم في كفارة في إطعام مساكين، وأعدل أقوات المقتر على أهله مدّ وذلك ربع صاع، وهو أدنى ما حكم به في كفارة في إطعام مساكين. وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين الخبز واللحم وما ذكرنا عنهم قبل، والذين رأوا أن يغدوا ويعشوا، فإنهم ذهبوا إلى تأويل قوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ": من أوسط الطعام الذي تطعمونه أهليكم، فجعلوا «ما» التي في قوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ" اسما لا مصدرا، فأوجبوا على المُكفِّر إطعام المساكين من أعدل ما يطعم أهله من الأغذية. وذلك مذهب لولا ما ذكرنا من سنن في الكفارات غيرها التي يجب إلحاق أشكالها بها، وأن كفارة اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها.
" أوْ كِسْوَتُهُمْ ": يعني تعالى ذكره بذلك: فكفّارة ما عقدتم من الأيمان: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم. يقول إما أن تطعموهم أو تكسوهم، والخيار في ذلك إلى المكفّر.
واختلف أهل التأويل في الكسوة التي عنى الله بقوله:"أوْ كِسْوَتُهُمْ"؛ فقال بعضهم: عنى بذلك كسوة ثوب واحد. عن مجاهد، قال: أدناه ثوب، وأعلاه ما شئت.
وقال بعضهم: عنى بذلك: الكسوة ثوبين ثوبين.
وقال آخرون: بل عَنَى بذلك: كسوتهم: ثوب جامع، كالملحفة والكساء والشيء الذي يصلح للبس والنوم.
وقال آخرون: عنى بذلك كسوة إزار ورداء وقميص.
وقال آخرون: كل ما كسا فيجزي، والآية على عمومها... وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن قول من قال: عنى بقوله: "أوْ كِسْوَتُهُمْ": ما وقع عليه اسم كسوة مما يكون ثوبا فصاعدا، لأن ما دون الثوب لا خلاف بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية، فكان ما دون قدر ذلك خارجا من أن يكون الله تعالى عناه بالنقل المستفيض، والثوب وما فوقه داخل في حكم الآية، إذ لم يأت من الله تعالى وحي ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها، وغير جائز إخراج ما كان ظاهر الآية محتمله من حكم الآية إلاّ بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة بذلك.
" أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ": أو فكّ عبد من أسر العبودية وذلها. وأصل التحرير: الفكّ من الأسر، وقيل: تحرير رقبة، والمحرّر صاحب الرقبة، لأن العرب كان من شأنها إذا أسرت أسيرا أن تجمع يديه إلى عنقه بقيد أو حبل أو غير ذلك، وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة. فجرى الكلام عند إطلاقهم الأسير، بالخبر عن فكّ يديه عن رقبته، وهم يريدون الخبر عن إطلاقه من أسره، كما يقال: قبض فلان يده عن فلان: إذا أمسك يده عن نواله. وبسط فيه لسانه: إذا قال فيه سوءا، فيضاف الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله، لاستعمال الناس ذلك بينهم وعلمهم بمعنى ذلك، فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره:"أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ "أضيف التحرير إلى الرقبة وإن لم يكن هناك غلّ في رقبته ولا شدّ يد إليها، وكان المراد بالتحرير نفس العبد بما وصفنا من جَري استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه.
فإن قال قائل: أفكل الرقاب معنىّ بذلك أو بعضها؟ قيل: بل معنىّ بذلك كلّ رقبة كانت سليمة من الإقعاد والعمى والخرس وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق، ونظائر ذلك، فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزي في كفّارة اليمين. فكان معلوما بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية. فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر، فإنهم معنيون به.
وقال بعضهم: لا يجزئ في الكفّارة من الرقاب إلاّ صحيح، ويجزئ الصغير فيها... عن إبراهيم، قال: ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة. فلا يجزئ إلاّ ما صام وصلّى، وما كان ليس بمؤمنة فالصبيّ يجزئ.
وقال بعضهم: لا يقال للمولود رقبة إلاّ بعد مدّة تأتي عليه. عن سليمان، قال: إذا وُلد الصبيّ فهو نسمة، وإذا انقلب ظهرا لبطن فهو رقبة، وإذا صلّى فهو مؤمنة.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى عمّ بذكر الرقبة كلّ رقبة، فأيّ رقبة حرّرها المكفر يمينه في كفّارته فقد أدّى ما كلف، إلاّ ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى لم يعنه بالتحرير، فذلك خارج من حكم الآية، وما عدا ذلك فجائز تحريره في الكفار بظاهر التنزيل. والمكفّر مخير في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه، وذلك: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، بإجماع من الجميع لا خلاف بينهم في ذلك. فإن ظنّ ظانّ أن ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع ليس كما قلنا لِمَا:
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا سليمان الشيباني، قال: حدثنا أبو الضحى، عن مسروق، قال: جاء نعمان بن مقرّن إلى عبد الله، فقال: إني آليت من النساء والفراش فقرأ عبد الله هذه الآية:"لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ "قال: فقال نعمان: إنما سألتك لكوني أتيت على هذه الآية. فقال عبد الله: ائت النساء ونم وأعتق رقبة، فإنك موسر...
ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما، فإن ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه بالتكفير به من الرقاب، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلاّ بالرقبة، لأنه لم ينقل أحد عن أحد منهم أنه قال: لا يجزئ الموسرَ التكفيرُ إلاّ بالرقبة. والجميع من علماء الأمصار قديمهم وحديثهم مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائز للموسر، ففي ذلك مكتفىً عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره.
" فَمَنْ لَمْ يجِدْ فَصِيامُ ثَلاثةٍ أيّامٍ ": فمن لم يجد لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ، يقول: فعليه صيام ثلاثة أيام.
ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله: "فَمَنْ لَمْ يَجِدْ"، ومتى يستحقّ الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة اسم غير واجد حتى يكون ممن له الصيام في ذلك؟ فقال بعضهم: إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلاّ قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته، فإن له أن يكفّر بالصيام، فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم، لزمه التكفير بالإطعام أو الكسوة ولم يجزه الصيام حينئذ، وممن قال ذلك الشافعي.
وقال آخرون: جائز لمن لم يكن عنده مِئتا درهم أن يصوم وهو ممن لا يجد.
وقال آخرون: جائز لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرّف به لمعاشه ما يكفّر به بالإطعام أن يصوم، إلاّ أن يكون له كفاية من المال ما يتصرّف به لمعاشه ومن الفضل عن ذلك ما يكفّر به عن يمينه. وهذا قول كان يقوله بعض متأخري المتفقهة.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلاّ قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته لا فضل له عن ذلك، يصوم ثلاثة أيام، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق. وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين أو يُعتق رقبة، فلا يجزيه حينئذ الصوم لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذٍ من إطعام أو كسوة أو عتق حقّ قد أوجبه الله تعالى في ماله وجوب الدين، وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرقّ ماله بين غرمائه أنه لا يترك ذلك اليوم إلاّ ما لا بدّ له من قوته وقوت عياله يومه وليلته، فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى في ماله بسبب الكفّارة التي لزمت ماله.
واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين؛ فقال بعضهم: صفته أن يكون مواصلاً بين الأيام الثلاثة غير مفرّقها. عن مجاهد، قال: كلّ صوم في القرآن فهو متتابع إلاّ قضاء رمضان، فإنه عدّة من أيام أخر.
عن الربيع بن أنس، قال: كان أبيّ بن كعب يقرأ: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات».
وقال آخرون: جائز لمن صامهنّ أن يصومهنّ كيف شاء مجتمعات ومفترقات. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى أوجب على من لزمته كفارة يمين إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلاً، أن يكفّرها بصيام ثلاثة أيام، ولم يشرط في ذلك متتابعة، فكيفما صامهنّ المكفّر مفرّقة ومتتابعة أجزأه، لأن الله تعالى إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام، فكيفما أتى بصومهنّ أجزأ. فأما ما رُوي عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» فذلك خلاف ما في مصاحفنا، وغير جائز لنا أن نشهد بشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله. غير أني أختار للصائم في كفّارة اليمين أن يتابع بين الأيام الثلاثة ولا يفرّق، لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفّارته. وهم في غير ذلك مختلفون، ففعل ما لا يختلف في جوازه أحبّ إليّ وإن كان الآخر جائزا.
" ذَلِكَ كَفّارَةُ أيمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أيمَانَكُمْ كذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ": ذَلِكَ هذا الذي ذكرت لكم أنه كَفّارَةُ أيمانِكُمْ من إطعام العشرة المساكين أو كسوتهم أو تحرير الرقبة، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئا هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أيها الذين آمنوا أيمَانَكُمْ أن تحنثوا فيها ثم تضيعوا الكفارة فيها بما وصفته لكم. "كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ" كما بين لكم كفارة أيمانكم، كذلك يبين الله لكم جميع آياته، يعني: أعلام دينه، فيوضحها لكم، لئلا يقول المضيع المفرّط فيما ألزمه الله: لم أعلم حكم الله في ذلك. "لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ": لتشكروا اللهَ على هدايته إيَّاكم وتوفيقه لكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [البقرة: 225 والمائدة: 89] إنه عز وجل ذكر يمينا لا يؤاخذ فيها في موضعين من غير أن ذكر أنها: أي يمين هي؟ ولا بأي شيء، لا يؤاخذ فيها؟ والحاجة لازمة. إن ذلك في موضع الامتنان منه، جل وعلا، في العفو عن أمر كان له المؤاخذة. وحق على السامع معرفة منة الله تعالى ليشكره عليها. ثم معلوم أن اليمين لو كانت بالطلاق والعتاق كان صاحب ذلك يؤاخذ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن ثلاثا جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق والعتاق والنكاح» [أبو داوود: 2194]. واللاغي لا يعدو أمرين مع ما كان يلزمان بلا شرط، يصير به الموقع حالفا. وأعظم ما في دفع المؤاخذة في اليمين أن يدفع عنه اليمين، وهما يجبان دونهما، فيقعان من غير أن كان في الآية ذكر التفضيل. ولكن تجب معرفة حقيقة ذلك بالذي بينا من الخبر والنظر مع ما يعرف في ذلك خلافا. وهذا يوضح أن العفو في ما كانت الأيمان بالله تعالى...
ثم احتج قوم بوجوب الكفارة بعقد اليمين بقوله: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان)... وفي الجملة: أمر الله أن يوفوا بعهده لا أن ينقضوا، وقد جعلت اليمين عهده، وأمرنا بوفائه، فنقضه يوجب الخلف في وعده والنقض لعهده، فيأثم الحالف لا بالحل. فلذا تجب الكفارة. ولو كانت لليمين كفارة لكان الحنث أحق أن يوجب الكفارة...
والثاني أن يكون على إضمار حين يؤاخذكم بحنثكم في ما عقدتم. وذلك غير مدفوع في حق الكفارات كقوله تعالى: (فإن أحصرتم) الآية [البقرة: 196] وقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) الآية [البقرة: 196] لا على الوجوب للعدو ولكن باستعمال الرخصة فيه، إذ لا يكون العدو سببا لإيجاب. فمثله في الأول لا يكون تعظيم الرب سبب إيجاب الكفارة، فيصير الحنث فيه مضمرا، والله أعلم. والإضافة إلى الأيمان على إرادة الحنث فيها كإضافة كفارة الفطر إلى الصيام والدم إلى الحج والسجود إلى السهو [من م، في الأصل: السجود]، وإن كانت الكفارات ليست لما أضيفت إليه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اللغو في اليمين: الساقط الذي لا يتعلق به حكم...
{بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية... والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة. لأنه كان معلوماً عندهم، أو بنكث ما عقدتم. فحذف المضاف {فَكَفَّارَتُهُ} فكفارة نكثه. والكفارة: الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها. {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} من أقصده، لأنّ منهم من يسرف في إطعام أهله... والمعنى {إِذَا حَلَفْتُمْ} وحنثتم. فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأنّ الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف، لا بنفس الحلف،...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الأيمان} جمع يمين وهي الأِلَّية، سميت يميناً لما كان عرفهم أن يصفقوا بأيمان بعضهم على بعض عند الألية. وقوله تعالى: {فكفارته} معناه فالشيء الساتر على إثم الحنث في اليمين إطعام، والضمير على الصناعة النحوية عائد على ما، ويحتمل {ما} في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي، وتحتمل أن تكون مصدرية وهو عائد مع المعنى الذي ذكرناه على إثم الحنث، ولم يجر له ذكر صحيح لكن المعنى يقتضيه. و {إطعام عشرة مساكين} معناه إشباعهم مرة،... وقوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم} إشارة إلى ما ذكر من الأشياء الثلاثة. وقوله {إذا حلفتم} معناه ثم أردتم الحنث أو وقعتم فيه وباقي الآية وصاة وتوقيف على النعمة والإيمان...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: لَغْوٌ وَمُنْعَقِدَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا لَغْوَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ فَهِيَ الْمُنْفَعِلَةُ من الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حِسِّيٌّ كَعَقْدِ الْحَبْلِ، وَحُكْمِيٌّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ؛ وَهُوَ رَبْطُ الْقَوْلِ بِالْقَصْدِ الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ، يَعْزِمُ بِقَلْبِهِ أَوَّلًا مُتَوَاصِلًا مُنْتَظِمًا، ثُمَّ يُخْبِرُ عَمَّا انْعَقَدَ من ذَلِكَ بِلِسَانِهِ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}: وَقَوْلُهُ: {تُطْعِمُونَ} يَحْتَمِلُ طَعَامَهُمْ بَقِيَّةَ عُمْرِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ غَدَاءً وَعَشَاءً؛ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَكْلَةِ الْيَوْمِ وَسَطًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَشِبَعًا فِي غَيْرِهَا...
.وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ بِمَعْنَى الْخِيَارِ هَاهُنَا مَتْرُوكٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مَعْلُومَةً عَادَةً، وَمِنْهُم مَنْ قَدَّرَهَا ...
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}: يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: احْفَظُوهَا، فَلَا تَحْلِفُوا فَتَتَوَجَّهُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتُ. الثَّانِي: احْفَظُوهَا إذَا حَنِثْتُمْ؛ فَبَادِرُوا إلَى مَا لَزِمَكُمْ. الثَّالِثُ: احْفَظُوهَا فَلَا تَحْنَثُوا؛ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْبُرُّ أَفْضَلَ أَوْ الْوَاجِبَ. وَالْكُلُّ عَلَى هَذَا من الْحِفْظِ صَحِيحٌ عَلَى وَجْهِهِ الْمَذْكُورِ وَصِفَتِهِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَيْهِ، فَلْيُرَكَّبْ عَلَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
اعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير، فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر، وهو الصوم...
ثم قال تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} قوله {ذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من الطعام والكسوة وتحرير الرقبة، أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم لأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف، إلا أنه حذف ذكر الحنث لكونه معلوما، كما قال: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{إطعام عشرة مساكين} اشتراط المسكنة دليل على أنه لا يجزى في الكفارة إطعام غني...
. {أو كسوتهم} قال كثير من العلماء: يجزى ثوب واحد لمسكين، لأنه يقال فيه كسوة، وقال مالك: إنما يجزي ما تصح به الصلاة، فالرجل ثوب واحد، وللمرأة قميص وخمار. {أو تحرير رقبة} اشترط مالك فيها أن تكون مؤمنة لتقيدها بذلك في كفارة القتل، فحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، وأجاز أبو حنيفة هنا عتق الكافرة، لإطلاق اللفظ هنا، واشترط مالك أيضا أن تكون سليمة من العيوب وليس في اللفظ ما يدل على ذلك. {فمن لم يجد} أي: من لم يملك ما يعتق ولا ما يطعم ولا ما يكسو فعليه صيام ثلاثة أيام، فالخصال الثلاث على التخيير، والصيام مرتب بعدها لمن عدمها، وهو عند مالك من لم يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه زيادة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما اشتملت هذه الآيات من البيان على ما يدهش الإنسان كان كأنه قيل: هل يبين كل ما يحتاج إليه هكذا؟ فنبه من هذه الغفلة بقوله: {كذلك} أي مثل هذا البيان العظيم الشأن {يبين الله} أي على ما له من العظمة {لكم آياته} أي أعلام شريعته وأحكامه على ما لها من العلو بإضافتها إليه. ولما اشتمل ما تقدم من الأحكام والحِكَم والتنبيه والإرشاد والإخبار بما فيها من الاعتبار على نِعَم جسيمة وسنن جليلة عظيمة، ناسب ختمُها بالشكر المُربى لها في قوله على سبيل التعليل المؤذن بقطعها إن لم توجد العلة: {لعلكم تشكرون} أي يحصل منكم الشكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ونعود بعد ذلك إلى الموضوع الأصيل الذي نزلت الآيات بسببه.. فأما من ناحية "خصوص السبب "فإن الله يبين أن ما أحله الله فهو الطيب، وما حرمه فهو الخبيث. وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له. من وجهين: الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله، ولا يستقيم معه إيمان.. والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات، التي بها صلاحه وصلاح الحياة؛ فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات. ولو كان الله يعلم فيها شرا أو أذى لوقاه عباده. ولو كان يعلم في الحرمان منها خيرا ما جعلها حلالا..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والكفّارة مبالغة في كفَر بمعنى ستَر وأزال. وأصل الكَفْر بفتح الكاف الستر. وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة، كتاء نسَّابة وعلاّمة. والعرب يجمعون بينهما غالباً.
وقوله: {إذا حلفتم} أي إذا حلفتم وأردتم التحلّل ممّا حلفتم عليه فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفّارة على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف لأنّ معنى الكفارة يقتضي حصول إثم، وذلك هو إثم الحِنث.
والمؤاخذة هي إنزال عقوبة بمن له معك عهد فخالفه بعمل جريمة نص عليها؛ فلا يؤاخذه أبدا بجريمة لم ينص عليها، ولا يتم توقيع عقاب على أحد دون تحذير مسبق. ولذلك ففي القانون المدني يقولون: لا عقوبة إلا بجريمة ولا جريمة إلا بنص...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في ختام الآيات يبيّن القرآن أنّ هذه الآيات توضح لكم الأحكام التي تضمن سعادة الفرد والمجتمع وسلامتها لتشكروه على ذلك: (كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تشكرون).