قوله تعالى : { يحذر المنافقون } ، أي : يخشى المنافقون ، { أن تنزل عليهم } ، أي : تنزل على المؤمنين ، { سورة تنبئهم بما في قلوبهم } ، أي : بما في قلوب المنافقين من الحسد والعداوة للمؤمنين ، كانوا يقولون فيما بينهم ويسرون ويخافون الفضيحة بنزول القرآن في شأنهم . قال قتادة : هذه السورة تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة ، أثارت مخازيهم ومثالبهم . قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة للمؤمنين ، لئلا يعير بعضهم بعضا ، لأن أولادهم كانوا مؤمنين . { قل استهزئوا إن الله مخرج } ، مظهر { ما تحذرون } . قال ابن كيسان : " نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين ، وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها ، ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه ، وتنكروا له في ليلة مظلمة ، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدروا ، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم ، و عمار بن ياسر يقود برسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته ، و حذيفة يسوق به ، فقال لحذيفة : من عرفت من القوم ؟ قال : لم أعرف منهم أحدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإنهم فلان وفلان حتى عدهم كلهم ، فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ قال : أكره أن تقول العرب . لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم ، بل يكفيناهم الله بالدبيلة " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن عيسى ، أنا محمد بن عيسى ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا محمد بن المثني ، ثنا محمد بن جعفر ، ثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عبادة قال : قلنا لعمار أرأيت قتالكم أرأيا رأيتموه ؟ فإن الرأي يخطأ ويصيب ، أو عهد عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن في أمتي _قال شعبة وأحسبه قال : حدثني حذيفة قال في أمتي _ اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ، ولا يجدون ريحها ، حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة ، سراج من النار يظهر في أكتافهم ، حتى ينجم من صدورهم " .
قال مجاهد : يقولون القول بينهم ، ثم يقولون : عسى الله ألا يفشي علينا سرنا هذا .
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ المجادلة : 8 ]
وقال في هذه الآية : { قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون } أي : إن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ، ويبين له{[13594]} أمركم كما قال : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } إلى قوله : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 29 ، 30 ]{[13595]} ؛ ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة " الفاضحة " ، فاضحة المنافقين .
{ يحذر المنافقون أن تنزّل عليهم } على المؤمنين . { سورة تنبّئهم بما في قلوبهم } وتهتك عليهم أستارهم ، ويجوز أن يكون الضمائر للمنافقين فإن النازل فيهم كالنازل عليهم من حيث إنه مقروء ومحتج به عليهم ، وذلك يدل على ترددهم أيضا في كفرهم وأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء . وقيل إنه خبر في معنى الأمر . وقبل كانوا يقولونه فيما بينهم استهزاء لقوله : { قل استهزؤوا إن الله مُخرج } مبرز أو مظهر . { ما تحذرون } أي ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم ، أو ما تحذرون إظهاره من مساويكم .
قوله ، { يحذر } خبر عن حال قلوبهم ، وحذرهم إنما هو أن تتلى سورة ومعتقدهم هل تنزل أم لا ليس بنص في الآية لكنه ظاهر ، فإن حمل على مقتضى نفاقهم واعتقادهم أن ذلك ليس من عند الله فوجه بين ، وإن قيل إنهم يعتقدون نزول ذلك من عند الله وهم ينافقون مع ذلك فهذا كفر عناد ، وقال الزجّاج وبعض من ذهب إلى التحرز من هذا الاحتمال : معنى يحذر الأمر وإن كان لفظه لفظ الخبر كأنه يقول «ليحذر » وقرأ أبو عمرو وجماعة معه «أن تنْزَل » ساكنة النون خفيفة الزاي ، وقرأ بفتح النون مشددة الزاي الحسن والأعرج وعاصم والأعمش ، و { أن } من قوله { أن تنزل } مذهب سيبويه ، أن ، { يحذر } عامل فهي مفعوله ، وقال غيره حذر إنما هي من هيئات النفس التي لا تتعدى مثل فزع وإنما التقدير يحذر المنافقون من أن تنزل عليهم سورة{[5765]} ، وقوله { قل استهزئوا } لفظه الأمر ومعناه التهديد ، ثم ابتدأ الإخبار عن أنه يخرج لهم إلى حيز الوجود ما يحذرونه ، وفعل ذلك تبارك وتعالى في سورة براءة فهي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين ، وقال الطبري : كان المنافقون إذ عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا شيئاً من أمره قالوا لعل الله لا يفشي سرنا فنزلت الآية في ذلك .
استئناف ابتدائي لذكر حال من أحوال جميع المنافقين كما تقدم في قوله : { يحلفون بالله لكم } [ التوبة : 62 ] وهو إظهارهم الإيمان بالمعجزات وإخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمغيبات .
وظاهر الكلام أنّ الحذر صادر منهم وهذا الظاهر ينافي كونهم لا يصدقون بأنّ نزول القرآن من الله وأنّ خبره صدق فلذلك تردّد المفسّرون في تأويل هذه الآية . وأحسن ما قيل في ذلك قول أبي مسلم الأصفهاني « هو حذر يظهره المنافقون على وجه الاستهزاء . فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم بأنّه يظهر سرّهم الذي حذروا ظهوره . وفي قوله : { استهزءوا } دلالة على ما ذكرناه ، أي هم يظهرون ذلك يريدون به إيهام المسلمين بصدق إيمانهم وما هم إلاّ مستهزئون بالمسلمين فيما بينهم ، وليس المراد بما في قلوبهم الكفر ؛ لأنّهم لا يظهرون أنّ ذلك مفروض ففعل { يحذر } فأطلق على التظاهر بالحذر ، أي مجاز مرسل بعلاقة الصورة ، والقرينة قوله : { قل استهزءوا } إذ لا مناسبة بين الحذر الحقّ وبين الاستهزاء لولا ذلك ، فإنّ المنافقين لمّا كانوا مبطنين الكفر لم يكن من شأنهم الحذر من نزول القرآن بكشف ما في ضمائرهم ، لأنّهم لا يصدقون بذلك فتعيّن صرف فعل { يحذر } إلى معنى : يتظاهرون بالحذر وعلى هذا القول يكون إطلاق الفعل على التظاهر بمدلوله من غرائِب المجاز . وتأوّل الزجاج الآية بأنّ { يحذر } خبر مستعمل في الأمر ، أي ليحذر . وعلى تأويله تكون جملة { قل استهزءوا } استئنافاً ابتدائياً لا علاقة لها بجملة { يحذر المنافقون } . ولهم وجوه أخرى في تفسير الآية بعيدة عن مهيعها ، ذكرها الفخر .
وضميراً { عليهم } و { تنبئهم } يجوز أن يعودا إلى المنافقين ، وهو ظاهر تناسق الضمائر ومعادها . وتكون ( على ) بمعنى لام التعليل أي تنزل لأجل أحوالهم كقوله تعالى : { ولتكبروا الله على ما هداكم } [ البقرة : 185 ] .
وهو كثير في الكلام ، وتكون تعدية { تنبئهم } إلى ضمير المنافقين : على نزع الخافض ، أي تنبيء عنهم ، أي تنبىء الرسول بما في قلوبهم .
ويجوز أن يكون تاء { تنبئهم } تاء الخطاب ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي : تنبئهم أنت بما في قلوبهم ، فيكون جملة { تنبئهم بما في قلوبهم } في محلّ الصفة ل { سورة } والرابط محذوف تقديره : تنبّئهم بها ، وهذا وصف للسورة في نفس الأمر ، لا في اعتقاد المنافقين ، فموقع جملة { تنبئهم بما في قلوبهم } استطراد .
ويجوز أن يعود الضميرانِ للمسلمين ، ولا يضرّ تخالف الضميرين مع ضمير { قلوبهم } الذي هو للمنافقين لا محالة ، لأنّ المعنى يَرُدُّ كلّ ضمير إلى ما يليق بأن يعود إليه .
واختيرت صيغة المضارع في { يحذر } لما تشعر به من استحضار الحالة كقوله تعالى : { فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ] وقوله : { يجاد لنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] .
والسورة : طائفة معيّنة من آيات القرآن ذات مبدأ ونهاية وقد تقدّم بيانها عند تفسير طالعة سورة فاتحة الكتاب .
والتنبئة الإخبار والإعلام مصدر نَبَّأ الخبر ، وتقدّم في قوله تعالى : { ولقد جاءك من نبإِ المرسلين } في سورة الأنعام ( 34 ) .
والاستهزاء : تقدّم في قوله : { إنما نحن مستهزئون } في أول البقرة ( 14 ) .
والإخراج : مستعمل في الإظهار مجازاً ، والمعنى : أنّ الله مظهر ما في قلوبكم بإنزال السور : مثل سورةِ المنافقين ، وهذه السورةِ سورةِ براءة ، حتّى سميت الفاضحة لما فيها من تعداد أحوالهم بقوله تعالى : ومنهم ، ومنهم ، ومنهم .
والعدول إلى التعبير بالموصول في قوله : { ما تحذرون } دون أن يقال : إنّ الله مخرج سورة تنبئكم بما في قلوبكم : لأنّ الأهمّ من تهديدهم هو إظهار سرائرهم لا إنزال السورة ، فذكر الصلة وافٍ بالأمرين : إظهارِ سرائرهم ، وكونه في سورة تنزِل ، وهو أنكى لهم ، ففيه إيجاز بديع كقوله تعالى في سورة كهيعص ( 80 ) { ونرثه ما يقول } بعد قوله : { وقال لأوتين مالا وولداً } [ مريم : 77 ] أي نرثه ماله وولده .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، يقول: تظهر المؤمنين على ما في قلوبهم. وقيل: إن الله أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المنافقين كانوا إذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا شيئا من أمره وأمر المسلمين، قالوا: لعلّ الله لا يفشي سرّنا، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: استهزءوا، متهدّدا لهم متوعدا، "إنّ اللّهُ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ"...
وأما قوله: "إنّ اللّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذرُونَ "فإنه يعني: إن الله مظهر عليكم أيها المنافقون ما كنتم تحذرون أن تظهروه، فأظهر الله ذلك عليهم وفضحهم، فكانت هذه السورة تدعى الفاضحة...فاضحة المنافقين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) يحتمل قوله (يحذر المنافقون) على الحق عليهم أن يحذروا لما أطلعهم الله ورسوله مرارا [على ما أسروا، وكتموا. ويحتمل على الخبر أنهم كانوا يحذرون (أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) لكثرة ما اطلع الله ورسوله من سرائرهم وسفههم. وقوله تعالى: (قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ) فهو، والله أعلم ليس على الأمر ولكن على الوعيد؛ يقول: استهزئوا فإن الله مظهر ومبين ما أسررتم، وكتمتم من العيب والاستهزاء برسوله والطعن فيه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ظَنُّوا أَنَّ الحقَّ -سبحانه- لا يفضحهم، فَدَلَّسُوا عليكم، وأنكروا ما انطوت عليه سرائرهم، فأرخى الله -سبحانه- عنانَ إمهالهم، ثم هتك الستر عن نفاقهم؛ فَفَضَحَهم عند أهل التحقيق، فتقنعوا بِخِمار الخجل، وكشف لأهل التحقيق مكامنَ الاعتبار. ونعوذ بالله من عقوبة أهل الاغترار!...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كانوا يستهزئون بالإسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم؛ حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إلاّ شرّ خلق الله، لوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة؛ وأن لا ينزل فينا شيء يفضحنا. والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين. وفي قلوبهم: للمنافقين. وصحّ ذلك لأن المعنى يقود إليه. ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين؛ لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم. ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم كأنها تقول لهم: في قلوبكم كيت وكيت، يعني أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها. وقيل: معنى يحذر: الأمر بالحذر، أي ليحذر المنافقون. فإن قلت: الحذر واقع على إنزال السورة في قوله: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} فما معنى قوله: {مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}؟
قلت: معناه محصل مبرز إنزال السورة. أو أنّ الله مظهر ما كنتم تحذرونه، أي تحذرون إظهاره من نفاقكم...
اعلم أنهم كانوا يسمون سورة براءة، الحافرة، حفرت عما في قلوب المنافقين... وقال الأصم: إن عند رجوع الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلا ليفتكوا به فأخبره جبريل، وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم، ثم قال:"من عرفت من القوم" فقال: لم أعرف منهم أحدا، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم وعدهم له، وقال: "إن جبريل أخبرني بذلك "فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم ليقتلوا، فقال: "أكره أن تقول العرب قاتل محمد بأصحابه حتى إذا ظفر صار يقتلهم بل يكفينا الله ذلك".
فإن قيل: المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول؟
الأول: قال أبو مسلم: هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر كل شيء ويدعي أنه عن الوحي، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره، وفي قوله: {استهزئوا} دلالة على ما قلناه.
الثاني: أن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنهم شاهدوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخبرهم بما يضمرونه ويكتمونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم.
الثالث: قال الأصم: أنهم كانوا يعرفون كونه رسولا صادقا من عند الله تعالى، إلا أنهم كفروا به حسدا وعنادا. قال القاضي: يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه أن يكون محادا لهما. قال الداعي إلى الله: هذا غير بعيد لأن الحسد إذا قوي في القلب صار بحيث ينازع في المحسوسات.
الرابع: معنى الحذر الأمر بالحذر، أي ليحذر المنافقون ذلك.
الخامس: أنهم كانوا شاكين في صحة نبوته وما كانوا قاطعين بفسادها. والشاك خائف، فلهذا السبب خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم} قال: يقولون القول فيما بينهم، ثم يقولون عسى أن لا يفشى علينا هذا. وأخرجوا -إلا الأول منهم- عن قتادة قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنبئة أنبأت بمثالبهم وعوراتهم. الجمهور على أن جملة [يحذر] خبر على ظاهرها، وعن الزجاج أنها إنشائية في المعنى، أي ليحذروا ذلك، وهو ضعيف. فالحذر –كالتعب- الاحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه كما يؤخذ من مفردات الراغب وأساس البلاغة [في مادتي ح ذر، وح رز] ويستعمل في الخوف الذي هو سببه، وقد استشكل هذا الحذر منهم وهم غير مؤمنين بالوحي، وأجاب أبو مسلم عن هذا الإشكال بأنهم أظهروا الحذر استهزاء، وأجاب الجمهور بما حاصله أن أكثر المنافقين كانوا شاكين مرتابين في الوحي ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا موقنين بشيء من الإيمان ولا من الكفر، فهم مذبذبون بين المؤمنين الموقنين والكافرين الجازمين بالكفر، ومنهم من كان شكه قوياً، ومن كان شكه ضعيفاً، وتقدم شرح حالهم وبيان أصنافهم في أول سورة البقرة فراجع تفسيره وما فيه من بلاغة المثلين اللذين ضربهما الله تعالى لهم. وهذا الحذر والإشفاق أثر طبيعي للشك والارتياب، فلو كانوا موقنين بتصديقه لما كان هناك محل لهذا الخوف والحذر لأن قلوبهم مطمئنة بالإيمان. واختلف المفسرون في ضمير {عليهم} قال بعضهم: هو للمنافقين المذكورين والمراد بنزوله عليهم في شأنهم، وبيان كنه حالهم، كقوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102] أي في شأن ملكه. ويقال: كان كذا على عهد الخلفاء، أي في عهدهم وزمنهم. والمراد بإنبائهم بما في قلوبهم لازمه وهو فضيحتهم وكشف عوارهم، وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم، وقال آخرون: هو للمؤمنين أي يحذر المنافقون أن ينزل على المؤمنين آية تنبئهم بما في قلوبهم أي قلوب المنافقين الحذرين من الشك والارتياب وتربص الدوائر بهم أي بالمؤمنين، وغير ذلك من الشر الذي يسرونه في أنفسهم، والأضغان التي يخفونها في قلوبهم. قيل: فيه تفكيك للضمائر، وأجيب بأن تفكيك الضمائر غير ممنوع، ولا ينافي البلاغة إلا إذا كان المعنى به غير مفهوم. ولنا في هذا المقام بحثان: أحدهما: أنه ليس ههنا تفكيك للضمائر، فإنه قد سبق أن المنافقين يحلفون للمؤمنين ليرضوهم، وقد وبخهم الله تعالى على اهتمامهم بإرضاء المؤمنين دون إرضاء الله ورسوله وهما أحق بالإرضاء، وأوعدهم على ذلك بأنه محادة لله ورسوله يستحقون بها الخلود في النار، ثم بين بطريقة الاستئناف سبب حلفهم للمؤمنين واهتمامهم بإرضائهم، بأنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، فتبطل ثقتهم بهم، فأعيد الضمير على المؤمنين لأن سياق الكلام فيهم. والبحث الآخر: أن إنزال الوحي يعدى بإلى وبعلى إلى الرسول الذي يتلقاه عن الله تعالى، ويعدى بهما إلى قومه المنزل ليتلى عليهم لأجل هدايتهم، وكلا الاستعمالين مكرر في القرآن. قال تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} [البقرة:136] الخ، وقال: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا} [آل عمران: 84] الخ، وقال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} [الأعراف: 3]، وقال: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231]، وقال: {لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون؟} [الأنبياء: 10]. قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون} استدل أبو مسلم الأصفهاني بهذا الجواب على أن المنافقين أظهروا الحذر مما ذكر استهزاء، ولم يكونوا يحذرون ذلك بالفعل لعدم إيمانهم، ويرده إسناد الحذر إليهم في أول الآية وآخرها، ولو صح هذا لذكر ذلك عنهم بالحكاية فأسند الحذر إلى قولهم ولم يسنده إليهم، كما أسند إليهم كثيراً من الأقوال في هذه السورة وغيرها، ومنها قوله تعالى في أوائل سورة البقرة: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون} [البقرة: 14]، ويؤيد وقوع الحذر منهم قوله تعالى في السورة المضافة إلى اسمهم {يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون: 4]، وفي الآية التالية لهذه الآية بيان لضرب آخر من استهزائهم في هذا المقام من سياق غزوة تبوك، فالاستهزاء دأبهم وديدنهم، وحذرهم من تنزيل السورة ليس من هذا الاستهزاء، بل من خوف عاقبته، وإنما العجب من أمرهم استمرارهم عليه مع هذا الحذر، وأما أمرهم به فهو للتهديد والوعيد عليه وبيان كونه سببا لإخراجه تعالى ما يحذرون ظهوره من مخبآت سرائرهم، ومكنونات ضمائرهم، والأصل في الإخراج أن يكون للشيء الخفي المستتر، أو المتمكن المستقر. ومن الأول قوله تعالى في المنافقين: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم} [محمد: 29] وقوله بعده: {ويخرج أضغانكم} [محمد: 37]، ومنه إخراج الموتى بالبعث، وإخراج الحب والنبات من الأرض، ومثله في التنزيل كثير. ومن الثاني النفي من الأوطان والديار وفيه آيات كقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} [الحج: 40]. فقوله تعالى: {مخرج ما تحذرون} [التوبة: 64] معناه أنه مخرجه الآن بتنزيل هذه السورة التي لم تدع في قلوبهم شيئا من مخبآت نفاقهم إلا أخرجته وأظهرته لهم وللمؤمنين...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
كانت هذه السورة الكريمة تسمى {الفاضحة} لأنها بينت أسرار المنافقين، وهتكت أستارهم، فما زال اللّه يقول: ومنهم ومنهم، ويذكر أوصافهم، إلا أنه لم يعين أشخاصهم لفائدتين: إحداهما: أن اللّه سِتِّيرٌ يحب الستر على عباده. والثانية: أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين الذين توجه إليهم الخطاب وغيرهم إلي يوم القيامة، فكان ذكر الوصف أعم وأنسب، حتى خافوا غاية الخوف. قال اللّه تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} وقال هنا {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: تخبرهم وتفضحهم، وتبين أسرارهم، حتى تكون علانية لعباده، ويكونوا عبرة للمعتبرين. {قُلِ اسْتَهْزِئُوا} أي: استمروا على ما أنتم عليه من الاستهزاء والسخرية. {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} وقد وفَّى تعالى بوعده، فأنزل هذه السورة التي بينتهم وفضحتهم، وهتكت أستارهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإنهم لأجبن من أن يواجهوا الرسول والذين معه، وإنهم ليخشون أن يكشف اللّه سترهم، وأن يطلع الرسول -[ص]- على نواياهم: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. قل استهزئوا إن اللّه مخرج ما تحذرون. ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب. قل: أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم؛ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي لذكر حال من أحوال جميع المنافقين كما تقدم في قوله: {يحلفون بالله لكم} [التوبة: 62] وهو إظهارهم الإيمان بالمعجزات وإخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمغيبات. وظاهر الكلام أنّ الحذر صادر منهم وهذا الظاهر ينافي كونهم لا يصدقون بأنّ نزول القرآن من الله وأنّ خبره صدق فلذلك تردّد المفسّرون في تأويل هذه الآية. وأحسن ما قيل في ذلك قول أبي مسلم الأصفهاني: هو حذر يظهره المنافقون على وجه الاستهزاء. فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم بأنّه يظهر سرّهم الذي حذروا ظهوره. وفي قوله: {استهزئوا} دلالة على ما ذكرناه، أي هم يظهرون ذلك يريدون به إيهام المسلمين بصدق إيمانهم وما هم إلاّ مستهزئون بالمسلمين فيما بينهم، وليس المراد بما في قلوبهم الكفر؛ لأنّهم لا يظهرون أنّ ذلك مفروض ففعل {يحذر} فأطلق على التظاهر بالحذر، أي مجاز مرسل بعلاقة الصورة، والقرينة قوله: {قل استهزئوا} إذ لا مناسبة بين الحذر الحقّ وبين الاستهزاء لولا ذلك، فإنّ المنافقين لمّا كانوا مبطنين الكفر لم يكن من شأنهم الحذر من نزول القرآن بكشف ما في ضمائرهم، لأنّهم لا يصدقون بذلك فتعيّن صرف فعل {يحذر} إلى معنى: يتظاهرون بالحذر وعلى هذا القول يكون إطلاق الفعل على التظاهر بمدلوله من غرائِب المجاز. وتأوّل الزجاج الآية بأنّ {يحذر} خبر مستعمل في الأمر، أي ليحذر. وعلى تأويله تكون جملة {قل استهزءوا} استئنافاً ابتدائياً لا علاقة لها بجملة {يحذر المنافقون}. ولهم وجوه أخرى في تفسير الآية بعيدة عن مهيعها، ذكرها الفخر. وضميراً {عليهم} و {تنبئهم} يجوز أن يعودا إلى المنافقين، وهو ظاهر تناسق الضمائر ومعادها. وتكون (على) بمعنى لام التعليل أي تنزل لأجل أحوالهم كقوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]. وهو كثير في الكلام، وتكون تعدية {تنبئهم} إلى ضمير المنافقين: على نزع الخافض، أي تنبئ عنهم، أي تنبىء الرسول بما في قلوبهم. ويجوز أن يكون تاء {تنبئهم} تاء الخطاب، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي: تنبئهم أنت بما في قلوبهم، فيكون جملة {تنبئهم بما في قلوبهم} في محلّ الصفة ل {سورة} والرابط محذوف تقديره: تنبّئهم بها، وهذا وصف للسورة في نفس الأمر، لا في اعتقاد المنافقين، فموقع جملة {تنبئهم بما في قلوبهم} استطراد. ويجوز أن يعود الضميرانِ للمسلمين، ولا يضرّ تخالف الضميرين مع ضمير {قلوبهم} الذي هو للمنافقين لا محالة، لأنّ المعنى يَرُدُّ كلّ ضمير إلى ما يليق بأن يعود إليه. واختيرت صيغة المضارع في {يحذر} لما تشعر به من استحضار الحالة كقوله تعالى: {فتثير سحاباً} [الروم: 48] وقوله: {يجاد لنا في قوم لوط} [هود: 74]. والسورة: طائفة معيّنة من آيات القرآن ذات مبدأ ونهاية وقد تقدّم بيانها عند تفسير طالعة سورة فاتحة الكتاب. والتنبئة الإخبار والإعلام مصدر نَبَّأ الخبر، وتقدّم في قوله تعالى: {ولقد جاءك من نبإِ المرسلين} في سورة الأنعام (34).
والاستهزاء: تقدّم في قوله: {إنما نحن مستهزئون} في أول البقرة (14).
والإخراج: مستعمل في الإظهار مجازاً، والمعنى: أنّ الله مظهر ما في قلوبكم بإنزال السور: مثل سورةِ المنافقين، وهذه السورةِ سورةِ براءة، حتّى سميت الفاضحة لما فيها من تعداد أحوالهم بقوله تعالى: ومنهم، ومنهم، ومنهم. والعدول إلى التعبير بالموصول في قوله: {ما تحذرون} دون أن يقال: إنّ الله مخرج سورة تنبئكم بما في قلوبكم: لأنّ الأهمّ من تهديدهم هو إظهار سرائرهم لا إنزال السورة، فذكر الصلة وافٍ بالأمرين: إظهارِ سرائرهم، وكونه في سورة تنزِل، وهو أنكى لهم، ففيه إيجاز بديع كقوله تعالى في سورة كهيعص (80) {ونرثه ما يقول} بعد قوله: {وقال لأوتين مالا وولداً} [مريم: 77] أي نرثه ماله وولده...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المنافق دائما حذر من أن ينكشف أمره، وقد رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينزل عليه الوحي ويخبره بكشف أمر المنافقين، فكانوا يخشون إذا نزلت سورة أن يكون فيها كشف لأمر من أمورهم، فقال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}.
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ}، إخبار عن المنافقين بأنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة، والحذر يكون دائما من شأن من يستر شيئا؛ لأنه يخشى أن ينكشف، وإذا كشف ضاع الغرض الذي ستره من أجله، والسورة الجزء من القرآن المفصول عن غيره كأنه سور بسور يحده، والتنزيل من الله تعالى على نبيه الكريم، فلا تنزل على المنافقين، إنما تنزل على قلب محمد الأمين، فكيف تنزل عليهم، ولكن المراد أنها تنزل في شأنهم، وكانت التعدية ب (على) للإشارة إلى أنها تنزل عليهم كالصاعقة يفاجئون بها، وعلى ذلك يكون الضمير في {عَلَيْهِمْ} يعود إلى المنافقين، وكذلك الضمير في {تُنَبِّئُهُمْ}، وقوله تعالى: {بِمَا فِي قُلُوبِهِم} ويصح أن يكون قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ}، في معنى الأمر، وكثيرا ما تجيء الصيغة الخبرية بمعنى الأمر، كما في قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} (البقرة 233)، وكما في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء.} (البقرة 228) فإن الخبر في كل هذه الصيغ يدل على الطلب.
ولكن تخريجها بمعنى الخبر أولى؛ لأنه يناسبه قوله تعالى في الآية: {إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}.
...كان المنافقون يستهزئون في مجالسهم بالنبي بِمَا فِي قُلُوبِهِم وبالمسلمين وبالجهاد، حتى أنهم كانوا في غزوة تبوك التي كانت ذاهبة إلى الشام يتهكمون على المؤمنين، ويستهزئون بهم، ولا يكتفون بالقعود عنهم، ولقد روى إنهم كانوا يقولون مستهزئين: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات. وكانوا يريدون ألا يطلع على ذلك أحد من المؤمنين، ولذا قال تعالى: {قُلِ اسْتَهْزِئوا}، هذا أمر للتهديد، كقولك للمجرم الذي بدا إجرامه: افعل ما شئت، وكقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
{إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}، أي إن الله تعالى كاشف ما تأمرون به، وما تستهزئون به من قول يكشف عن نفاقكم، وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}، أي أن يخرج، تأكيد لإخراج هذا الأمر الذي يحذرون خروجه، أولا بالجملة الاسمية، و {إن}، الدالة على توكيد الخبر، وفي التعبير بلفظ الجلالة الذي يربي الرهبة والخوف في النفس، وقوله: {مخرج} فيه إشارة إلى مبالغتهم في الحذر، كأنهم دفنوه فأخرج من دفين نفوسهم.
ولقد جاء في تفسير أبي مسلم أن قوله تعالى: {يحذر المنافقون...} من قبيل تهكمهم على القرآن، فقال هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر كلامهم ويدعى انه من الوحي، وكان المنافقون يكذبون ذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا إظهاره، ولذلك قال تعالى: {قُلِ اسْتَهْزِئواْ}، أي بالله وآياته ورسوله، أو افعلوا الاستهزاء، وهو أمر تهديد {إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} أي مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه.
ويقول إن هذا احتمال، ولكن السياق القرآني يدل على استهزاء أظهره الله تعالى.
وإن هذه الآية تدل على أنهم يكثرون من الاستهزاء والله مخرج أمورهم، حتى لا يخدع فيهم مؤمن قال تعالى: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم (30)} (محمد).
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم نبه كتاب الله إلى المخاوف التي أخذت تساور المنافقين من جراء إلقاء الأضواء الكاشفة عليهم يوما بعد يوم، وأنهم يتهيبون أن تنزل على الرسول في شأنهم سورة خاصة بهم، إذ ذاك يرفع عن وجوههم آخر برقع من البراقع الشفافة، ويتعرضون لنقمة المؤمنين وغضبهم قبل حلول يوم الحساب، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم}، وأنذرهم كتاب الله عقب ذلك بما يؤكد مخاوفهم قائلا: {قل استهزءوا، إن الله مخرج ما تحذرون}...
ثم يفضح الحق سبحانه وتعالى المنافقين فيقول: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون}. والحذر معناه الاستعداد لدفع خطر أو ضرر متوقع،... فالحذر هو الإعداد لدفع خطر أو ضرر متوقع. ولكن إذا كانت السورة تتنزل من عند الله على رسوله فكيف يحذرون ويستعدون لنزول هذه السورة؟. نقول: إن هذا استهزاء بهم، لأنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، ولأن آيات سابقة نزلت تفضح ما يخبئونه في نفوسهم. فهم دائما خائفون من أن تنزل آية جديدة تفضحهم أمام المسلمين. الحق سبحانه وتعالى يريدهم أن يعرفوا أنه عليم بما في نفوسهم، ويخوفهم من أن تتنزل آيات تكشفهم، فهم يخشون أن يخرج ما في بواطنهم من كفر يخفونه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَحْذَرُ}: الحذر: التحرّز ومجانبة الشيء خوفاً منه. في بعض أجواء المنافقين وينطلق المنافقون بأسلوب الاستهزاء يحاولون من خلاله الإساءة إلى الإسلام والمسلمين بطريقة نفسية تهزم الروح القوية التي تنطلق بها المسيرة في خط المواجهة في طريق المستقبل، ولكنهم يحاولون أن يتحقق ذلك بطريقةٍ خفيّة، لا تكشف نفاقهم، ليتمّ لهم اللعب بحريّة في داخل المجتمع، ليعيثوا فيه فساداً من حيث لا يشعر بهم أحد. وكانت تجاربهم السابقة تملأ قلوبهم بالخوف من كشف أمرهم، في ما ينزل به القرآن في كل وقت ليحدّث المسلمين عن خفاياهم وأساليبهم الشيطانية في الكيد للإسلام والمسلمين. ولذا فإنهم يعملون ما يعملون بروحٍ قلقةٍ حذرة، وبذهنيّةٍ خائفةٍ مرتبكةٍ، وذلك هو شأن المنافقين في كل زمان ومكان، في ما يريدون أن يحصلوا عليه من الثقة بهم، مع الحفاظ على مكاسبهم في اتجاه خطّ التآمر والكيد. حذر المنافقين من كشف القرآن لهم {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} من النوايا الخفيّة السيّئة التي تفضحهم في ما يريدون أن يفعلوا أو يتركوا في اتجاه الهدم والإضلال {قُلِ اسْتَهْزِئواْ} ما امتد بكم المجال من أساليب السخرية والاستهزاء بالإسلام والمسلمين، فسيكشف الله لنا ذلك كله لنواجهه بالأساليب المناسبة التي تبطل مفعوله وتعطّل نتائجه {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} من خلال ما يظهره ويكشفه للناس. وقد فسر البعض من المفسرين الحذر بأنه وارد على سبيل السخرية، ولكنه خلاف الظاهر، ويحاولون أن يبرّروا ذلك كله، بأن الأمر لا يمثل حالةً جديّةً في مواجهة المجتمع المسلم في دينه وعقيدته، بل كل ما هناك أنهم يحاولون الخوض في الحديث في ما يخوض به الخائضون من أفانين الكلام من دون أيّة عقدةٍ داخليّةٍ مضادة، وأنهم كانوا يلعبون كما يلعب الناس، فلا ينبغي محاسبتهم على ذلك، كما لو كان الأمر يمثل خطّةً بعيدة المدى...