اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَحۡذَرُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيۡهِمۡ سُورَةٞ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمۡۚ قُلِ ٱسۡتَهۡزِءُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخۡرِجٞ مَّا تَحۡذَرُونَ} (64)

قوله تعالى : { يَحْذَرُ المنافقون } الآية .

قال قتادة " هذه السُّورة كانت تُسمَّى الفاضحة ، والحافرة ، والمبعثرة ، والمثيرة ، أثارت مخازيهم ومثالبهم{[17949]} " قال ابن عباسٍ : " أنزل اللهُ تعالى ذكر سبعين رجلاً من المنافقين بأسمائهم ، وأسماء آبائهم ، ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين ، لئلاَّ يُعيّر بعضهم بعضاً ؛ لأن أولادهم كانوا مؤمنين " {[17950]} .

وقال الجبائيُّ : " اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين على النِّفاقِ ، وأخبر جبريل الرسول بأسمائهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنَّ أناساً اجتمعُوا على كَيْت وكَيْت ، فليقُومُوا وليعتَرِفُوا وليسْتغفِرُوا ربَّهم حتَّى أشفع لهُمْ " فلم يقوموا ، فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك " قُمْ يا فلانُ ويا فلانُ " حتى أتى عليهم ثم قالوا : نعترف ونستغفر فقال : " الآن أنَا كُنْتُ في أوَّل الأمْرِ أطيب نَفْساً بالشَّفَاعةِ ، والله كانَ أسْرعَ في الإجابةِ ، اخرُجُوا عنِّي " فلم يزلْ يقول حتى خرجوا بالكليَّة " {[17951]} .

وقال الأصمُّ : إنَّ " عند رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به ؛ فأخبره جبريل ، وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة ، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم ، فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال : " مَنْ عرفت من القوْمِ " ؟ فقال : لم أعرف منهم أحداً ، فذكر النبيُّ عليه الصلاة والسلام أسماءهم وعدهم له ، وقال : " إنَّ جبريل أخبرني بذلك " فقال حذيفة : ألا تَبْعَثُ إليه فتقتلهم ، فقال : " أكره أن تقول العرب قاتل أصحابه حتَّى إذا ظفر صار يقتلهم ، بل يَكْفِينَاهُمُ اللهُ بالدبيلة " {[17952]} .

فإن قيل : الكافرُ منافق ، فكيف يحذرُ نزول الوحي على الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؟ فالجوابُ ، من وجوه :

أحدها : قال أبُو مسلم : " هذا حذر أظهرهُ المنافقون استهزاء حين رأوا الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - يذكر كلَّ شيء ويدعي أنَّهُ عن الوحي ، وكان المنافقُون يكذبون بذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأمره أن يعلمهم أنَّه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره ، ويدلُّ على ذلك قوله : استَهْزئُوا " .

وثانيها : أنَّ القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنَّهم شاهدوا أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يخبرهم بما يفسرونه ، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم .

وثالثها : قال الأصمُّ : إنَّهم كانوا يعرفونه كونه رسولاً حقاً من عند الله ، إلاَّ أنَّ كفرهم كان حسداً وعناداً .

ورابعها : معنى الحذر الأمر بالحذر ، أي : ليحذر المنافقون ذلك .

وخامسها : أنَّهم كانُوا شاكين في صحَّة نبوته ، والشَّاك خائف ، فلهذا خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم .

قوله : " أَن تُنَزَّلَ " مفعولٌ به ، ناصبه " يَحْذَرُ " ، فإنَّ " يَحْذَرُ " متعدٍّ بنفسه كقوله تعالى : { وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] ، لولا أنه متعدِّ في الأصل لواحدٍ ، لما اكتسب بالتضعيف مفعولاً ثانياً ؛ ويدلُّ عليه أيضاً ما أنشده سيبويه : [ الكامل ]

حَذِرٌ أمُوراً لا تَضِيرُ وآمِنٌ *** مَا لَيْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ{[17953]}

وفي البيت كلامٌ ، قيل : إنه مصنوع . وقال المبردُ : إنَّ " حَذِر " لا يتعدَّى ، قال : لأنَّهُ من هيئات النفس ، ك " فَزع " . وهذا غير لازم . فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍّ ك : " خاف " ، وخشي ، فإنَّ " تُنَزَّل " عند المبرد على إسقاط الخافض أي : مِنْ أن تُنَزَّل .

وقوله : " تُنَبِّئُهُمْ " في موضع الرفع صفةً ل " سورة " .

قال الزمخشريُّ " الضميرُ في قوله " عليهم " و " تنبّئهم " للمؤمنين ، و " في قُلُوبهمْ " للمنافقين ، ويجوزُ أيضاً أن تكون الضمائرُ كلها للمنافقين ؛ لأنَّ السُّورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم ، ومعنى " تُنبِّئُهم بما في قلوبهم " أنَّ السورة كأنَّها تقول لهم في قلوبكم كيت وكيت ، يعني أنَّها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنَّها تخبرهم بها " .

ثم قال : { قُلِ استهزءوا } هذا أمر تهديد ، { إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } .


[17949]:?????
[17950]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/307).
[17951]:ذكره الرازي في تفسيره (16/96).
[17952]:أخرجه مسلم (4/2143-2144) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (10، 11/2778) بمعناه.
[17953]:تقدم.