91- وأوفوا بالعهود التي تقطعونها على أنفسكم ، مشهدين اللَّه على الوفاء بها ، ما دام الوفاء متسقا مع ما شرعه اللَّه ، ولا تنقضوا الأيمان بالحِنث فيها ، بعد تأكيدها بذكر اللَّه ، وبالعزم وبالتصميم عليها ، وقد راعيتم في عهودكم وحلفكم أن اللَّه يكفل وفاءكم ، وأن اللَّه رقيب ومطلع عليكم ، فكونوا عند عهودكم وأيمانكم ؛ لأن اللَّه - سبحانه - يعلم ما يكون منكم من وفاء وخُلف وبرّ وحِنث ، فيجازيكم على ما تفعلون .
قوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } ، والعهد هاهنا هو : اليمين . قال الشعبي : العهد يمين ، وكفارته كفارة يمين ، { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } ، تشديدها ، فتحنثوا فيها . { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } ، شهيداً بالوفاء . { إن الله يعلم ما تفعلون } ، واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية وإن كان حكمها عاماً . قيل : نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمرهم الله بالوفاء بها . وقال مجاهد و قتادة : نزلت في حلف أهل الجاهلية .
وهذا مما يأمر الله تعالى به{[16661]} ، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق ، والمحافظة على الأيمان المؤكدة ؛ ولهذا قال : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ،
ولا تعارض بين هذا وبين قوله : { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا [ وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ] } [ البقرة : 224 ]{[16662]} وبين قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] ، أي : لا تتركوها بلا تكفير ، وبين قوله عليه السلام{[16663]} فيما ثبت عنه في الصحيحين{[16664]} : إني والله إن شاء الله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " . وفي رواية : " وكفرت عن يميني " ، لا تعارض بين هذا كله ، ولا بين الآية المذكورة هاهنا ، وهي قوله : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ] }{[16665]} ؛ لأن هذه الأيمان ، المراد بها : الداخلة في العهود والمواثيق ، لا الأيمان التي هي واردة على حَثّ أو منع ؛ ولهذا قال مجاهد في قوله : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، يعني : الحِلْف ، أي : حلْفَ الجاهلية ؛ ويؤيده ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - ، حدثنا ابن نُمَيْر وأبو أسامة ، عن زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جُبَيْر بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حِلْف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " .
وكذا رواه مسلم ، عن ابن أبي شيبة ، به{[16666]} .
ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلْف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه ، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه .
وأما ما ورد في الصحيحين ، عن عاصم الأحول ، عن أنس ، رضي الله عنه ، أنه قال : حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا{[16667]} - فمعناه : أنه آخى بينهم ، فكانوا يتوارثون به ، حتى نسخ الله ذلك ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، حدثنا عبيد الله{[16668]} بن موسى ، أخبرنا ابن أبي ليلى ، عن مَزِيدة{[16669]} في قوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } ، قال : نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ، كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، فقال : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } ، هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام ، { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } البيعة ، لا يحملنكم قلة محمد [ وأصحابه ]{[16670]} وكثرة المشركين ، أن تنقضوا البيعة التي تبايعتم على الإسلام .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا صخر بن جُوَيرية ، عن نافع قال : لما خلع الناس يزيد بن معاوية ، جمع ابن عمر بنيه وأهله ، ثم تشهد ، ثم قال : أما بعد ، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة ، فيقال{[16671]} هذه غَدْرة فلان ، وإن من أعظم الغَدْر - إلا أن يكون الإشراك بالله - أن يبايع رجل رجلا على بيعة الله ورسوله ، ثم ينكث بيعته ، فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر ، فيكون صَيْلم بيني وبينه " {[16672]} .
المرفوع منه في الصحيحين{[16673]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حجاج ، عن عبد الرحمن بن عابس ، عن أبيه ، عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من شرط لأخيه شرطًا ، لا يريد أن يفي له به ، فهو كالمدلي جاره إلى غير مَنْعَة " {[16674]} .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ، تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وأوفوا بميثاق الله إذا واثقتموه ، وعقده إذا عاقدتموه ، فأوجبتم به على أنفسكم حقّا لمن عاقدتموه به وواثقتموه عليه . وَلا تَنقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها يقول : ولا تخالفوا الأمر الذي تعاقدتم فيه الأيمان ، يعني بعد ما شددتم الأيمان على أنفسكم ، فتحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها وتنقضوها بعد إبرامها ، يقال منه : وكّد فلان يمينه يوكّدها توكيدا : إذا شددها وهي لغة أهل الحجاز ، وأما أهل نجد ، فإنهم يقولون : أكّدتها أؤكدها تأكيدا . وقوله : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } ، يقول : وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم راعيا يرعى الموفى منكم بعهد الله الذي عاهد على الوفاء به والناقض .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف بينهم فيمن عُنِيَ بهذه الآية وفيما أنزلت ، فقال بعضهم : عُنِي بها الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، وفيهم أنزلت . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو ليلى ، عن بريدة ، قوله : { وأوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إذَا عاهَدْتُمْ } ، قال : أنزلت هذه الآية في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كان من أسلم بايع على الإسلام ، فقالوا : { وأوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إذَا عاهَدْتُمْ } ، هذه البَيعة التي بايعتم على الإسلام ، وَلا تَنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها البيعة ، فلا يحملكم قلة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام ، وإن كان فيهم قلة والمشركين فيهم كثرة .
وقال آخرون : نزلت في الحِلْف الذي كان أهل الشرك تحالفوا في الجاهلية ، فأمرهم الله عزّ وجلّ في الإسلام أن يوفّوا به ولا ينقضوه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : { وَلا تَنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها } ، قال : تغليظها في الحلف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلا تَنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها } ، يقول : بعد تشديدها وتغليظها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هؤلاء قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا وأعطى بعضهم العهد ، فجاءهم قوم ، فقالوا : نحن أكثر وأعزّ وأمنع ، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ففعلوا ، فذلك قول الله تعالى : { وَلا تَنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } ، أن تكون أمة هي أربى من أمة ، هي أرَبى أكثر من أجل أن كان هؤلاء أكثر من أولئك ، نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء ، فكان هذا في هذا .
حدثني ابن البرَقيّ ، قال : حدثنا ابن أبي مَريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : سألت يحيى بن سعيد ، عن قول الله : { وَلا تَنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها } ، قال : العهود .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم ، ونهاهم عن نقض الأيمان بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين بعقود تكون بينهم بحقّ مما لا يكرهه الله . وجائز أن تكون نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيهم عن نقض بيعتهم حذرا من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين ، وأن تكون نزلت في الذين أرادوا الانتقال بحلفهم عن حلفائهم لقلة عددهم في آخرين لكثرة عددهم ، وجائز أن تكون في غير ذلك . ولا خبر تَثْبُت به الحجة أنها نزلت في شيء من ذلك دون شيء ، ولا دلالة في كتاب ولا حجة عقل أيّ ذلك عُنِيَ بها ، ولا قول في ذلك أولى بالحقّ مما قلنا لدلالة ظاهره عليه ، وأن الآية كانت قد نزلت لسبب من الأسباب ، ويكون الحكم بها عامّا في كلّ ما كان بمعنى السبب الذي نزلت فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } ، قال : وكيلاً .
وقوله : { إنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ } ، يقول تعالى ذكره : إن الله أيها الناس يعلم ما تفعلون في العهود التي تعاهدون الله من الوفاء بها والأحلاف والأيمان التي تؤكدونها على أنفسكم ، أتبرّون فيها أم تنقضونها ، وغير ذلك من أفعالكم ، محصٍ ذلك كله عليكم ، وهو مسائلكم عنها وعما عملتم فيها ، يقول : فاحذروا الله أن تلقوه وقد خالفتم فيها أمره ونهيه ، فتستوجبوا بذلك منه ما لا قِبَل لكم به من ألم عقابه .
{ وأوفوا بعهد الله } ، يعني : البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } . وقيل : كل أمر يجب الوفاء به ولا يلائمه قوله : { إذا عاهدتم } ، وقيل : النذور . وقيل : الإيمان بالله ، { ولا تنقضوا الأيمان } ، أي : أيمان البيعة ، أو مطلق الأيمان . { بعد توكيدها } ، بعد توثيقها بذكر الله تعالى ، ومنه أكد بقلب الواو همزة . { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } ، شاهدا بتلك البيعة ، فإن الكفيل مراع لحال المكفول به ، رقيب عليه . { إن الله يعلم ما تفعلون } ، من نقض الأيمان والعهود .
قوله : { وأوفوا } ، و «عهد الله » ، لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان ، من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة ، وبالجملة : كل ما كان طاعة بين العاهد وبين ربه ، كان فيه نفع للغير أو لم يكن . وقوله : { ولا تنقضوا الأيمان } ، خص في هذه الألفاظ العهود التي تقترن بها أيمان ، تهمماً بها وتنبيهاً عليها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا في كل ما كان الثبوت فيه على اليمين طاعة لله ، وما كان الانصراف عنه أصوب في الحق ، فهو الذي قاله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من حلف على يمين ، ثم رأى غيرها خيراً منها ، فليكفر عن يمينه ، وليأت الذي هو خير . »{[7405]} ويقال تأكيد وتوكيد ، ووكد وأكد وهما لغتان ، وقال الزجاج : الهمزة مبدلة من الواو .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير بين ؛ لأنه ليس في وجوه تصريفه ما يدل على ذلك ، و { كفيلاً } ، معناه : متكفلاً بوفائكم ، وباقي الآية وعيد ، في ضمن خبر بعلم الله تعالى بأفعال عباده ، وقالت فرقة : نزلت هذه الآية في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، رواه أبو ليلى عن مزيدة ، وقال قتادة ومجاهد وابن زيد : نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، فزادها الإسلام شدة{[7406]} .
قال القاضي أبو محمد : كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا حلف في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة » ، وهذا حديث معنى ، وإن كان السبب بعض هذه الأشياء ، فألفاظ الآية عامة على جهة مخاطبة العالمين أجمعين .
لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قوله : { يعظكم لعلكم تذكرون } [ سورة النحل : 90 ] . فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنّن القرآن ، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبيّن لكل شيء . لا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عندما أسلموا ، وهو ما بايعوا عليه النبي مما فيه : أن لا يعصوه في معروف . وقد كان النبي يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكّة .
وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى ، مثل النّصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة ، ومثل بيعة الحديبية .
والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة ، وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي على الإسلام الذي دعاهم الله إليه ، فهم قد عاهدوا الله كما قال : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ سورة الفتح : 10 ] ، وقال : { من المؤمنين رجال صَدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ سورة الأحزاب : 23 ] . والمقصود : تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله .
و { إذا } لمجرّد الظرفية ، لأنّ المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة ، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء . فالمعنى : أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد . والقرينة على ذلك قوله : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } [ سورة النحل : 91 ] والعهد : الحلف . وتقدّم في قوله تعالى : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } . وكذلك النقض تقدم في تلك الآية ، ونقض الأيمان : إبطال ما كانت لأجله . فالنقض إبطال المحْلوف عليه لا إبطال القسم ، فجُعِل إبطال المحلوف عليه نقضاً لليمين في قوله : { ولا تنقضوا الأيمان } تهويلاً وتغليظاً للنّقض لأنه نقض لحرمة اليمين .
و { بعد توكيدها } زيادة في التحذير ، وليس قيْداً للنّهي بالبعدية ، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة ، وليست فيها بعدية .
و { بعد } هنا بمعنى ( مع ) ، إذ البعدية والمعيّة أثرهما واحد هنا ، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها ، كقول الشميذر الحارثي :
بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعدما *** دفنتم بصحراء الغُمَيْر القوافيا
أي لا تذكروا أنّكم شعراء وأن لكم شعراً ، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغُمير ، وقوله تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ سورة الحجرات : 11 ] ، وقوله : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .
والتّوكيد : التوثيق وتكرير الفتل ، وليس هو توكيد اللفظ كما توهّمه بعضهم فهو ضدّ النقض . وإضافته إلى ضمير { الأيمان } ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدّد بل الاسم ، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام ، أي التوكيد الثابت لها المختصّ بها . والمعنى : بعد ما فيها من التوكيد ، وبيّنه قوله : { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } .
والمعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد حلفها . وليس في الآية إشعار بأن من اليمين ما لا حرج في نقضه ، وهو ما سمّوه يمين اللّغو ، وذلك انزلاق عن مهيع النظم القرآني .
ويؤيّد ما فسرناه قوله : { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } الواقع موقع الحال من ضمير { لا تنقضوا } ، أي لا تنقضوا الأيمان في حال جعلكم الله كفيلاً على أنفسكم إذا أقسمتم باسمه ، فإن مدلول القسم أنه إشهاد الله بصدق ما يقوله المقسم : فيأتي باسم الله كالإتيان بذات الشاهد . ولذلك سُمّيَ الحلف شهادة في مواضع كثيرة ، كقوله : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } [ سورة النور : 6 ] . والمعنى أن هذه الحالة أظهر في استحقاق النّهي عنها .
والكفيل : الشاهد والضامن والرقيب على الشيء المراعى لتحقيق الغرض منه .
والمعنى : أن القسم باسم الله إشهاد لله وكفالة به . وقد كانوا عند العهد يحلفون ويشهدون الكفلاء بالتنفيذ ، قال الحارث بن حلّزة :
واذكروا حلف ذي المجاز وما قُ *** دّم فيه العهود والكفلاء
و { عليكم } متعلّق ب { جعلتم } لا ب { كفيلاً } أي أقمتموه على أنفسكم مقام الكفيل ، أي فهو الكفيل والمكفول له من باب قولهم : أنت الخصم والحكم ، وقوله تعالى : { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } [ سورة التوبة : 118 ] .
وجملة { إن الله يعلم ما تفعلون } معترضة . وهي خبر مراد منه التحذير من التساهل في التمسّك بالإيمان والإسلام لتذكيرهم أن الله يطّلع على ما يفعلونه ، فالتوكيد ب { إن } للاهتمام بالخبر .
وكذلك التأكيد ببناء الجملة بالمسند الفعلي دون أن يقال : إن الله عليم ، ولا : قد يعلم الله .
واختير الفعل المضارع في { يعلم } وفي { تفعلون } لدلالته على التجدّد ، أي كلما فعلوا فعلاً فالله يعلمه .
والمقصود من هذه الجمل كلها من قوله : { وأوفوا بعهد الله } إلى هنا تأكيد الوصاية بحفظ عهد الأيمان . وعدم الارتداد إلى الكفر ، وسدّ مداخل فتنة المشركين إلى نفوس المسلمين ، إذ يصدّونهم عن سبيل الإسلام بفنون الصدّ ، كقولهم : { نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } [ سورة سبأ : 35 ] ، كما أشار إليه قوله تعالى : { وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } وقد تقدم ذلك في سورة الأنعام ( 53 ) .
ولم يذكر المفسّرون سبباً لنزول هذه الآية ، وليست بحاجة إلى سبب . وذكروا في الآية الآتية وهي قوله : { من كفر بالله من بعد إيمانه } [ سورة النحل : 106 ] أن آية { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } إلى آخرها نزلت في الذين رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان لما فتنهم المشركون كما سيأتي ، فجعلوا بين الآيتين اتصالاً .
قال في « الكشاف » : كأن قوماً ممن أسلم بمكة زَيّنَ لهم الشيطان لجزعهم ما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ، ولِمَا كانوا يَعِدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبّتهم الله ا ه . يريد أن لهجة التحذير في هذا الكلام إلى قوله : { إنما يبلوكم الله به } [ سورة النحل : 92 ] تنبىء عن حالة من الوسوسة داخلت قلوب بعض حديثي الإسلام فنبّأهم الله بها وحذّرهم منها فسلموا .