قوله تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } الآية . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم ، وأغلظ علي رضي الله عنه له القول . فقال العباس : مالكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا ؟ . فقال له علي رضي الله عنه : ألكم محاسن ؟ فقال نعم : إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ، فأنزل الله عز وجل ردا على العباس : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } ، أي : ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله . أوجب على المسلمين منعهم من ذلك ، لأن المساجد إنما تعمر لعبادة الله وحده ، فمن كان كافرا بالله فليس من شأنه أن يعمرها . فذهب جماعة إلى أن المراد منه : العمارة المعروفة من بناء المساجد ومرمته عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا يمتثل . وحمل بعضهم العمارة ههنا على دخول المسجد والقعود فيه . قال الحسن : ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام . قرأ ابن كثير وأهل البصرة : مسجد الله على التوحيد ، وأراد به المسجد الحرام ، لقوله تعالى :{ وعمارة المسجد الحرام } ، ولقوله تعالى { فلا يقربوا المسجد الحرام } ، وقرأ الآخرون : مساجد الله بالجمع والمراد منه أيضا المسجد الحرام . قال الحسن : إنما قال مساجد لأنه قبلة المساجد كلها . قال الفراء : ربما ذهب العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد ، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول : أخذت في ركوب البراذين ، ويقال : فلان كثير الدرهم والدينار ، يريد الدراهم والدنانير .
قوله تعالى : { شاهدين على أنفسهم بالكفر } ، أراد : وهم شاهدون ، فلما طرحت " وهم " نصبت ، قال الحسن : لم يقولوا نحن كفار ، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر . وقال الضحاك عن ابن عباس : شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام ، وذلك أن كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ، كلما طافوا شوطا سجدوا لأصنامهم ، ولم يزدادوا بذلك من الله تعالى إلا بعدا . وقال السدي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل من أنت ؟ فيقول : أنا نصراني ، واليهودي ، يقول : أنا يهودي ، ويقال للمشرك : ما دينك ؟ فيقول : مشرك . قال الله تعالى
قوله تعالى : { أولئك حبطت أعمالهم } لأنها لغير الله عز وجل .
قوله تعالى : { وفي النار هم خالدون } . قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : معناه شاهدين على رسولهم بالكفر ، لأنه ما في بطن إلا ولدته .
يقول تعالى : ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له . ومن قرأ : " مسجد الله " فأراد به المسجد الحرام ، أشرف المساجد في الأرض ، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له . وأسسه خليل الرحمن هذا ، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر ، أي : بحالهم وقالهم ، كما قال السُّدِّي : لو سألت النصراني : ما دينك ؟ لقال : نصراني ، واليهودي : ما دينك ؟ لقال يهودي ، والصابئي ، لقال : صابئي ، والمشرك ، لقال : مشرك .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النّارِ هُمْ خَالِدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر . يقول : إن المساجد إنما تعمر لعبادة الله فيها لا للكفر به ، فمن كان بالله كافرا فليس من شأنه أن يعمر مساجد الله .
وأما شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، فإنها كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ شاهِدِينَ على أنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ يقول : ما ينبغي لهم أن يعمروها . وأما شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ فإن النصرانيّ يسأل : ما أنت ؟ فيقول : نصراني ، واليهودي ، فيقول : يهودي ، والصابىء ، فيقول : صابىء ، والمشرك يقول إذا سألته : ما دينك ؟ فيقول : مشرك لم يكن ليقوله أحد إلا العرب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو العنقزي ، عن أسباط ، عن السديّ : ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ قال : يقول : ما كان ينبغي لهم أن يعمروها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : شاهِدِينَ على أنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ قال : النصراني يقال له : ما أنت ؟ فيقول : نصراني ، واليهودي يقال له : ما أنت ؟ فيقول : يهودي ، والصابىء يقال له : ما أنت ؟ فيقول : صابىء .
وقوله : أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعمالُهُمْ يقول : بطلت وذهبت أجورها ، لأنها لم تكن لله ، بل كانت للشيطان . وفِي النّارِ هُمْ خالِدُونَ يقول : ماكثون فيها أبدا ، لا أحياءً ولا أمواتا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة : مَساجِدَ اللّهِ على الجمع . وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : «مَسْجِدَ اللّهِ » على التوحيد ، بمعنى المسجد الحرام . وهم جميعا مجمعون على قراءة قوله : مَساجِدَ اللّهِ على الجمع ، لأنه إذا قرىء كذلك احتمل معنى الواحد والجمع ، لأن العرب قد تذهب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد ، كقولهم : عليه ثوب أخلاق .
{ ما كان للمشركين } ما صح لهم . { أن يعمروا مساجد الله } شيئا من المساجد فضلا عن المسجد الحرام وقيل هو المراد وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع ويدل عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بالتوحيد . { شاهدين على أنفسهم بالكفر } بإظهار الشرك وتكذيب الرسول ، وهو حال من الواو والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله وعبادة غيره . روي ( أنه لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم وأغلظ له علي رضي الله تعالى عنه في القول فقال : ما بالكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني ) فنزلت . { أولئك حبطت أعمالهم } التي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك . { وفي النار هم خالدون } لأجله .
وقوله تعالى { ما كان للمشركين } الآية{[5557]} ، معناه ما كان للمشركين بحق الواجب أن يعمروا ، وهذا هو الذي نفى الله عز وجل وإلا فقد عمروا مساجده قديماً وحديثاً وتغلباً وظلماً ، وقرأ حماد بن أبي سلمة عن ابن كثير والجحدري «مسجد الله » بالإفراد في الموضعين ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وقتادة وغيرهم «مساجد » بالجمع في الموضعين ، وقرأ ابن كثير أيضاً وأبو عمرو «مسجد » بالإفراد في هذا الموضع الأول و «مساجد » بالجمع في الثاني ، كأنه ذكر أولاً فيه النازلة ذلك الوقت ، ثم عمت المساجد ثانياً في الحكم الثابت ما بقيت الدنيا ، ولفظ الجمع يقتضي عموم المساجد كلها ، ويحتمل أن يراد به المسجد الحرام في الموضعين وحده على أن يقدر كل موضع سجود فيه مسجداً ثم يجمع ، ولفظ الإفراد في الموضعين يقتضي خصوص المسجد الحرام وحده ، ويحتمل أن يراد به الجنس فيعم المساجد كلها ولا يمنع من ذلك إضافته كما ذهب إليه من لا بصر له ، وقال أبو علي الثاني في هذه القراءة يراد به الأول وسائر المساجد كلها حكمها حكم المسجد الحرام ، وقوله { شاهدين على أنفسهم بالكفر } إشارة إلى حالهم إذ أقوالهم وأفعالهم تقتضي الإقرار بالكفر والتحلي به ، وقيل الإشارة إلى قولهم في التلبية إلا شريك هو لك ونحو ذلك ، وحكى الطبري عن السدي أنه قال : الإشارة إلى أن النصراني كان يقول أن نصراني واليهودي كذلك والوثني يقول أنا مشرك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لم يحفظ ، ثم حكم الله تعالى عليهم بأن أعمالهم { حبطت } أي بطلت ولا أحفظها تستعمل إلا في السعي والعمل ، ويشبه أن يكون من الحبط وهو داء قاتل يأخذ السائمة إذا رعت وبيلاً وهو الذي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم » الحديث{[5558]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر. يقول: إن المساجد إنما تعمر لعبادة الله فيها لا للكفر به، فمن كان بالله كافرا فليس من شأنه أن يعمر مساجد الله.
وأما شهادتهم على أنفسهم بالكفر، فإنها كما... [قال] السديّ... وأما "شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ "فإن النصرانيّ يسأل: ما أنت؟ فيقول: نصراني، واليهودي، فيقول: يهودي، والصابئ، فيقول: صابئ، والمشرك يقول إذا سألته: ما دينك؟ فيقول: مشرك، لم يكن ليقوله أحد إلا العرب...
وقوله: "أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعمالُهُمْ" يقول: بطلت وذهبت أجورها، لأنها لم تكن لله، بل كانت للشيطان. "وفِي النّارِ هُمْ خالِدُونَ" يقول: ماكثون فيها أبدا، لا أحياءً ولا أمواتا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ" فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة: "مَساجِدَ اللّهِ" على الجمع. وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: «مَسْجِدَ اللّهِ» على التوحيد، بمعنى المسجد الحرام. وهم جميعا مجمعون على قراءة قوله: "مَساجِدَ اللّهِ" على الجمع، لأنه إذا قرئ كذلك احتمل معنى الواحد والجمع، لأن العرب قد تذهب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) أي ما كان بالمشركين عمارة مساجد الله، إنما كان بهم خراب مساجد الله؛ إن المساجد إنما تعمر بالذكر فيها والصلاة وإقامة الخيرات كقوله: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) الآية [النور: 36]، وهم لم يعمروها لذكر اسم الله فيها، إنما عمروها لذكر الأصنام والأوثان. فكان بهم خراب المسجد لا العمارة. وقال بعضهم: قوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) على ما عندهم؛ لأن الذي منعهم من الإيمان بالله حبهم الدنيا وميلهم إليها، فما ينبغي لهم أن يعمروها، ينفقون، ويضيعون أموالهم فيها، ولا ينتفعون، منعهم عن التوحيد والإيمان حبهم الدنيا وشهواتهم وميلهم إليها. فعلى ما عندهم ما ينبغي لهم أن يعمروها. وقال بعضهم: قوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) أي ما كان على المشركين أن يعمروا مساجد الله، لأنهم لا ينتفعون بها في الآخرة؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة. وإنما يقصد بعمارة المساجد والإنفاق عليها الثواب في الآخرة، وهم لا يؤمنون بها، فتضيع نفقتهم في ذلك؛ إذ لا مقاصد لهم، ولا منفعة. إنما ذلك على المسلمين. ويجوز (له) بمعنى (عليه) كقوله: (إن أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) الآية [الإسراء: 7] أي فعليها...
وقوله تعالى: (شاهدين على أنفسهم بالكفر)... عند الضرورات؛ عند نزول العذاب بهم وعند الهلاك كقوله: (فلما رأوا بأسنا) الآية [غافر: 84و85] وغير ذلك من الأحوال التي كانوا يقرون بالكفر...
قوله تعالى: {مَا كَانَ للمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ الله}. عمارة المسجد تكون بمعنيين، أحدهما: زيارته والكون فيه، والآخر: ببنائه وتجديد ما استرمَّ منه؛ وذلك لأنه يقال: اعتمر، إذا زار، ومنه العمرة لأنها زيارة البيت، وفلان من عُمَّارِ المساجد إذا كان كثير المضيِّ إليها والكون فيها... فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ومن بنائها وتولّي مصالحها والقيام بها لانتظام اللفظ للأمرين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عمارةُ المساجد بإقامة العبادة فيها، والعبادةُ لا تُقْبَلُ إلا بالإخلاص، والمشرِكُ فاقِدُ الإخلاص...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
... {شاهدين على أنفسهم بالكفر} بسجودهم للأصنام واتخاذها آلهة {أولئك حبطت أعمالهم} لأن كفرهم أذهب ثوابها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} ما صحّ لهم ما استقام {أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله} يعني المسجد الحرام، لقوله: {وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان، أحدهما: أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها؛ فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني: أن يراد جنس المساجد، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد... و {شاهدين} حال من الواو في {يَعْمُرُواْ} والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته. ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها. وقيل: هو قولهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل: قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك، فطفق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول. فقال العباس: تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا. فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم ونحن أفضل منكم أجراً. إنا لنعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج ونفك العاني، فنزلت {حَبِطَتْ أعمالهم} التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة. وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن. وإلى ذلك أشار في قوله: {شاهدين} حيث جعله حالاً عنهم ودلّ على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى {ما كان للمشركين} الآية، معناه ما كان للمشركين بحق الواجب أن يعمروا، وهذا هو الذي نفى الله عز وجل وإلا فقد عمروا مساجده قديماً وحديثاً وتغلباً وظلماً.
وقوله {شاهدين على أنفسهم بالكفر} إشارة إلى حالهم إذ أقوالهم وأفعالهم تقتضي الإقرار بالكفر والتحلي به..
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
...أراد ليس لهم الحج بعد ما نودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام، وكانت أمور البيت كالسدانة والسقاية والرفادة إلى المشركين، فبين أنهم ليسوا أهلا لذلك، بل أهله المؤمنون.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{أولئك حبطت أعمالهم} التي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك. {وفي النار هم خالدون} لأجله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما حذرهم من اتخاذ وليجة من دونه، شرع يبين أن الوليجة التي يتخذها بعضهم لا تصلح للعاطفة بما اتصفت به من محاسن الأعمال مالم توضع تلك المحاسن على الأساس الذي هو الإيمان المبين بدلائله، فقال سائقاً له مساق جواب قائل قال:إن فيهم من أفعال الخير ما يدعو إلى الكف عنهم من عمارة المسجد الحرام وخدمته وتعظيمه! {ما كان للمشركين} عبر بالوصف دون الفعل لأن جماعة ممن أشرك أسلم بعد ذلك فصار أهلاً لما نفى عنهم {أن يعمروا مساجد الله} أي وهو المنزه بإحاطته بصفات الكمال فتحرر أن المعنى: منعهم من إقامة شعائره بطواف أو زيارة أو غير ذلك لأنهم نجس -كما يأتي {شاهدين على أنفسهم} أي التي هي معدن الأرجاس والأهوية {بالكفر} أي بإقرارهم، لأنه بيت الله وهم يعبدون غير الله وقد نصبوا فيه الأصنام بغير إذنه وادعوا أنها شركاؤه، فإذن عمارتهم تخريب لتنافي عقدهم وفعلهم {خالدون} أي بجعلهم الكفر مكان الإيمان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين} [آل عمران: 96] وقال: {وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: 125]، وقص علينا تعالى في سورة البقرة خبر بناء إبراهيم وإسماعيل لهذا البيت وما كانا يدعوان به عند رفع قواعده من جعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة له، وبعث رسول منهم يتلو عليهم آياتهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وقد استجاب الله تعالى دعاءهما كله فكان من ذريتهما أمة مسلمة موحدة له تعالى تقيم دينه في بيته وفي غيره كما أمر، ثم طال عليهم الأمد فطرأت عليهم الوثنية، وترك جماهيرهم ملة إبراهيم الحنيفية، حتى بعث فيهم منهم محمدا رسول الله وخاتم النبيين، تكملة لدعوة جده إبراهيم، فقاوم المشركون دعوته، وصدوه ومن آمن به عن المسجد الحرام وأخرجوهم من ديارهم بجواره، ثم ما زالوا يقاتلونهم في دار هجرتهم إلى أن صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، ومكنهم من فتح مكة، وأدال للتوحيد من الشرك، وللحق من الباطل.
فلما زالت ولاية المشركين عن المسجد الحرام، وطهره الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان فيه من الأصنام، بقي أن يطهره من العبادة الباطلة التي كان المشركون يأتونها فيه، وأن يبين لهم الوجه في كون المسلمين أحق به منهم، فلما آذنهم بنبذ عهودهم وأمر عليا كرم الله وجهه أن يتلو أوائل سورة براءة على مسامع وفودهم في يوم الحج الأكبر من سنة تسع للهجرة، كان من مقاصد هذا البلاغ العام أن يعلموا أن عبادتهم الشركية ستمنع من المسجد الحرام بعد ذلك العام بالتبع لزوال ولايتهم العارضة عليه، فكان علي وأعوانه ينادون في يوم النحر بمنى: لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وإنما أمهلهم إلى موسم السنة التالية لفتح مكة لسببين فيما يظهر:
أحدهما: أنه كان فيهم أصحاب عهد مع المسلمين من قبل الفتح، كان من شروطه أن لا يمنع من المسجد الحرام أحد من الفريقين، والوفاء بالعهد من أهم أحكام الإسلام فأمهلهم إلى انقضاء عهودهم بنبذ ما جاز نبذه، وإتمام ما وجب إتمامه، ولم يمكن إعلامهم بذلك إلا في موسم السنة التاسعة كما أمر الله تعالى.
وثانيهما: أنه كان يتعذر منع من لا عهد لهم في موسمي العامين الثامن والتاسع بدون قتال في أرض الحرم؛ لأنهم كانوا بمقتضى التقاليد يأتون للحج من كل فج وهم، كثيرون ولا يمكن التمييز بين المشرك والمسلم، ولا المعاهد وغير المعاهد، إلا بعد وصولهم إلى البيت، وشروعهم في الطواف فيه، فكيف السبيل إلى منع المشرك منهم بعد ذلك بغير قتال فيه فضلا عن سائر الحرم، والقتال محرم فيه؟
وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: إنها أحلت له ساعة من نهار ولم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده؟ فعلم من هذا أن منع عبادة الشرك من المسجد الحرام، وإبطال ما كان المشركون يدعونه ويفخرون به من حق عمارته الحسية، وإيئاسهم من الاشتراك فيها، كان يتوقف على ما ذكر من نبذ عهودهم، ومن العدل الواجب في الإسلام إعلامهم بذلك قبل تنفيذه بزمن طويل يكفي لعلم الجماهير منهم به، وهذا المنع هو ما تضمنته هاتان الآيتان على أكمل وجه، وفسره علي كرم الله وجهه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم من الجهة الخاصة، فحسن أن يوضع هو وما يتلوه بعد آيات ذلك النبذ والأذان، وما تلاه من التهديد بالقتال بعد عود حالته إلى ما كانت عليه قبل العهود، وهو المقصود بالذات بقسميه السلبي والإيجابي. وسيأتي النهي عن تمكينهم من القرب من المسجد الحرام أيضا في الآية (28)
قال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} النفي في مثل هذا التعبير يسمى نفي الشأن كما سبق بيانه في نظائره، مع بيان أنه أبلغ من نفي الفعل طبعا أو شرعا؛ لأنه نفي له بالدليل. والمساجد جمع مسجد، وهو في اللغة مكان السجود، وقد صار اسما للبيوت التي يعبد فيها الله تعالى وحده، كما قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن:18].
قرأ أبو عمرو ويعقوب وابن كثير {مسجد الله} بالإفراد، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وهم أكبر مفسري السلف.
وقرأ باقي السبعة وآخرون {مساجد الله} بالجمع.
والمتبادر من الإفراد إرادة المسجد الحرام؛ لأنه المفرد العلم الأكمل الأفضل من المساجد، وكلها لله، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل، والمراد من المساجد جنسها الذي يصدق بأي فرد من أفرادها، كما يقولون فلان يخدم الملوك وإن لم يخدم إلا واحدا منهم، وفلان يركب البراذين أو الحمير وإن لم يركب إلا واحدا منها، ومنه {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} [النحل:8]، على أن بعضهم زعم أن المراد بالجمع المسجد الحرام أيضا، وعللوه بقول الحسن: إنما قال مساجد لأنه قبلة المساجد كلها، وهو ضعيف وركيك، ويقتضي أن النفي وما يتضمنه من المنع خاص به، وهو باطل إجماعا. وتفسير المفرد بالجمع لإفادته العموم بالإضافة أصح لفظا ومعنى، لولا أنهما تكرار لا تظهر له فائدة، فالحق أن كلا من القراءتين مقصود، وفائدة ذكر المفرد مع الجمع التنويه بمكانته، وكونه محل النزاع، وسبب القتال بين المؤمنين والمشركين.
وعمارة المسجد في اللغة لزومه والإقامة فيه للعبادة أو لخدمته بالترميم والتنظيف ونحوهما، وعبادة الله فيه، وزيارته للعبادة، ومنها الحج والعمرة. قال في اللسان: عمر الرجل ماله وبيته يعمر [بالضم] عمارة وعمورا وعمرانا لزمه... ويقال لساكن الدار: عامر، والجمع عمار. (وهنا ذكر البيت المعمور وما روي في تفسيره، وقال: والمعمور المخدوم)، ثم ذكر: عمر الرجل الله بمعنى عبده، قال: والعمارة [بالكسر] ما يعمر به المكان، والعمارة [بالضم] أجرة العمارة. [قال]: والعمرة [بالضم] طاعة الله عز وجل، والعمرة في الحج معروفة مأخوذة من الاعتمار، وهو الزيارة والقصد... وهو في الشرع زيارة البيت الحرام بالشروط المخصوصة المعروفة. قال الزمخشري: ولم يجئ فيما أعلم عمر بمعنى اعتمر، ولكن عمر الله إذا عبده، وعمر فلان ركعتين إذا صلاهما، وهو يعمر ربه يصلي ويصوم اه ملخصا.
وقال الراغب: العمارة نقيض الخراب، يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة. وقوله: {إنما يعمر مساجد الله} إما من العمارة التي هي حفظ البناء، أو من العمرة التي هي الزيارة، أو من قولهم: عمرت بمكان كذا أي أقمت به، لأنه يقال: عمرت المكان وعمرت بالمكان انتهى. وظاهره أنه يقال: عمر بمعنى اعتمر فليحرر.
فعلم من هذه النصوص أن عمارة المسجد تطلق على عبادة الله فيه مطلقا، وعلى النسك المخصوص المسمى بالعمرة وهي خاصة بالمسجد الحرام، وعلى لزومه والإقامة فيه لخدمته الحسية، وعلى بنيانه وترميمه. وكل ذلك مراد هنا؛ لأن اللفظ يدل عليه والمقام يقتضيه. والمختار عندنا استعمال المشترك في معانيه التي يقتضيها المقام تبعا للشافعي وابن جرير...
ومعنى الجملة: ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين- ولا من شأنهم الذي يقتضيه شركهم، أو الذي يشرعه، أو يرضاه الله منهم، أو يقرهم عليه- أن يعمروا مسجد الله الأعظم وبيته المحرم بالإقامة فيه للعبادة أو الخدمة والولاية عليه، ولا أن يزوروه حجاجا ومعتمرين، ولا شيئا من سائر مساجده كذلك.
{شاهدين على أنفسهم بالكفر} أي ما كان لهم ذلك في حال كونهم كافرين شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا؛ لأن هذا جمع بين الضدين، فإن عمارة مساجد الله الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية بعبادته فيها وحده، ولا تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحد له، وذلك ضد الكفر به، وأي كفر بالله أظهر وأشد من الشرك به ومساواته ببعض خلقه في العبادة؟ وهو ما كانوا يفعلونه من عبادة الأصنام بالاستشفاع بها، والسجود لما وضعوه في البيت منها عقب كل شوط من طوافهم فيه، وأي اعتراف به أصرح من نص تلبيتهم له تعالى وهي قولهم بأفواههم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وكانوا يكفرون بالبعث والجزاء أيضا، ولما بعث فيهم محمد رسول الله وخاتم النبيين كفروا به وبما جاء به من البينات والهدى، كفر سادتهم وكبراؤهم جحودا وعنادا، وتبعهم دهماؤهم خضوعا لهم وتقليدا. ومن النصوص الدالة على جحودهم آية {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام:33]، ومن الأدلة على عنادهم آية {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32].
فقوله تعالى:"شاهدين" قيد للنفي قبله مبين لعلته، والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به، ونكتة تقييده بها بيان أنه كفر صريح معترف به لا تمكن المكابرة فيه. وقد قيل: إنه لا يجوز للمسلمين أن يستخدموا الكفار في بناء المساجد؛ لأنه من العمارة الحسية الممنوعة، وفيه نظر؛ لأن الممنوع منها إنما هو الولاية عليها، والاستقلال بالقيام بمصالحها، كأن يكون ناظر المسجد وأوقافه كافرا. وأما استخدام المسلمين للكافر في عمل لا ولاية فيه كنحت الحجارة، والبناء والنجارة، فلا يظهر دخوله في المنع، ولا فيما ذكر من نفي الشأن، فإن نفي الشأن المذكور دليل على التشريع في هذه المسألة، وكونه حقا مبنيا على أساس ثابت في فطرة البشر وليس تشريعا لها. والدلالة فيه عقلية علمية كما علم من تفسيرنا له...
{أولئك حبطت أعمالهم} أي أولئك المشركون الكافرون بالله وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم قد حبطت أعمالهم التي يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج وغيرهما من أعمال البر كقري الضيف وصلة الرحم، أي بطلت وفسدت حتى لم يبق لها أدنى تأثير في صلاح أنفسهم مع الشرك والكفر ومفاسدهما، وأصله من الحبط، وهو بالتحريك أن تأكل البهيمة حتى تنتفخ ويفسد جوفها. قال تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [الزمر:65] {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام: 88] {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} [الكهف: 105].
{وفي النار هم خالدون} أي وهم مقيمون في دار العذاب التي تسمى النار دون غيرها، إقامة خلود وبقاء لكفرهم المحبط لأعمالهم الحسنة حتى لا أثر لها في تزكية أنفسهم وإحاطة خطيئاتهم بها وتدسيتها لها، فلم يبق فيها أدنى استعداد لجوار الله تعالى في دار الكرامة، وما ثمة إلا الجنة أو النار {فريق في الجنة وفريق في السعير} [الشورى: 7].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد البراءة والإعلان لم يبق عذر ولا حجة لمن لا يقاتل المشركين؛ ولم يعد هنالك تردد في حرمانهم زيارة البيت أو عمارته، وقد كانوا يقومون بهما في الجاهلية، وهنا ينكر السياق على المشركين أن يكون لهم الحق في أن يعمروا بيوت الله، فهو حق خالص للمؤمنين بالله، القائمين بفرائضه؛ وما كانت عمارة البيت في الجاهلية وسقاية الحاج لتغير من هذه القاعدة. وهذه الآيات كانت تواجه ما يحيك في نفوس بعض المسلمين الذين لم تتضح لهم قاعدة هذا الدين.
(ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر)..
فهو أمر مستنكر منذ الابتداء، ليس له مبرر لأنه مخالف لطبائع الأشياء. إن بيوت الله خالصة لله، لا يذكر فيها إلا اسمه، ولا يدعى معه فيها أحد غيره، فكيف يعمرها من لا يعمر التوحيد قلوبهم، ومن يدعون مع الله شركاء، ومن يشهدون على أنفسهم بالكفر شهادة الواقع الذي لا يملكون إنكاره، ولا يسعهم إلا إقراره؟ إقراره؟
فهي باطلة أصلا، ومنها عمارة بيت الله التي لا تقوم إلا على قاعدة من توحيد الله.
بما قدموا من الكفر الواضح الصريح.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا ابتداء غرض من أغراض معاملة المشركين، وهو منع المشركين من دخول المسجد الحرام في العام القابل، وهو مرتبط بما تضمّنته البراءة في قوله: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} [التوبة: 1] ولِمَا اتّصَل بتلك الآية من بيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل به مع أبي بكر الصديق: أنْ لا يَحُج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان. وهو توطئة لقوله: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28].
وتركيب (ما كان لهم أن يفعلوا) يدلّ على أنّهم بُعداء من ذلك، كما تقدّم عند قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة} في سورة آل عمران (79)، أي ليسوا بأهل لأن يعمروا مساجد الله بما تعمر به من العبادات.
و {مَساجد الله} مواضع عبادته بالسجود والركوع: المراد المسجدُ الحرام وما يتبعه من المسعى، وعرفةُ، والمشعرُ الحرام، والجَمَرات، والمَنْحر من منى.
وعمْر المساجد: العبادةُ فيها لأنّها إنّما وضعت للعبادة، فعَمْرها بمن يحلّ فيها من المتعبّدين، ومن ذلك اشتقّت العُمرة، والمعنى: ما يحقّ للمشركين أن يعبدوا الله في مساجد الله. وإناطة هذا النفي بهم بوصف كونهم مشركين: إيماء إلى أنّ الشرك موجب لحرمانهم من عمارة مساجد الله.
وقد جاء الحال في قوله: {شاهدين على أنفسهم بالكفر} مبيِّناً لسبب براءتهم من أن يعمروا مساجد الله، وهو حال من ضمير {يعمروا} فبين عامل الضمير وهو {يعمروا} الداخلُ في حكم الانتفاء، أي: انتفى تأهّلهم لأن يعمروا مساجد الله بحال شهادتهم على أنفسهم بالكفر، فكان لهذه الحال مزيد اختصاص بهذا الحرمان الخاص من عمارة مساجد الله، وهو الحرمان الذي لا استحقاق بعده.
والمراد بالكفر: الكفر بالله، أي بوحدانيته، فالكفر مرادف للشرك، فالكفر في حدّ ذاته موجب للحرمان من عمارة أصحابِه مساجد الله، لأنّها مساجد الله فلا حقّ لغير الله فيها، ثم هي قد أقيمت لعبادة الله لا لغيره، وأقام إبراهيم عليه السلام أوّل مسجد وهو الكعبة عنواناً على التوحيد، وإعلاناً به، كما تقدّم في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} في سورة آل عمران (96)، فهذه أوّل درجة من الحرمان. ثم كونُ كفرهم حاصلاً باعترافهم به موجبٌ لانتفاء أقلّ حظ من هذه العمارة، وللبراءة من استحقاقها، وهذه درجة ثانية من الحرمان.
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر حاصلة في كثير من أقوالهم وأعمالهم، بحيث لا يستطيعون إنكار ذلك، مثل قولهم في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، ومثل سجودهم للأصنام، وطوافهم بها، ووضعهم إيّاها في جوف الكعبة وحولَها وعلى سطحها.
وجملة {أولئك حبطت أعمالهم} ابتداءُ ذم لهم، وجيء باسم الإشارة لأنّهم قد تميّزوا بوصف الشهادة على أنفسهم بالكفر كما في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] بعد قوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] الآية.
و {حبطت} بطلت، وقد تقدّم في قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} في سورة البقرة (217).
وتقديم {في النار} على {خالدون} للرعاية على الفاصلة ويحصل منه تعجيل المساءة للكفار إذا سمعوه.
...وما أغنى الإسلام عن أن يبني له مشرك مسجدا أو يعمر كافر بيتا من بيوت الله، وما أغنى الله أن يزوره في بيته من هو غير مؤمن به سبحانه.