فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِينَ أَن يَعۡمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم بِٱلۡكُفۡرِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ وَفِي ٱلنَّارِ هُمۡ خَٰلِدُونَ} (17)

قرأ الجمهور { يَعْمُرُواْ } بفتح حرف المضارعة وضم الميم من عمر يعمر . وقرأ ابن السميفع بضم حرف المضارعة من أعمر يعمر : أي يجعلون لها من يعمرها . وقرأ ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن محيصن وسهم ويعقوب { مَسجد الله } الإفراد . وقرأ الباقون { مساجد } بالجمع ، واختارها أبو عبيدة . قال النحاس : لأنها أعمّ ، والخاص يدخل تحت العام ، وقد يحتمل أن يراد بالجمع المسجد الحرام خاصة ، وهذا جائز فيما كان من أسماء الأجناس كما يقال : فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرساً قال : وقد أجمعوا على الجمع في قوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله } وروي عن الحسن البصري أنه تعالى إنما قال : { مساجد } والمراد : المسجد الحرام ، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فعامره كعامر جميع المساجد . قال الفراء : العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم : فلان كثير الدرهم وبالعكس ، كقولهم فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكاً واحداً . والمراد بالعمارة إما المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي ، وهو ملازمته والتعبد فيه ، وكلاهما ليس للمشركين ، أما الأول : فلأنه يستلزم المنة على المسلمين بعمارة مساجدهم ، وأما الثاني : فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام ، ومعنى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } ما صح لهم وما استقام أن يفعلوا ذلك ، و { شاهدين على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } حال : أي ما كان لهم ذلك حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر ، بإظهار ما هو كفر من نصب الأوثان والعبادة لها ، وجعلها آلهة ، فإن هذا شهادة منهم على أنفسهم بالكفر ، وإن أبوا ذلك بألسنتهم ، فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين : عمارة المساجد التي هي من شأن المؤمنين ، والشهادة على أنفسهم بالكفر التي ليست من شأن من يتقرّب إلى الله بعمارة مساجده . وقيل : المراد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك : تملكه وما ملك ؛ وقيل : شهادتهم على أنفسهم بالكفر : أن اليهودي يقول هو يهودي ، والنصراني يقول هو نصراني ، والصابئ يقول هو صابئ ، والمشرك يقول هو مشرك : { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم } التي يفتخرون بها ، ويظنون أنها من أعمال الخير : أي بطلت ولم يبق لها أثر { وَفِى النار هُمْ خالدون } وفي هذه الجملة الإسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها .

/خ22