قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } الآية .
اعلم أنَّهُ تعالى بَدَأ السُّورة بذكر البراءة من الكُفَّار ، وبالغ في ذلك ، وذكر من أنواع قَبَائِحِهمْ مَا يوجب تلك البراءةَ ، ثمَّ إنَّه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أنَّ هذه البراءة غير جائزةٍ ، وأنَّهُ يجبُ مخالطتهم ومناصرتهم ، فأولها هذه الآية ، وذلك أنَّهم ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدةٍ توجبُ مخالطتهم ومعاونتهم ، ومناصرتهم ، ومن جملةِ تلك الصِّفات ، كونهم عامرين للمسجدِ الحرامِ .
قال ابنُ عبَّاسٍ : لمَّا أسر العبَّاسُ يوم بدرٍ ، وعيَّرَهُ المسلمون بالكُفرِ ، وقطيعة الرَّحمِ ، وأغلظ له عليٌّ القول ، فقال العبَّاسُ : ما لكم تذكرون مساوئنا ، ولا تذكرون محاسننا ؟ فقال له عليٌّ : ألكُم محاسن ؟ فقال : نعم ، إنَّا لنعْمُرُ المسْجِدَ الحَرامَ ، ونحجب الكَعْبَة ، ونسْقِي الحاجَّ ، ونفكُّ العاني ؛ فأنزل اللهُ تعالى ردّاً على العبَّاسِ : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } أي : ما ينبغي للمشركين أن يعمرُوا مساجد الله ، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك ؛ لأنَّ المساجد تعمر لعبادة ا لله وحده{[17654]} .
واعلم أنَّ عمارة المَسْجِد قسمان :
إمَّا بلزومها وكثرة إتيانها ، يقال : فلان يعمرُ مجلس فلان إذا كثر غشيانه ، وإمَّا بالعمارة المعروفة بالبناء ، فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنَّه ليس للكافر أن يقدم على مرمَّةِ المسجد ، لأنَّ المسجد موضع العبادة ، فيجب أن يعظم ، والكافرُ يهينه ، وأيضاً فالكافرُ نجس في الحكم ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وتطهير المسجد واجبٌ ، لقوله تعالى : { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } [ البقرة : 125 ] ، وأيضاً فالكافرُ لا يحترز من النَّجاسة ، فدخوله المسجد تلويث للمسجد ، وقد يؤدّي إلى فسادِ عبادة المصلين .
وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الإنعام على المُصلين ، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنّة على المسلمين ، وقد ذهب جماعةٌ منهم الواحديُّ ؛ إلى أنَّ المُرادَ منه : العمارة المعروفة من بناء المسجدِ ، ومرمته عند الخراب ، فيمنع منه الكافر ، حتى ولو أوصى بها لم تقبل ، ويمنع من دخول المساجد ، وإن دخل بغير إذن استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظيمُ المساجد ، ومنعهم منها ، وقد أنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد وهم كفَّار ، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد ، وهو كافر ، وحمل بعضهم العمارة على المسجد على الوجه الأول .
" أَن يَعْمُرُواْ " اسم " كان " . قرأ ابنُ{[17655]} السميفع " يُعْمِرُوا " بضم الياء وكسر الميم ، من : " أعمر " رباعياً ، والمعنى : أن يعينوا على عمارته . وقرأ{[17656]} ابن كثير ، وأبو عمرو " مسجد اللهِ " بالإفراد ، وهي تحتملُ وجهين ، أن يُراد به مسجدق بعينه ، وهو المسجد الحرام ، لقوله { وَعِمَارَةَ المسجد الحرام } [ التوبة : 19 ] ، وأن يكون اسم جنسٍ ، فيندرج فيه سائر المساجد ، ويدخل المسجدُ الحرامُ دخولاً أوليّاً وقرأ{[17657]} الباقون : " مَساجِد " بالجمع ، وهي أيضاً محتملةٌ للأمرين ، ووجه الجمع إمَّا لأنَّ كُلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يقال لها : مسجدٌ ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد ، فصَحَّ أن يُطْلقَ عليه لفظُ الجمع لذلك .
[ قال الفرَّاءُ : ربما ذهب العربُ بالواحد إلى الجمع ، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى إلى الرجل يركب البرذون ؛ فيقول : أخذت في ركوب البراذين ، وفلان يجالس الملوك ، وهو لا يجلس إلا مع ملك واحد ، ويقال : فلان كثير الدرهم والدينار يريد : الدراهم والدنانير ]{[17658]} .
قوله : " شَاهِدِينَ " الجمهور على قراءته بالياء نصباً على الحال من فاعل : " يَعْمُرُوا " أراد : وهم شاهدون . وقرأ زيد{[17659]} بن علي : " شَاهِدُون " بالواو رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر ، والجملةُ حالٌ أيضاً .
قوله " على أَنْفُسِهِمْ " الجمهور على " أنفُسهم " جمع " نَفْس " وقرئ{[17660]} " أنفسهم " بضم الفاء ، ووَجْهُهَا أن يُرادَ ب " الأنْفَس " - وهو الأشرف الأجل من النَّفَاسة - : رسولُ صلى الله عليه وسلم .
قيل : لأنه ليس بطنٌ من بطون العرب إلاَّ وله فيهم ولادة ، وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً ، وهو مع هذه القراءة أوضح .
قال الحسنُ : " لم يقولوا نحن كفار ، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر " {[17661]} .
وقال الضحاك عن ابن عبَّاسٍ : " شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام ، فكانوا يطوفون بالبيت عراة ، وكانت أصنامهم منصوبة بخارج البيت الحرام عند القواعد ، وكلَّما طافُوا شَوْطاً سَجَدُوا لأصْنَامِهِمْ ، ولم يَزْدَادُوا بذلك من الله إلاَّ بُعْداً " {[17662]} .
وقال السدي : " شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، هو أن النصراني يسأل من أنت ؟ فيقول : أنا نصراني ، واليهودي يقول أنها يهودي ، ويقال للمشرك ما دينك ؟ فيقول : مشرك " {[17663]} .
وقيل : إنَّهم كانُوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلاَّ شريك هو لك تملكه وما ملك ، ونقل عن ابن عباس أنه قال : " المرادُ أنهم يشهدون على الرسول بالكفر ، قال : وإنَّما جازَ هذا التفسيرُ ، لقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ }{[17664]} [ التوبة : 128 ] .
قال القاضي " هذا عدول عن الحقيقة ، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذَّر إجراءُ اللفظ على حقيقته ، أمَّا لما بيَّنا أنَّ ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز " .
قوله { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } لأنها لغير الله ، ثم قال : { وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ } هذه جملةٌ مستأنفة و " في النَّارِ " متعلقٌ بالخبرِ ، وقُدِّم للاهتمام به ، ولأجل الفاصلة .
وقال أبُو البقاءِ{[17665]} : " وهم خالدون في النَّارِ ، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف والمعطوف " وفيه نظرٌ ، من حيثُ إنَّه يوهم أنَّ الجملة معطوفةٌ على ما قبلها ، عطف المفرد على مثله تقديراً ، وليس كذلك ، بل هي مستأنفةٌ ، وإذا كانت مستأنفة فلا يقال فيها : فصل الظَّرف بين حرف العطف والمعطوف ، وإنَّما ذلك في المتعاطفين المفردين ، أو ما في تأويلهما ، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] وفي قوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } [ النساء : 58 ] .
وقرأ زيد{[17666]} بن علي خالدين بالياء ، نصباً على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ قبله ، لأنَّ الجارَّ صار خبراً ، كقولك : في الدار زيد قاعداً ، فقد رفع زيد بن علي " شاهدين " ، ونصب " خالدون " عكس قراءة الجمهور فيها .
احتج أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الفاسق من أهل الصَّلاة ، لا يخلد في النار من وجهين :
الأول : أن قوله { وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ } يفيد الحصر ، أي : هم فيها خالدون لا غيرهم ؛ لأنَّ هذا الكلام إنَّما ورد في حق الكفار .
الثاني : أنَّه تعالى جعل الخلود في النار للكافر جزاء على كفره ، ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الكفار ، لما صحَّ تهديد الكافر به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.