الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِينَ أَن يَعۡمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم بِٱلۡكُفۡرِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ وَفِي ٱلنَّارِ هُمۡ خَٰلِدُونَ} (17)

{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } قال ابن عباس : لمّا أُسر أبي يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيّروه بكفره بالله عز وجل وقطيعة الرحم وأغلظ عليٌّ له القول ، فقال العباس : إنكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا ، قال له علي : ألكم محاسن ؟ قال : نعم ، إنا لنعمر المسجد ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك : العاني ، فأنزل الله تعالى رادّاً على العباس { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } يقول : ما ينبغي للمشركين أن يعمروا ، قرأت العامة بفتح الياء وضم الميم من عمر يعمر ، وقرأ ابن السميقع يُعمر بضم الياء وكسر الميم أي يعينوا على العمارة ، أو يجعلوه عامراً ، ويريد : إن المساجد إنما تعمر بعبادة الله وحده ، فمن كان بالله كافراً فليس من شأنه أن يعمرها ، وقال الحسن : ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام .

واختلف القراء في قوله : ( مساجد الله ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي رباح وحميد بن كثير وأبو عمرو : مسجد الله بغير ألف أرادوا المسجد الحرام ، واختاره أبو حاتم لقوله تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } ، وقرأ الباقون ( مساجد ) بالألف على الجمع ، واختاره أبو عبيد لأنّه أعم القراءتين .

قال الحسن : فإنّما قال ( مساجد الله ) لأنّه قبلة المساجد كلها وأمامها ، وقال أبو حاتم أنّ عمران بن جدير قال لعكرمة : إنما يُقرأ : مساجد الله وإنّما هو مسجد واحد ؟ فقال عكرمة : إن الصفا والمروة من شعائر الله ، وقال الضحاك ومجاهد : حدّث العرب بالواحد إلى الجمع والجمع إلى الواحد ، ألاترى الرجل على البرذون يقول ركبت البراذين ؟ ويقال للرجل : إنّه لكثير الدر والذمار ، وتقول العرب : عليه أخلاق نعل واسمال ثوب .

وأنشدني أبو الجراح العقيلي :

جاء الشتاء وقميصي أخلاق *** وشرذم يضحك مني التواق

يعني : خَلِق .

وقوله : { شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } أراد وهم شاهدون ، فلمّا طرحت ( وهم ) نصبت ، وقال الحسن : يقولون : نحن كفار ( نشهد ) عليهم بكفرهم ، وقال السدّي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هي أن النصراني يُسأل : ما أنت فيقول : نصراني ، واليهودي فيقول : يهودي والصابئي ، فيقول : صابئي ويقال للمشرك : ما دينك ؟ فيقول : مشرك .

وقال حمزة عن الضحاك عن ابن عباس : شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم وإقرارهم بأنّها مخلوقة ، وذلك أنّ كبار قريش نصبوا أصنامهم خارجاً من بيت الله الحرام عند القواعد ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون : لا نطوف وعلينا ثياب قد عملنا فيها بالمعاصي ، وكانوا يصفقون ويصفرون ويقولون : إن تغفر اللهم تغفره جمّا ، وأي عبد لك لا ألمّا ( . . . ) سجدوا لأصنامهم فلم يزيدوا بذلك من الله إلاّ بعداً ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } .