قوله تعالى : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع } ، الخوف ، { وجاءته البشرى } ، بإسحاق ويعقوب ، { يجادلنا في قوم لوط } ، فيه إضمار ، أي : أخذ وظل يجادلنا . قيل : معناه يكلمنا لأن إبراهيم عليه السلام لا يجادل ربه عز وجل إنما يسأله ويطلب إليه . وقال عامة أهل التفسير : معناه يجادل رسلنا ، وكانت مجادلته أنه قال للملائكة : أرأيتم لو كان في مدائن لوط خمسون من المؤمنين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا ، قال : أو أربعون ؟ قالوا : لا ، قال : أو ثلاثون ؟ قالوا : لا ، حتى بلغ خمسة ، قالوا : لا ، قال : أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا ، قال إبراهيم عليه السلام عند ذلك : إن فيها لوطا . قالوا : نحن أعلم بمن فيها ، لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ، فلذلك قوله إخبارا عن إبراهيم عليه السلام : { يجادلنا في قوم لوط } .
يخبر تعالى عن [ خليله ]{[14753]} إبراهيم ، عليه السلام ، أنه لما ذهب عنه الروع ، وهو ما أوْجَس من الملائكة خيفة ، حين لم يأكلوا ، وبشروه بعد ذلك بالولد [ وطابت نفسه ]{[14754]} وأخبروه بهلاك قوم لوط ، أخذ يقول كما قال{[14755]} [ عنه ]{[14756]} سعيد بن جبير في الآية{[14757]} قال : لما جاءه جبريل ومن معه ، قالوا له{[14758]} { إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ [ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ] } [ العنكبوت : 31 ] ، {[14759]} قال لهم [ إبراهيم ]{[14760]} أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن ؟ قالوا : لا . قال : أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن ؟ قالوا : لا . قال : أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا ؟ قالوا : لا . قال : ثلاثون ؟ قالوا لا حتى بلغ خمسة قالوا : لا . قال : أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا . فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك : { إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ } الآية [ العنكبوت : 32 ] ، فسكت عنهم واطمأنت نفسه .
وقال قتادة وغيره قريبا من هذا - زاد ابن إسحاق : أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد ؟ قالوا : لا . قال : فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب ، قالوا : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا [ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ] } [ العنكبوت : 32 ] . {[14761]}
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَىَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } .
يقول تعالى ذكره : فلما ذهب عن إبراهيم الخوف الذي أوجسه في نفسه من رسلنا حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه ، وأمن أن يكون قصد في نفسه وأهله بسوء ، وجاءته البشرى بإسحاق ، ظلّ يجادلنا في قوم لوط .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهيمَ الرّوْعُ يقول : ذهب عنه الخوف ، وَجاءَتْهُ البُشْرَى بإسْحاقَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهيمَ الرّوْعُ وَجاءَتْهُ البُشْرَى بإسحاق ، ويعقوب ولد من صلب إسحاق ، وأمن مما كان يخاف قال : الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي وَهَبَ لي على الكِبَرِ إسْماعيلَ وإسْحاقَ إنّ رَبي لَسَميعُ الدّعاءِ .
وقد قيل معنى ذلك : وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَجاءَتْهُ البُشْرَى قال : حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط ، وأنهم ليسوا إياه يريدون .
قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، وقال آخرون : بشر بإسحاق .
وأما الرّوع : فهو الخوف ، يقال منه : راعني كذا يَرُوعني رَوْعا : إذا خافه ، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم «كيف لك برَوْعَة المؤمن » ومنه قول عَنْترة :
ما رَاعَنِي إلاّ حَمُولةُ أهْلِها *** وَسْطَ الدّيارِ تَسَفّ حَبّ الخِمْخِمِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الروع : الفرق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهيمَ الرّوْعُ قال : الفرق .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهيمَ الرّوْعُ قال : الفرق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهيمَ الرّوْعُ قال : ذهب عنه الخوف .
وقوله : يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ يقول : يخاصمنا . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يُجادِلُنا : يخاصمنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله : يُجادِلُنا يكلمنا ، وقال : لأن إبراهيم لا يجادل الله إنما يسأله ويطلب منه . وهذا من الكلام جهل ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط ، فقول القائل : إبراهيم لا يجادل ، موهما بذلك أن قول من قال في تأويل قوله : يُجادِلُنا يخاصمنا ، أن إبراهيم كان يخاصم ربه جهل من الكلام ، وإنما كان جداله الرسل على وجه المحاجة لهم . ومعنى ذلك : وجاءته البشرى يجادل رسلنا ، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف الرسل . وكان جداله إيّاهم كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، قال : حدثنا جعفر ، عن سعيد : يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ قال : لما جاء جبرئيل ومن معه قالوا لإبراهيم : إنّا مُهْلِكُوا أهْلِ هَذِهِ الْقَرْيةِ إنّ أهْلُهَا كانُوا ظالمينَ قال لهم إبراهيم : أتهلكون قرية فيها أربع مئة مؤمن ؟ قالوا : لا . قال : أفتهلكون قرية فيها ثلاث مئة مؤمن ؟ قالوا : لا . قال : أفتهلكون قرية فيها مئتا مؤمن ؟ قالوا : لا . قال : أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا ؟ قالوا : لا . قال : أفتهلكون قرية فيها أربعة عشرَ مؤمنا ؟ قالوا : لا . وكان إبراهيم يعدّهم أربعة عشر بامرأة لوط ، فسكت عنهم واطمأنت نفسه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الملك لإبراهيم : إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أمعذّبوها أنتم ؟ قالوا : لا . حتى صار ذلك إلى عشرة ، قال : أرأيتم إن كان فيها عشرة أمعذّبوهم أنتم ؟ قالوا : لا . وهي ثلاث قرى فيها ما شاء الله من الكثرة والعدد .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ قال : بلغنا أنه قال لهم يؤمئذ : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين ؟ قالوا : إن كان فيها خمسون لم نعذّبهم . قال : أربعون ؟ قالوا : وأربعون . قال : ثلاثون ؟ قالوا : ثلاثون . حتى بلغ عشرة ، قالوا : وإن كان فيهم عشرة ، قال : ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير . قال ابن عبد الأعلى ، قال محمد بن ثور : قال معمر : بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان ، أو ما شاء الله من ذلك .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمُ الرّوْعُ وَجاءَتْهُ البُشْرَى قالَ ما خَطبُكمْ أيها المرسلونَ قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم لوط فجادلهم في قوم لوط ، قال : أرأيتم إن كان فيها مئة من المسلمين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا . فلم يزل يحطّ حتى بلغ عشرة من المسلمين ، فقالوا : لا نعذّبهم إن كان فيهم عشرة من المسلمين . ثم قالوا : يا إبراهيمُ أعرِضْ عَنْ هذَا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين هو لوط وأهل بيته ، وهو قول الله تعالى ذكره : يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ فقالت الملائكة : يا إبْرَاهِيمُ أعْرِضْ عَنْ هَذَا قَدْ جاءَ أمْرُ رَبّكَ وإنّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غيرُ مَرْدُود .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرّوْعُ وَجاءَتْهُ البُشْرَى يعني : إبراهيم جادل عن قوم لوط ليردّ عنهم العذاب . قال : فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين جادلهم في قوم لوط ليردّ عنهم العذاب . إنما قال للرسل فيما يكلمهم به : أرأيتم إن كان فيهم مئة مؤمن أتهلكونهم ؟ قالوا : ، لا ، قال : أفرأيتم إن كانوا تسعين ؟ قالوا : لا ، قال : أفرأيتم إن كانوا ثمانين ؟ قالوا : لا ، قال : أفرأيتم إن كانوا سبعين ؟ قالوا : لا ، قال : أفرأيتم إن كانوا ستين ؟ قالوا لا ، قال : أفرأيتم إن كانوا خمسين ؟ قالوا لا ، قال : أفرأيتم إن كان رجلاً واحدا مسلما ؟ قالوا : لا . قال : فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنا واحداقالَ إنّ فيهَا لُوطا يدفع به عنهم العذاب ، قالُوا نَحْنُ أعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجّيَنّهُ وأهْلَهُ إلاّ امْرأتَهُ كانَتْ مِنَ الغابرِينَ قالوا : يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك ، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال إبراهيم : أتهلكونهم إن وجدتم فيها مئة مؤمن ثم تسعين ؟ حتى هبط إلى خمسة . قال : وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف .
حدثنا محمد بن عوف ، قال : حدثنا أبو المغيرة ، قال : حدثنا صفوان ، قال : حدثنا أبو المثنى ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا : لَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرّوْعُ . . . إلى آخر الآية ، قال إبراهيم : أتعذّب عالما من عالمك كثيرا فيهم مئة رجل ؟ قال : لا وعزّتي ولا خمسين قال : فأربعين ؟ فثلاثين ؟ حتى انتهى إلى خمسة . قال : لا وعزتي لا أعذبهم ولو كان فيهم خمسة يعبدونني قال الله عزّ وجلّ : فَمَا وَجَدْنا فِيها غيرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أي لوطا وابنتيه ، قال : فحلّ بهم من العذاب ، قال الله عزّ وجلّ : وتَرَكْنَا فِيهَا آيةً للّذِينَ يخافُونَ العَذابَ الأليمَ وقال : فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرّوْعُ وَجاءَتْهُ البُشْرَى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ .
والعرب لا تكاد تتلقى «لمّا » إذا وليها فعل ماض إلا بماض ، يقولون : لما قام قمت ، ولا يكادون يقولون : لما قام أقوم . وقد يجوز فيما كان من الفعل له تطاول مثل الجدال والخصومة والقتال ، فيقولون في ذلك : لما لقيته أقاتله ، بمعنى : جعلت أقاتله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما ذهب عن إبراهيم الروع} يعني الخوف، {وجاءته البشرى} في الولد {يجادلنا} يعني يخاصمنا إبراهيم {في قوم لوط}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما ذهب عن إبراهيم الخوف الذي أوجسه في نفسه من رسلنا حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، وأمن أن يكون قصد في نفسه وأهله بسوء، وجاءته البشرى بإسحاق، ظلّ يجادلنا في قوم لوط...
"يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ "يقول: يخاصمنا...
وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: يُجادِلُنا": يكلمنا، وقال: لأن إبراهيم لا يجادل الله إنما يسأله ويطلب منه. وهذا من الكلام جهل، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط، فقول القائل: إبراهيم لا يجادل، موهما بذلك أن قول من قال في تأويل قوله: "يُجادِلُنا": يخاصمنا، أن إبراهيم كان يخاصم ربه جهل من الكلام، وإنما كان جداله الرسل على وجه المحاجة لهم. ومعنى ذلك: وجاءته البشرى يجادل رسلنا، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف الرسل...
عن ابن إسحاق قال: "فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرّوْعُ وَجاءَتْهُ البُشْرَى "يعني: إبراهيم جادل عن قوم لوط ليردّ عنهم العذاب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ) هو الفرَق والفزع الذي دخل فيه بمجيء الملائكة... وتحتمل مجادلته إياهم في استبقاء قوم لوط شفقة عليهم ورحمة لعلهم يؤمنون ويقبلون ما يدعون إليه لئلا ينزل بهم عذاب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما كانت مراجعته مع الله في أمر قوم لوطٍ بحقِّ الله لا لحظِّ نَفْسِه سَلِمَ له الجِدال، وهذا يدلُّ على علوِّ شأنه حيث تجاوزَ عنه ذلك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «المجادلة»: المقابلة في القول والحجج، وكأنها أعم من المخاصمة فقد يجادل من لا يخاصم كإبراهيم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما سمعوا ذلك واطمأنوا، أخذ في قص ما كان بعده، فقال مشيراً بالفاء إلى قلة زمن الإنكار الذي هو سبب الفزع: {فلما ذهب} بانكشاف الأمر {عن إبراهيم الروعُ} أي الخوف والفزع الشديد {و جآءته البشرى} فامتلأ سروراً {يجادلنا} أي أخذ يفعل معنا بمجادلة رسلنا فعل المجادل الذي يكثر كلامه إرادة لفتل مخاطبه عما يقوله {في قوم لوط} أي يسألنا في نجاتهم سؤالاً يحرص فيه حرص المجادل في صرف الشيء، من الجدل وهو الفتل، ووضع المضارع موضع الماضي إشارة إلى تكرر المجادلة مع تصوير الحال، أي جادلنا فيهم جدالاً كثيراً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط} أي فلما سري عن إبراهيم وانكشف ما راعه من الخيفة والرعب إذ علم أن هؤلاء الرسل من ملائكة العذاب، وجاءته البشرى بالولد واتصال النسل، أخذ يجادل رسلنا فيما أرسلناهم به من عقاب قوم لوط، جعلت مجادلتهم ومراجعتهم مجادلة له تعالى لأنها مجادلة في تنفيذ أمره، وإنما قال [يجادلنا] دون [جادلنا] -والأصل في جواب "لما "أن يكون فعلا ماضيا –لتصوير تلك الحال كأنها حاضرة، أو لتقدير ماض قبله كالذي قلنا، والمراد بالمجادلة ما ذكر في سورة العنكبوت {فلما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} [العنكبوت: 31، 32]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إلى هنا كان إبراهيم -عليه السلام- قد اطمأن إلى رسل ربه، وسكن قلبه بالبشرى التي حملوها إليه. ولكن هذا لم ينسه لوطا وقومه -وهو ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه والساكن قريبا منه- وما ينتظرهم من وراء إرسال الملائكة من هلاك واستئصال. وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودود لا تجعله يطيق هلاك القوم واستئصالهم جميعا: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المجادلة هنا: دعاء ومناجاة سأل بها إبراهيم عليه السّلام ربّه العفو عن قوم لوط خشية إهلاك المؤمنين منهم. وقد تكون المجادلة مع الملائكة. وعدّيت إلى ضمير الجلالة لأنّ المقصود من جدال الملائكة التعرّض إلى أمر الله بصرف العذاب عن قوم لوط...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أمران جليلان ألقيا في نفس إبراهيم بالاطمئنان أحدهما: أنه ذهب عنه الروع أي الخوف الذي راعه واسترهبه، والآخر أن جاءته البشرى بولد أخا لإسماعيل الذي تركه في البرية، فلما كان هذان الأمران أخذ يجادل في إمهال قوم لوط. {يجادلنا في قوم لوط} والتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار في المجادلة وحدوثها متجددة وكانت المجادلة لربه؛ لأن في قوم لوطا النبي وله به قرابة نسب فهو حريص على نجاته شفيقا عليه...
مجادلة سيدنا إبراهيم في عقاب قوم لوط، لم تكن ردا لأمر الله، ولكن طلبا للإمهال لعلهم يؤمنون؛ ذلك أن قلب إبراهيم عليه السلام؛ قلب رحيم...