مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ} (74)

قوله تعالى { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب }

اعلم أن هذا هو القصة الخامسة وهي قصة لوط عليه السلام ، واعلم أن الروع هو الخوف وهو ما أوجس من الخيفة حين أنكر أضيافه والمعنى : أنه لما زال الخوف وحصل السرور بسبب مجيء البشرى بحصول الولد ، أخذ يجادلنا في قوم لوط وجواب لما هو قوله : { أخذ } إلا أنه حذف في اللفظ لدلالة الكلام عليه ، وقيل تقديره : لما ذهب عن إبراهيم الروع جادلنا .

واعلم أن قوله : { يجادلنا } أي يجادل رسلنا .

فإن قيل : هذه المجادلة إن كانت مع الله تعالى فهي جراءة على الله ، والجراءة على الله تعالى من أعظم الذنوب ، ولأن المقصود من هذه المجادلة إزالة ذلك الحكم وذلك يدل على أنه ما كان راضيا بقضاء الله تعالى وأنه كفر . وإن كانت هذه المجادلة مع الملائكة فهي أيضا عجيبة ، لأن المقصود من هذه المجادلة أن يتركوا إهلاك قوم لوط ، فإن كان قد اعتقد فيهم أنهم من تلقاء أنفسهم يجادلون في هذا الإهلاك فهذا سوء ظن بهم . وإن اعتقد فيهم أنهم بأمر الله جاؤوا فهذه المجادلة تقتضي أنه كان يطلب منهم مخالفة أمر الله تعالى وهذا منكر .

والجواب : من وجهين :

الوجه الأول : وهو الجواب الإجمالي أنه تعالى مدحه عقيب هذه الآية فقال : { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } ولو كان هذا الجدل من الذنوب لما ذكر عقيبه ما يدل على المدح العظيم .

والوجه الثاني : وهو الجواب التفصيلي أن المراد من هذه المجادلة سعي إبراهيم في تأخير العذاب عنهم وتقريره من وجوه :

الوجه الأول : أن الملائكة قالوا : { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } فقال إبراهيم : أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها ؟ قالوا : لا . قال : فأربعون قالوا : لا . قال : فثلاثون قالوا لا . حتى بلغ العشرة قالوا : لا . قال : أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا . فعند ذلك قال : إن فيها لوطا وقد ذكر الله تعالى هذا في سورة العنكبوت فقال : { ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين } .

الوجه الثاني : يحتمل أن يقال إنه عليه السلام كان يميل إلى أن تلحقهم رحمة الله بتأخير العذاب عنهم رجاء أنهم أقدموا على الإيمان والتوبة عن المعاصي ، وربما وقعت تلك المجادلات بسبب أن إبراهيم كان يقول إن أمر الله ورد بإيصال العذاب . ومطلق الأمر لا يوجب الفور بل يقبل التراخي فاصبروا مدة أخرى ، والملائكة كانوا يقولون إن مطلق الأمر يقبل الفور ، وقد حصلت هناك قرائن دالة على الفور ، ثم أخذ كل واحد منهم يقرر مذهبه بالوجوه المعلومة فحصلت المجادلة بهذا السبب ، وهذا الوجه عندي هو المعتمد .

الوجه الثالث : في الجواب لعل إبراهيم عليه السلام سأل عن لفظ ذلك الأمر وكان ذلك الأمر مشروطا بشرط فاختلفوا في أن ذلك الشرط هل حصل في ذلك القوم أم لا فحصلت المجادلة بسببه ، وبالجملة نرى العلماء في زماننا يجادل بعضهم بعضا عند التمسك بالنصوص ، وذلك لا يوجب القدح في واحد منها فكذا ههنا .