{ وآتاكم من كل ما سألتموه } ، يعني : وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئا ، فحذف الشيء الثاني اكتفاء بدلالة الكلام ، على التبعيض . وقيل : هو على التكثير نحو قولك : فلان يعلم كل شيء ، وآتاه كل الناس ، وأنت تعني بعضهم ، نظيره قوله تعالى : " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " ( الأنعام-44 ) وقرأ الحسن { من كل } ، بالتنوين { ما } على النفي يعني من كل ما لم تسألوه ، يعني : أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها . { وإن تعدوا نعمة الله } ، أي : نعم الله ، { لا تحصوها } ، أي : لا تطيقوا عدها ولا القيام بشكرها . { إن الإنسان لظلوم كفار } ، أي : ظالم لنفسه بالمعصية ، كافر بربه عز وجل في نعمته . وقيل : الظلوم ، الذي يشكر غير من أنعم عليه ، والكافر : من يجحد منعمه .
وقوله : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } يقول : هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم{[15956]} وقالكم .
وقال بعض السلف : من كل ما سألتموه وما لم تسألوه .
وقرأ بعضهم : " وأتاكم من كل ما سألتموه " .
وقوله : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } يخبر عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلا عن القيام بشكرها ، كما قال طلق بن حبيب ، رحمه الله : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر{[15957]} من أن يحصيها{[15958]} العباد ، ولكن أصبحوا توابين وامسُوا توابين .
وفي صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم ، لك الحمد غير مَكْفِيّ ولا مودَع ، ولا مستغنى عنه ربَّنا " {[15959]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا داود بن المُحبّر ، حدثنا صالح المرْيّ عن جعفر بن زيد العَبْدِي ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة{[15960]} دواوين ، ديوان ، فيه العمل الصالح ، وديوان فيه ذنوبه ، وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه ، فيقول الله لأصغر{[15961]} نعمه - أحسبَه . قال : في ديوان النعم : خذي ثمنك من عمله الصالح ، فتستوعب عمله الصالح كله ، ثم تَنَحّى وتقول : وعزتك ما استوفيت . وتبقى الذنوب والنعم{[15962]} فإذا أراد الله أن يرحم قال : يا عبدي ، قد ضاعفتُ لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك - أحسبه قال : ووهبت لك نعمي " {[15963]} غريب ، وسنده ضعيف .
وقد روي في الأثر : أن داود ، عليه السلام ، قال : يارب ، كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي ؟ فقال الله تعالى : الآن شكرتني يا داود ، أي : حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر النعم .
وقال الشافعي ، رحمه الله : الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه ، إلا بنعمة{[15964]} تُوجِب على مُؤدى ماضي نعَمه بأدائها ، نعمة حادثةَ توجب عليه شكره بها{[15965]} .
لو كل جَارِحَة مني لهَا لُغَةٌ *** تُثْنيِ عَلَيكَ بما أولَيتَ مِنْ حَسنِ
لَكَانَ ما زَادَ شُكري إذ شَكَرت به *** إليكَ أبلغَ في الإحسَان والمننِ
{ وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ }
يقول تعالى ذكْره : وأعطاكم مع إنعامه عليكم بما أنعم به عليكم من تسخير هذه الأشياء التي سخرها لكم والرزق الذي رزقكم من نبات الأرض وغروسها من كلّ شيء سألتموه ورغبتم إليه شيئا . وحذف الشيء الثاني اكتفاءً ب «ما » التي أضيفت إليها «كلّ » وإنما جاز حذفه ، لأن «مِن » تُبعّض ما بعدها ، فكفت بدلالتها على التبعيض من المفعول ، فلذلك جاز حذفه ، ومثله قوله تعالى : وأُوتِيَتْ مِنْ كُلّ شَيْءٍ يعني به : وأوتيت من كلّ شيء في زمانها شيئا . وقد قيل : إن ذلك إنما قيل على التكثير ، نحو قول القائل : فلان يعلم كلّ شيء ، وأتاه كل الناس ، وهو يعني بعضهم ، وكذلك قوله : فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ . وقيل أيضا : إنه ليس شيء إلاّ وقد سأله بعض الناس ، فقيل : وآتاكُمْ مِنْ كُلّ ما سألْتُمُوهُ أي قد آتى بعضكم منه شيئا ، وآتى آخر شيئا مما قد سأله . وهذا قول بعض نحويّى أهل البصرة .
وكان بعض نحويّي أهل الكوفة يقول : معناه : وأتاكم من كلّ ما سألتموه لو سألتموه ، كأنه قيل : وآتاكم من كلّ سؤلكم وقال : ألا ترى أنك تقول للرجل لم يسألك شيئا : والله لأعطينك سُؤْلك ما بلغت مسألتك وإن لم يسأل ؟
فأما أهل التأويل ، فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وآتاكم من كلّ ما رغبتم إليه فيه . ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء وحدثني الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : مِنْ كُلّ ما سألْتُمُوهُ ورغبتم إليه فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : وآتاكُمْ مِنْ كُلّ ما سألْتُمُوهُ قال : من كلّ الذي سألتموه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وآتاكم من كل الذي سألتموه والذي لم تسألوه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا خلف ، يعني ابن هشام ، قال : حدثنا محبوب ، عن داود بن أبي هند ، عن رُكانة بن هاشم : مِنْ كُلّ ما سألْتُمُوه وقال : ما سألتموه وما لم تسألوه .
وقرأ ذلك آخرون : «وآتاكُمْ مِلْ كُلَ ما سألْتُمُوهُ » بتنوين «كلّ » وترك إضافتها إلى «ما » بمعنى : وآتاكم من كلّ شيء لم تسألوه ولم تطلبوه منه . وذلك أن العباد لم يسألوه الشمس والقمر والليل والنهار ، وخلق ذلك لهم من غير أن يسألوه . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو حُصَين ، عبد الله بن أحمد بن يونُس ، قال : حدثنا بَزِيع ، عن الضحاك بن مُزاحم في هذه الاَية : «وآتاكُمْ مِنْ كُلَ ما سألْتُمُوهُ » قال : ما لم تسألوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك أنه كان يقرأ : «مِنْ كُلَ ما سألْتُمُوهُ » ويفسره : أعطاكم أشياء ما سألتموها ولم تلتمسوها ، ولكن أعطيتكُم برحمتي وسعتي . قال الضحاك : فكم من شيء أعطانا الله ما سألنا ولا طلبناه .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : «وآتاكُمْ مِنْ كُلَ ما سَألْتُمُوهُ » يقول : أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها ، صدق الله كم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطر لنا على بال .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : «وآتاكُمْ مِنْ كُلَ ما سألْتُمُوهُ » قال : لم تسألوه من كلّ الذي آتاكم .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، القراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، وذلك إضافة «كل » إلى «ما » بمعنى : وآتاكم من سؤلكم شيئا ، على ما قد بيّنا قبل ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ورفضهم القراءة الأخرى .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها إنّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ .
يقول تعالى ذكره : وإن تعدّوا أيها الناس نعمة الله التي أنعمها عليكم لا تطيقوا إحصاء عددها والقيام بشكرها إلاّ بعون الله لكم عليها . إنّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ يقول : إن الإنسان الذي بدّل نعمة الله كفرا لظَلُومٌ : يقول : لشاكر غير من أنعم عليه ، فهو بذلك من فعله واضع الشكر في غير موضعه وذلك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم واستحقّ عليه إخلاص العبادة له ، فعبد غيره وجعل له أندادا ليضلّ عن سبيله ، وذلك هو ظلمه . وقوله : كَفّارٌ يقول : هو جحود نعمة الله التي أنعم بها عليه لصرفه العبادة إلى غير من أنعم عليه ، وتركه طاعة من أنعم عليه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا مِسْعَر ، عن سعد بن إبراهيم ، عن طلق بن حبيب ، قال : إن حقّ الله أثقل من أن تقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن تحصيهَا العباد ولكن أصبِحوا تَوّابين وأمسُوا توّابين .