غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ} (34)

18

ولما فصل طرفاً من النعم أجمل الباقية منها بقوله : { وآتاكم من كل ما سألتموه } أي بعض جميع ما سألتموه . ومن قرأ بالتنوين ف " ما " إما نافية والجملة نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، أو موصولة بمعنى وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه وطلبتموه بلسان الحال . ثم بين أن نعم الله على عبيده غير متناهية فقال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } أي لا تقدرون على تعدادها لكثرتها بل لعدم تناهيها . قال الواحدي : النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر كالنفقة بمعنى الإنفاق ولهذا لم تجمع . ومن تأمل في تشريح الأبدان وفي أعضاء الحيوان وأجزائها من العروق الدقاق والأوردة والشرايين وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة ووقف على منافعها ، عرف بعض دقائق نعم الله تعالى على عباده . وإذا جاوز النفس إلى الآفاق وسير فكره في أحوال الأجسام السفلية والعلوية ، وقف من بديع صنعتها وعظيم منفعتها على ما يقضى منه العجب . وإذا عبر الملك إلى الملكوت تاه في أودية الحيرة والدهشة وتلاشى عقله عند أدنى سرادقات العزة والهيبة . قال الحكيم : إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها . أما الذي قبلها فكالخبز والطحن والزرع وغير ذلك من الآلات المعينة والأسباب الفاعلية والقابلية حتى تنتهي إلى الأفلاك والعناصر ، وأما الذي بعده فكالقوى المعينة على الجذب والإمساك والهضم والدفع وكالأعضاء الحاملة لتلك القوى وكسائر الأمور النافعة في ذلك الباب خارجة من البدن أو داخلة فيه ، فإنها لا تكاد تنحصر . وإذا كانت نعم الله تعالى في تناول لقمة واحدة تبلغ هذا المبلغ فكيف فيما جاوز ذلك ؟ إذا كنت في عالم الأجساد ، فإذا تخطيت إلى عالم الأرواح وأجلت طرف عقلك في ميادين القدس وحظائر الأنس وصادفت بعض ما هنالك من الكرامات واللذات فلعلك تعرف حق النعمة إذ تغرق في لجة المنة أو تغرف من نهر المنحة والنعم هنالك على وفق الاستعداد وإدراك النعم بمقدار الفهم والرشاد ، فإن كنت أهلاً لها فذاك وإلا فلا تلم إلا نفسك { إن الإنسان } أي هذا الجنس { لظلوم } يظلم النعمة بإغفال شكرها { كفار } شديد الكفران لها وذلك أنه مجبول على النسيان والملالة فلا بد أن يقع في إغفال شكر النعمة إن نسيها ، أو في كفران النعمة إذا ملها . وقيل : ظلوم في الشدائد بالشكاية والجزع كفار في السعة يجمع ويمنع . واعلم أنه ختم الآية في هذه السورة بما ختم وختمها في النحل بقوله : { إن الله لغفور رحيم } وكأنه قال : إن كنت ظلوماً فأنا غفور ، وإن كنت كفاراً فأنا رحيم فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء ، تلك صفتك في الأخذ وهذه صفتي في الإعطاء .

/خ34