روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ} (34)

{ وءاتاكم * مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أي أعطاكم بعض جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة والمصلحة فمن كل مفعول ثان لآتى و { مِنْ } تبعيضية ، وقال بعض الكاملين : إن { كُلٌّ } للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } [ الأنعام : 44 ] واعترض على حمل { مِنْ } على التبعيض دون ابتداء الغاية بأنه يفضي إلى إخلاء لفظ { كُلٌّ } عن فائدة زائدة لأن { مَا } نص في العموم بل يوهم إيتاء البعض من كل فرد متعلق به السؤال ولا وجه له .

ودفع بأنه بعد تسليم كون { مَا } نصاً في العموم هنا عمومان عموم الأفراد وعموم الأصناف بمعنى كل صنف صنف وهما مقصودان هنا ، فالمعنى أعطاكم من جميع أفراد كل صنف سألتموه ، فإن الاحتياج بالذات إلى النوع/ والصنف لا لفرد بخصوصه ، وفسر { مَا سَأَلْتُمُوهُ } بما من شأنه أن يسأل لاحتياج الناس إليه سواء سئل بالفعل أم لم يسأل ، فلا ينفي إيتاء ما لا حاجة إليه مما لا يخطر بالبال ، وجعلوا الاحتياج إلى الشيء سؤالاً له بلسان الحال وهو من باب التمثيل ، وسبيل هذا السؤال سبيل الجواب في رأي في قوله تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] وقيل : الأصل وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه فحذف الثاني لدلالة ما أبقى على ما ألقى ، { وَمَا } يحتمل أن تكون موصولة والضمير المنصوب في { سَأَلْتُمُوهُ } عائد عليها ، والتقدير من كل الذي سألتموه إياه ؛ ومنع أبو حيان جواز أن يكون راجعاً إليه تعالى ويكون العائد على الموصول محذوفاً مستنداً بأنه لو قدر متصلاً لزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة من دون اختلاف وهو لا يجوز( {[491]} ) ولو قدر منفصلاً حسبما تقتضيه القاعدة في مثل ذلك لزم حذف العائد المنفصل وقد نصوا على عدم جوازه اه .

وذهب بعضهم إلى جواز كلا التقديرين مدعياً أن منع اتصال المتحدين رتبة خاص فيما إذا ذكرا معاً أما إذا ذكر أحدهما وحذف الآخر فلا منع إذ الاتصال حينئذٍ محض اعتبار وعلة المنع لا تجري فيه ، وأن منع حذف المنفصل خاص أيضاً فيما إذا كان الانفصال لغرض معنوي كالحصر في قولك : جاء الذي أباه ضربت إذ بالحذف حينئذٍ يفوت ذلك الغرض ، أما إذا كان لغرض لفظي كدفع اجتماع المثلين فلا منع إذ ليس هناك غرض يفوت ، ويحتمل أن تكون موصوفة والكلام في الضمير كما تقدم ، وأن تكون مصدرية والضمير لله تعالى والمصدر بمعنى المفعول أي مسؤولكم .

وقرأ ابن عباس . والضحاك . والحسن . ومحمد بن علي . وجعفر بن محمد . وعمرو بن قائد . وقتادة . وسلام . ويعقوب .

ونافع في رواية { مِن كُلّ } بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال ، وجوز على هذه القراءة أن تكون { مَا } نافية والمفعول الثاني { مِن كُلّ } كما في قوله تعالى : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } [ النمل : 23 ] والجملة المنفية في موضع الحال أي أتاكم من كل غير سائليه ، وهو إخبار منه تعالى بسيوغ نعمته سبحانه عليهم بما لم يسألوه من النعم ؛ وروي هذا عن الضحاك ، ولا يخفى أن الوجه هو الأول ما أن القراءة على هذا الوجه تخالف القراءة الأولى والأصل توافق القراءتين وإن فهم منها إيتاء ما سألوه بطريق الأول .

{ وَإِن تَعُدُّواْ * نِعْمَتَ الله } أي ما أنعم به عليكم كما هو الظاهر .

وقال الواحدي : إن { نِعْمَتَ } هنا اسم أقيم مقام المصدر يقال : أنعم إنعاماً ونعمة كما يقال أنفقت إنفاقاً ونفقة فالنعمة بمعنى الإنعام ولذا لم تجمع ، والمعول عليه ما أشرنا إليه من أنها اسم جنس بمعنى المنعم به ، والمراد بها الجمع كأنه قيل : وإن تعدوا نعم الله { لاَ تُحْصُوهَا } وقد نص بعضهم على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة وما قيل : إن الاستغراق ليس مأخوذاً من الإضافة بل من الشرط والجزاء المخصوصين فيه نظر لأن الحكم المذكور يقتضي صحة إرادته منه ولولاه تنافيا ، والمراد بلا تحصوها لا تطيقوا حصرها ولو إجمالاً فإنها غير متناهية ، وأصل الإحصاء العد بالحصى فإن العرب كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع ولذا قال الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى . . . وإنما العزة للكاثر

/ ثم استعمل لمطلق العد ، وقال بعض الأفاضل : إن أصله أن الحاسب إذا بلغ عقداً معيناً من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظه بها ففيه إيذان بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها فضلاً عن بلوغ غايتها وهو من الحسن بمكان إلا أنه ذهب إلى الأول الراغب وغيره ، وأول الإحصاء بالحصر لئلا يتنافى الشرط والجزاء إذا ثبت في الأول العد ونفي في الثاني ولو أول { ءانٍ * تَعْدُواْ } بأن تريدوا العد يندفع السؤال على ما قيل أيضاً والأول أولى ، وقال بعض الفضلاء : إن المعنى أن تشرعوا في عد أفراد نعمة من نعمه تعالى لا تطيقوا عدها .

وإنما أتى بإن وعدم العد مقطوع به نظراً إلى توهم أنه يطاق ، قيل : والكلام عليه أبلغ منه على الأول لما فيه من الإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يمكن عد تفاصيلها ، لكن أنت تعلم أن الظاهر هو الأول . وقد ذكر الإمام مثالين يستوضح بهما الوقوف على أن نعم الله تعالى لا تحصى ولا يمكن أن تستقصى فقال :

الأول : أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان دماغية ونخاعية ، والدماغية سبعة وقد أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحدة منها ، ولا شك أن كل واحدة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحدة من تلك الشعب تنقسم أيضاً إلى شعب أدق من الشعر ، ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء ، ولو أن واحدة اختلت كيفاً أو وضعاً أو نحو ذلك لاختلت مصالح البنية ، ولكل منها على كثرتها حكم مخصوصة ، وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة ، وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والوضع والفعل والانفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحراً لا ساحل له ، وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان فاعتبر في نفسه وروحه فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجسام ؛ وإذا اعتبرت أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والمعدن والحيوان ظهر لك أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلاً واحداً وتأمل به الإنسان في حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل .

الثاني : أنه إذا أخذت لقمة من الخبز لتضعها في فمك فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها ، فأما الأول فأعرف أنها لا تتم إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائماً على الوجه الأصوب لأن الحنطة لا بد منها ولا تنبت إلا بمعونة الفصول وتركب الطبائع وظهور الأمطار والرياح ، ولا يحصل شيء من ذلك إلا بدور أن الأفلاك واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة ، ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد لها من آلات الطحن ونحوه وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال ؛ ثم تأمل كيف تكونت على الأشكال المخصوصة ، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر حتى يمكن الطبخ ، وأما الثاني فتأمل في تركيب بدن الحيوان وهو أنه تعالى كيف خلق ذلك حتى يمكنه الانتفاع بتلك اللقمة ، وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل ؛ وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار فلا يمكنك أن تعرف القليل إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب على الوجه الأكمل ، وأني للعقول بإدراك كل ذلك فظهر بالبرهان الباهر صحة هذه الشرطية اه .

وقال مولانا أبو السعود قدس سره بعد كلام : وإن رمت العثور على حقيقة الحق والوقوف على ما جل من السر ودق فاعلم أن الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتبعه من الكمالات اللائقة والملكات الرائقة بحيث لم انقطع ما بينه وبين العناية الإلهية من العلاقة لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار ومهاوي الهلاك والدمار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من أنواع الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وسائر الصفات الروحانية والنفسانية والجسمانية ما لا يحيط به نطاق التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير ، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجود ابتداءً لا يستحقه بقاءً وإنما ذلك من جناب المبدىء الأول عز شأنه وجل فكما لا يتصور وجوده ابتداءً ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبي .

وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية ، وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود وارتفاع تلك الموانع التي لا تتناهى أعني بقاءها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها في كل آن من آنات وجوده ، نعم غير متناهية حقيقة لا ادعاء ، وكذا الحال في وجودات علله وشرائطه القريبة والبعيدة ابتداءً وبقاءً ، وكذا في كمالاته التابعة لوجوده اه ، ويتراءى منه أنه قد ترك الإمام في تحقيق هذا المقام وراءه وأنه لو سمع ذلك لاقتدى به في ذكره ولعد من النعم اقتداءه وقريب منه ما يقال في بيان عدم تناهي النعم : إن الوجود نعمة نكذا كل ما يتبعه من الكمالات ، وذلك موقوف على وجوده تعالى في الأزمنة الموهومة الغير المتناهية ، وتحقق ما يتوقف عليه وجود النعمة نعمة فتحققه سبحانه في كل آن من تلك الآنات نعمة ، فالنعم غير متناهية ، ولك أن تقول في بيان ذلك : إنه ما من إنسان إلا وقد دفع الله تعالى عنه من البلايا ما لا يحيط به نطاق الحصر لأن البلايا الداخلة تحت حيطة الإمكان غير متناهية ، ولا شك أن دفع كل بلية نعمة فتكون النعم غير متناهية ، ومما يوضح عدم تناهي البلايا الممكنة أن أهل النار المخلدين فيها لا زال عذابهم بازدياد كما يرشد إليه قوله تعالى : { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } [ النبأ : 30 ] وقد ذكر غير واحد في ذلك أنهم كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد من ذلك ، فيكون كل مرتبة منه متناهياً في الشدة وإن كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والمدة وعلى هذا نعم الله تعالى على المبتلي أيضاً لا تحصى .

وفي رواية ابن أبي الدنيا . والبيهقي عن ابن مسعود قال : إن لله تعالى على أهل النار منة فلو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم . ثم الظاهر أن المراد بالنعمة معناها اللغوي أعني الأمر الملائم لا المعنى الشرعي أعني الملائم الذي تحمد عاقبته إذ لا يتأتى عليه عموم الخطاب ، ولا يبعد إطلاق النعمة بذلك المعنى على نحو رفع الموانع وتحقق العلل والشرائط حسبما ذكر سابقاً ، وظاهر ما تقدم يقتضي أن النعم في حد ذاتها غير محصورة والآية ظاهرة في أن الإنسان لا يحصرها بالعد وفرق بين الأمرين فتدبر .

وبالجملة ليس للعبد إلا العجز عن الوقوف على نهاية نعمه سبحانه وتعالى وكذا العجز عن شكر ذلك ، وما أحسن ما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه : من لم يعرف نعمة الله تعالى عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه .

وأخرج البيهقي في الشعب . وغيره عن سليمان التيمي قال : إن الله تعالى أنعم على العباد على قدره سبحانه وكلفهم الشكر على قدرهم ، وعن طلق بن حبيب قال : إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله سبحانه أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين . وأفضل نعمه جل شأنه على عباده على ما روي عن سفيان بن عيينة أن عرفهم أن لا إله إلا الله . وأخرج ابن أبي الدنيا . وغيره عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم أن داود عليه السلام قال : رب أخبرني ما أدنى نعمتك على ؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود تنفس فتنفس فقال تبارك وتعالى : هذا أدنى نعمتي عليك . واشتهر أن أول النعم المقصودة لذاتها الوجود وأنه معدن كل كمال كما أن العدم معدن كل نقص . ويدل على أنه نعمة لا يكاد يقاس بها غيرها عند كثير من الناس أن الإنسان منهم يفدي نفسه بملك الدنيا لو كان بيده وعلم أن الفداء ممكن إذا ألم به الألم وتحقق العدم .

ومن العجيب أن أبا علي الشبلي البغدادي ، وقيل : ابن سيناء لم يعد وجود الإنسان نعمة عليه فقد قال من أبيات :

ودهر ينثر الأعمار نثرا . . . كما للغصن بالورق انتثار

ودنيا كلما وضعت جنينا . . . غذاه من نوائبها ظؤار

إلى أن قال :

نعاقب في الظهور وما ولدنا . . . ويذبح في حشا الأم الحوار

وننتظر البلايا والرزايا . . . وبعد فللوعيد لنا انتظار

ونخرج كارهين كما دخلنا . . . خروج الضب أخرجه الوجار

فماذا الامتنان على وجود . . . لغير الموجدين به الخيار

فكانت أنعما لو أن كونا . . . نخير قبله أو نستشار

فهذا الداء ليس له دواء . . . وهذا الكسر ليس له انجبار

إلى آخر ما قال ، ولعمري لقد غمط نعمة الله تعالى عليه وظلمها { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } يظلم النعمة بإغفال شكرها بالكلية أو بوضعه في غير موضعه أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان بترك الشكر { كُفِرَ } شديد الكفران والجحود ، وقيل : ظلوم في الشدة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع ، والأول أنسب بما قبله ، وأل في الإنسان للجنس ومصداق الحكم بالظلم وأخيه بعض من وجدا من إفراده فيه ويدخل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله تعالى كفراً ، والظاهر أن الجملة استئناف بياني وقع جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل : لم لم يراعوا حقها ؟ أو لم حرمها بعضهم ؟ وقيل : إنها تعليل لعدم تناهي النعم ولذا أتى بصيغتي المبالغة فيها وهو كما ترى هذا ، وفي النحل ( 18 )

{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } وفرق أبو حيان بين الختمين بأنه هنا لما تقدم قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا } [ إبراهيم : 28 ] وبعده { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا } [ إبراهيم : 30 ] فكان ذلك نصاً على ما فعلوا من القبائح من الظلم والكفران ناسب أن يختم بذم من وقع ذلك منه فختمت الآية بقوله سبحانه : { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } وأما في النحل فلما ذكر عدة تفضلات وأطنب فيها وقال جل شأنه : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] أي من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ذكر من تفضلاته تعالى اتصافه بالغفران والرحمة تحريضاً على الرجوع إليه سبحانه وأن هاتين الصفتين هو جل وعلا متصف بهما كما هو متصف بالخلق ، ففي ذلك أطماع لمن آمن به تعالى وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق تبارك وتعالى أنه يغفر زلله السابق ويرحمه ، وأيضاً فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان ذكر ما حصل من المنعم ومن جنس المنعم عليه ، فحصل من المنعم ما يناسب حالة عطائه وهو الغفران والرحمة إذ لولاهما لما أنعم عليه ، وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسب حالة الإنعام عليه ويقع معها في الجملة وهو الظلم والكفران فكأنه قيل : إن صدر من الإنسان ظلم فالله تعالى غفور أو كفران فالله تعالى رحيم لعلمه بعجز الإنسان وقصوره . وما نقل السخاوي عن عبد الرحمن بن أسلم من أن هذه الآية منسوخة بآية النحل مما لا يلتفت إليه انتهى كلامه .

وفيه بحث ، وقيل : إنما ختم سبحانه آية النحل بما ختم للإطناب هناك في ذكر النعم مع تقدم الدعوة إلى الشكر صريحاً فكان ذلك مظنة التقصير فيه ويناسب الإطناب في سرد النعم أن يذكر منها ما يتعلق بذلك وهو الغفران والرحمة فتأمل والله تعالى أعلم بأسرار كتابه .

( ومن باب الإشارة ) :{ وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } بلسان الاستعداد فإن المسؤول بذلك لا يمنع { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله } السابقة واللاحقة { لاَ تُحْصُوهَا } لعدم تناهيها { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } ينقص حق الله تعالى أو حق نفسه بإبطال الاستعداد أو يضع نور الاستعداد في ظلمة الطبيعة ومادة البقاء في محل الفناء { كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] لتلك النعم التي لا تحصى لغفلته عن المنعم عليه بها ، وقيل : إن الإنسان لظلوم لنفسه حيث يظن أن شكره يقابل نعمه تعالى ، كفار محجوب عن رؤية الفضل عليه بداية ونهاية ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ويكرمنا بالهداية والعناية .


[491]:- قال ابن مالك وفي اتحاد الرتبة الزم فصلا أهـ منه.