المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

9- اذكروا - أيها المؤمنون ، وأنتم تتقاسمون الغنائم وتختلفون - الوقت الذي كنتم تتجهون فيه إلى الله تعالى ، طالبين منه الغوث والمعونة ، إذ كتب عليكم أنه لا خلاص من القتال ، فأجاب الله دعاءكم ، وأمدَّكم بملائكة كثيرة تبلغ الألف متتابعة ، يجئ بعضها وراء بعض{[72]} .


[72]:لما علم مقاتلو المؤمنين أن لا محيص عن القتال أخذوا يستغيثون بالله تعالى طالبين النصر، فاستجاب الله تعالى لهم وأمدهم بألف من الملائكة متتابعين. أي بدأ الأمر بإرسال مقدمة تليها باقي القوات، وهو ما يعمل به حاليا عند إرسال قوات التعزيز لجنود المقاتلين في ميادين القتال. إذ تنص المبادئ الحديثة على إرسال الإمدادات أفواجا متتابعة حتى يسهل توجيه كل فريق إلى مكانه في المعركة دون تعطل أو ازدحام، وعندما تصل التعزيزات للقوات المقاتلة تبتهج النفوس وتعلو الروح المعنوية، وهو ما أراده الله سبحانه وتعالى بقوله: {وما جعله اله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم} والنصر دائما من عند الله.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

قوله تعالى : { إذ تستغيثون ربكم } ، تستجيرون به من عدوكم ، وتطلبون منه الغوث والنصر . روي عن ابن عباس قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، دخل العريش هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، واستقبل القبلة ، ومد يده ، فجعل يهتف بربه عز وجل : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) ، فما زال يهتف بربه عز وجل ماداً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك . فأنزل الله عز وجل { إذ تستغيثون ربكم } .

قوله تعالى : { فاستجاب لكم أني ممدكم } ، مرسل إليكم مدداً وردءاً لكم .

قوله تعالى : { بألف من الملائكة مردفين } ، قرأ أهل المدينة ويعقوب ( مردفين ) مفتح الدال ، أي : أردف الله المسلمين ، وجاء بهم مدداً ، وقرأ الآخرون بكسر الدال ، أي : متتابعين بعضهم في أثر بعض ، يقال : أردفته بمعنى تبعته . يروى أنه نزل جبريل في خمسمائة ، وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال ، على خيل بلق ، عليهم ثياب بيض ، وعلى رؤوسهم عمائم بيض ، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ناشد ربه عز وجل ، وقال أبو بكر : إن الله منجز لك ما وعدك ، خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه ، فقال : يا أبا بكر أتاك نصر الله ، هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا إبراهيم بن موسى ، ثنا عبد الوهاب ، ثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : ( هذا جبريل آخذ برأس فرسه ، عليه أداة الحرب ) .

وقال عبد الله بن عباس : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض ، ويوم حنين عمائم خضر ، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام ، وكانوا يكونون فيما سواه عدداً ومدداً .

وروي عن أبي أسيد بن مالك بن ربيعة قد شهد بدراً أنه قال بعدما ذهب بصره : لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها ، حيث يتجلى كيف كانت حالهم ، وكيف دبر الله لهم ، وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً . . . والتعبير القرآني الفريد يعيد تمثيل الموقف بمشاهده وحوادثه وانفعالاته وخفقاته ، ليعيشوه مرة أخرى ، ولكن في ضوء التوجيه القرآني ، فيروا أبعاده الحقيقية التي تتجاوز بدراً ، والجزيرة العربية ، والأرض كلها ؛ وتمتد عبر السماوات وتتناول الملأ الأعلى ؛ كما أنها تتجاوز يوم بدر ، وتاريخ الجزيرة العربية ، وتاريخ البشرية في الأرض ، وتمتد وراء الحياة الدنيا ، حيث الحساب الختامي في الآخرة والجزاء الأوفى ، وحيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله ، وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى : ( إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى ، ولتطمئن به قلوبكم ، وما النصر إلا من عند الله ، إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام . إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، فاضربوافوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب . ذلكم فذوقوه ، وأن للكافرين عذاب النار ) . .

إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته ، وتدبيره وقدره ؛ وتسير بجند الله وتوجيهه . . وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان ، كأنه يكون الآن !

فأما قصة الاستغاثة فقد روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي [ ص ] إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة . فاستقبل النبي [ ص ] القبلة ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : " اللهم أنجز لي ما وعدتني . اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً " قال : فما زال يستغيث ربه ويدعوه ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) . .

وتروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر : عددهم . وطريقة مشاركتهم في المعركة . وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين . . . ونحن - على طريقتنا في الظلال - نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المستيقنة من قرآن أو سنة . والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) . . فهذا عددهم . . ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) . . فهذا عملهم . . ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية . . وبحسبنا أن نعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم ، وهي قلة والأعداء كثرة . وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله - سبحانه - في كلماته . .

قال البخاري : باب شهود الملائكة بدراً : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل إلى النبي [ ص ] فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ? قال : " من أفضل المسلمين " - أو كلمة نحوها - قال : " وكذلك من شهد بدراً من الملائكة " . . . [ انفرد بإخراجه البخاري ] . . .

( إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

يتعلق ظرف { إذ تستغيثون ربكم } بفعل { يريد الله } [ الأنفال : 7 ] لأن إرادة الله مستمر تعلقها بأزمنة منها زمانُ استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمينَ ربّهم على عدوهم ، حين لقائهم مع عدوهم يومَ بدر ، فكانت استجابة الله لهم بإمدادهم بالملائكة ، من مظاهر إرادته تحقيقَ الحق فكانت الاستغاثةُ يوم القتال في بدر وإرادة الله أن يُحِق الحق حصلت في المدينة يوم وعَدَهم الله إحدى الطائفتين ، ورشح لهم أن تكون إحدى الطائفتين ذات الشوكة ، وبيْنَ وقت الإرادة ووقت الاستغاثة مدةَ أيام ، ولكن لما كانت الإرادة مستمرة إلى حين النصر يوم بدر صح تعليق ظرف الاستغاثة بفعلها ، لأنه اقترن ببعضها في امتدادها ، وهذا أحسن من الوجوه التي ذكروها في متعلق هذا الظرف أو موقعه .

وقد أشارت الآية إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب قال « نظر نبيء الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فاستقبل نبيء الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تَهْلك هذه العصابة من أهل الإسلام ( لا ) تُعَبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمَه من ورائه فقال يا نبيء الله كفَاك مُناشَدَةُ ربّك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردَفين } أي فأنزل الله في حكاية تلك الحالة . وعلى هذه الرواية يكون ضمير { تستغيثون } مراداً به النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بضمير الجماعة لأنه كان يدعو لأجلهم ، ولأنه كان معلنا بدعائه وهم يسمعونه ، فهم بحال من يدعون ، وقد جاء في « السيرة » أن المسلمين لما نزلوا ببدر ورأوا كثرة المشركين استغاثوا الله تعالى فتكون الاستغاثة في جميع الجيش والضمير شاملاً لهم .

والاستغاثة : طلب الغوث ، وهو الإعانة على رفع الشدة والمشقة ولما كانوا يومئذ في شدة ودعوا بطلب النصر على العدو القوي كان دعاؤهم استغاثة .

{ فاستجاب لكم } أي وعدكم بالإغاثة .

وفعل استجاب يدل على قبول الطلب ، والسين والتاء فيه للمبالغة أي تحقيق المطلوب .

وقوله : { أني ممدكم بألف من الملائكة } هو الكلام المستجاب به ولذلك قدره في « الكشاف » بأن أصله بأني ممدكم أي فحذف الجار وسلط عليه { استجاب } فنصب محله .

وأرى أن حرف ( أن ) المفتوحة الهمزة المشددة النون إذا وقعت بعد ( ما ) فيه معنى القول دون حروفه أن تكون مفيدة للتفسير مع التأكيد كما كانت تفيد معنى المصدرية مع التأكيد ، فمن البيّن أن ( أن ) المفتوحة الهمزة مركبة من ( أنْ ) المفتوحة الهمزة المخففة النون المصدرية في الغالب ، يجوز أن يُعتبر تركيبها من ( أنْ ) التفسيرية إذا وقعت بعد ( ما ) فيه معنى القول دون حروفه ، وذلك مظنة ( أن ) التفسيرية ، وأعْتضِدُ بما في « اللسان » من قول الفراء : « إذا جاءت [ أن : ] بعد القول وما تصرف من القول كانت حكاية ، فلم يقع عليها ( أي القول ) فهي مكسورة ، وإن كانت تفسيراً للقول نصبتَها ومثله : قد قلت لك كلاماً حسناً أن أباك شريف ، فتحتَ أن لأنها فسرت الكلام .

قلت : ووقوع ( أن ) موقع التفسير كثير : في الكلام . وفي القرآن ، ومنه قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] الآية ، ومن تأمل بإنصاف وجد متانة معنى قوله : { أني ممدكم بألف من الملائكة } في كون ( أن ) تفسيرية ، دون كونها مجرورة بحرف جر محذوف . مع أن معنى ذلك الحرف غير بين .

والإمداد إعطاء المدد وهو الزيادة من الشيء النافع .

وقرأ نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب : بفتح الدال من { مردَفين } أي يَرِدُ فهم غيرُهم من الملائكة ، وقرأ البقية : بكسر الدال أي تكون الألف رادِفاً لغيرهم قبلَهم .

والإرداف الإتباع والإلحاق فيكون الوعد بألف وبغيرها على ما هو متعارف عندهم من إعداد نجدة للجيش عند الحاجة تكون لهم مدداً ، وذلك أن الله أمدهم بآلاف من الملائكة بلغوا خمسة آلاف كما تقدم في سورة آل عمران ، ويجوز أن يكون المراد بألف هنا مطلق الكثرة فيفسره قوله : { بثلاثة آلافٍ } في سورة آل عمران ( 124 ) ، وهم مردَفون بألفين ، فتلك خمسة آلاف ، وكانت عادتهم في الحرب إذا كان الجيش عظيماً أن يبعثوا طائفة منه ثم يعقبوها بأخرى لأن ذلك أرهب للعدو .

ويوجه سيوفهم ، وحلول الملائكة في المسلمين كان بكيفية يعلمها الله تعالى : إما بتجسيم المجردات فيراهم من أكرمه الله برؤيهم ، وإما بإراءة الله الناس ما ليس من شأنه أن يُرى عادة .