172- بيَّن اللَّه هنا هداية بني آدم بنصب الأدلة في الكائنات ، بعد أن بيَّنها عن طريق الرسل والكتب ، فقال : واذكر - أيها النبي - للناس حين أخرج ربك من أصلاب بني أدم ونسلهم وما يتوالدون قرنا بعد قرن ، ثم نصب لهم دلائل ربوبيته في الموجودات ، وركز فيهم عقولا وبصائر يتمكنون بها من معرفتنا ، والاستدلال بها على التوحيد والربوبية ، حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بل أنت ربنا شهدنا بذلك على أنفسنا ، لأن تمكينهم من العلم بالأدلة وتمكنهم منه في منزلة الإقرار والاعتراف . وإنما فعلنا هذا لئلا تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين لا نعرفه .
قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الآية . أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن زيد بن الخطاب أخبره ، عن مسلم بن يسار الجهني ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الآية . قال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذريةً ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريةً فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل : ففيم العمل يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة ، استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخله به النار ) ، وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن . ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلاً .
قال مقاتل وغيره من أهل التفسير : إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذريةً بيضاء كهيئة الذر يتحركون ، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذريةً سوداء كهيئة الذر ، فقال : يا آدم ، هؤلاء ذريتك ، ثم قال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، فقال : للبيض : هؤلاء في الجنة برحمتي ولا أبالي ، وهم أصحاب اليمين ، وقال للسود : هؤلاء في النار ولا أبالي ، وهم أصحاب الشمال ، ثم أعادهم جميعاً في صلبه ، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال ، وأرحام النساء . قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } [ الأعراف : 102 ] . وقال بعض أهل التفسير : إن أهل السعادة أقروا طوعاً ، وقالوا : بلى ، وأهل الشقاوة قالوه تقيةً وكرهاً ، وذلك معنى قوله : { وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً } [ آل عمران : 83 ] . واختلفوا في موضع الميثاق ، قال ابن عباس رضي الله عنه : ببطن نعمان ، واد إلى جنب عرفة ، وروي عنه أيضاً : أنه بدهناء من أرض الهند ، وهو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام عليه . وقال الكلبي : بين مكة والطائف . وقال السدي : أخرج الله آدم عليه السلام من الجنة ، فلم يهبطه من السماء ، ثم مسح ظهره ، فأخرج ذريته . وروي : أن الله أخرجهم جميعاً ، وصورهم ، وجعل لهم عقولاً يعملون بها وألسناً ينطقون بها ، ثم كلمهم قبلاً يعني عياناً ، وقال ألست بربكم ؟ وقال الزجاج : وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذر فهما تعقل به ، كما قال تعالى : { قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل :18 ] . وروي أن الله تعالى قال لهم جميعاً : اعلموا أنه لا إله غيري ، وأنا ربكم ، لا رب لكم غيري ، فلا تشركوا بي شيئاً ، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ، ولم يؤمن بي ، وإني مرسل إليكم رسلاً يذكرونكم عهدي وميثاقي ، ومنزل عليكم كتباً ، فتكلموا جميعاً ، وقالوا : شهدنا أنك ربنا ، وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، فأخذ بذلك مواثيقهم ، ثم كتب آجالهم ، وأرزاقهم ومصائبهم ، فنطر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير ، وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : رب لولا سويت بينهم ؟ قال : إني أحب أن أشكر ، فلما قررهم بتوحيده ، وأشهد بعضهم على بعض أعادهم إلى صلبه ، فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه ، فذلك قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } أي : من ظهور بني آدم ذريتهم ، قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر : ( ذرياتهم ) بالجمع وكسر التاء ، وقرأ الآخرون ( ذريتهم ) على التوحيد ، ونصب التاء . فإن قيل : ما معنى قوله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } وإنما أخرجهم من ظهر آدم ؟ قيل : إن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد من الآباء في الترتيب ، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه . وأخرجوا من ظهره .
قوله تعالى : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ، أي : أشهد بعضهم على بعض .
قوله تعالى : { شهدنا أن تقولوا } ، قرأ أبو عمرو : ( أن يقولوا ) أو يقولوا بالياء فيهما ، وقرأ الآخرون بالتاء فيهما . واختلفوا في قوله : ( شهدنا ) قال السدي : هو خبر من الله عن نفسه ، وملائكته ، أنهم شهدوا على إقرار بني آدم . وقال بعضهم : هو خبر عن قول بني آدم : أشهد الله بعضهم على بعض ، فقالوا : بلى شهدنا ، وقال الكلبي : ذلك من قول الملائكة ، وفيه حذف تقديره : لما قالت الذرية : بلى ، قال الله للملائكة : اشهدوا ، قالوا : شهدنا ، قوله : ( أن يقولوا ) يعني : وأشهدهم على أنفسهم أن يقولوا ، أي : لئلا يقولوا أو كراهية أن يقولوا ، ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام : أخاطبكم : ألست بربكم لئلا تقولوا ؟
قوله تعالى : { يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } ، أي : عن هذا الميثاق والإقرار ، فإن قيل : كيف يلزم الحجة واحد لا يذكر الميثاق ؟ قيل : قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته ، وصدق رسله فيما أخبروا ، فمن أنكره كان معانداً . ناقضاً للعهد . ولزمته الحجة ، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج ، بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة .
( وإذ أخذ ربك من بني آدم - من ظهورهم - ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل . وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ . . وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ) . .
إنها قضية الفطرة والعقيدة يعرضها السياق القرآني في صورة مشهد - على طريقة القرآن الغالبة - وإنه لمشهد فريد . . مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب السحيق ، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود ، تؤخذ في قبضة الخالق المربي ، فيسألها : ( ألست بربكم ؟ ) . . فتعترف له - سبحانه - بالربوبية ؛ وتقر له - سبحانه - بالعبودية ؛ وتشهد له - سبحانه - بالوحدانية ؛ وهي منثورة كالذر ؛ مجموعة في قبضة الخالق العظيم !
إنه مشهد كوني رائع باهر ، لا تعرف اللغة له نظيراً في تصوراتها المأثورة ! وإنه لمشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته ! وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى ، وهي تجمع وتقبض . وهي تخاطب خطاب العقلاء - بما ركب فيها من الخصائص المستكنة التي أودعها إياها الخالق المبدع - وهي تستجيب استجابة العقلاء ، فتعترف وتقر وتشهد ؛ ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب !
وإن الكيان البشري ليرتعش من أعماقه وهو يتملى هذا المشهد الرائع الباهر الفريد . وهو يتمثل الذر السابح . وفي كل خلية حياة . وفي كل خلية استعداد كامن . وفي كل خلية كائن إنساني مكتمل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور في الصورة المكنونة له في ضمير الوجود المجهول ، ويقطع على نفسه العهد والميثاق ، قبل أن يبرز إلى حيز الوجود المعلوم !
لقد عرض القرآن الكريم هذا المشهد الرائع الباهر العجيب الفريد ، لتلك الحقيقة الهائلة العميقة المستكنة في أعماق الفطرة الإنسانية وفي أعماق الوجود . . عرض القرآن هذا المشهد قبل قرابة أربعة عشر قرناً من الزمان ، حيث لم يكن إنسان يعلم عن طبيعة النشأة الإنسانية وحقائقها إلا الأوهام ! ثم يهتدي البشر بعد هذه القرون إلى طرف من هذه الحقائق وتلك الطبيعة . فإذا " العلم " يقرر أن الناسلات ، وهي خلايا الوراثة التي تحفظ سجل " الإنسان " وتكمن فيها خصائص الأفراد وهم بعد خلايا في الأصلاب . . أن هذه الناسلات التي تحفظ سجل ثلاثة آلاف مليون من البشر ، وتكمن فيها خصائصهم كلها ، لا يزيد حجمها على سنتيمتر مكعب ، أو ما يساوي ملء قمع من أقماع الخياطة ! . . كلمة لو قيلت للناس يومذاك لاتهموا قائلها بالجنون والخبال ! وصدق الله العظيم : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . .
أخرج ابن جرير وغيره - بإسناده - عن ابن عباس قال : " مسح ربك ظهر آدم ، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة . . . فأخذ مواثيقهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ( ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ) " . . وروي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عباس . وقال ابن كثير : إن الموقوف أكثر وأثبت . .
فأما كيف كان هذا المشهد ؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ؟ وكيف خاطبهم : ( ألست بربكم )وكيف أجابوا : ( بلى شهدنا )? . . فالجواب عليه : أن كيفيات فعل الله - سبحانه - غيب كذاته . ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية . وكل فعل ينسب لله سبحانه مثل الذي يحكيه قوله هذا كقوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان . . . ) . . ( ثم استوى على العرش ) . . ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) . . ( والسماوات مطويات بيمينه ) . . ( وجاء ربك والملك صفاً صفاً ) . . ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) . . . إلى آخر ما تحكيه النصوص الصحيحة عن فعل الله سبحانه ، لا مناص من التسليم بوقوعه ، دون محاولة إدراك كيفيته . . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية كما قلنا . . والله ليس كمثله شيء . فلا سبيل إلى إدراك ذاته ولا إلى إدراك كيفيات أفعاله . إذ أنه . لا سبيل إلى تشبيه فعله بفعل أي شيء ، ما دام أن ليس كمثله شيء . . وكل محاولة لتصور كيفيات أفعاله على مثال كيفيات أفعال خلقه ، هي محاولة مضللة ، لاختلاف ماهيته - سبحانه - عن ماهيات خلقه . وما يترتب على هذا من اختلاف كيفيات أفعاله عن كيفيات أفعال خلقه . . وكذلك جهل وضل كل من حاولوا - من الفلاسفة والمتكلمين - وصف كيفيات أفعال الله ، وخلطوا خلطاً شديداً !
على أن هناك تفسيرا لهذا النص بأن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة . . فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده . أودع هذا فطرتهم فهي تنشأ عليه ، حتى تنحرف عنه بفعل فاعل يفسد سواءها ، ويميل بها عن فطرتها .
قال ابن كثير في التفسير : قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد - كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود ابن سريع - وقد فسر الحسن الآية بذلك . قالوا : ولهذا قال : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم )ولم يقل : من آدم . . ( من ظهورهم ) . . ولم يقل من ظهره . . ( ذرياتهم )أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرناً بعد قرن ، كقوله تعالى : وهو الذي جعلكم خلفاء الأرض . . وقال : ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) . . وقال : ( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) . . ثم قال : ( وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ! ) أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له . . حالاً . . وقالوا : والشهادة تارة تكون بالقول كقوله : ( قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . . وتارة تكون حالاً كقوله تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) . . أي حالهم شاهد عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك . . وكذلك قوله تعالى : ( وإنه على ذلك لشهيد ) . . كما أن السؤال تارة يكون بالمقالوتارة يكون بالحال . كقوله : ( وآتاكم من كل ما سألتموه ) . . قالوا : ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك . فلو كان قد وقع هذا ، كما قال من قال ، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه . فإن قيل : إخبار الرسول [ ص ] به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره . وهذا جعل حجة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد . ولهذا قال : ( أن تقولوا ) . . أي لئلا تقولوا ( يوم القيامة إنا كنا عن هذا ) . أي التوحيد . . ( غافلين ) ،
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ، و{ من ظهورهم } بدل { من بني آدم } بدل البعض . وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب " ذرياتهم " . { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم : { قالوا بلى } فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنوا منه بمنزلة الاشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل ويدل عليه قوله : { أن تقولوا يوم القيامة } أي كراهة أن تقولوا . { إنا كنا عن هذا غافلين } لم ننبه عليه بدليل .
هذا كلام مصروف إلى غير بني إسرائيل ، فإنهم لم يكونوا مشركين والله يقول { أو تقولوا إنما أشرك آباءنا من قبل } فهذا انتقال بالكلام إلى محاجة المشركين من العرب ، وهو المقصود من السورة ابتداء ونهاية ، فكان هذا الانتقال بمنزلة رد العجز على الصدر . جاء هذا الانتقال بمناسبة ذكر العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل في وصية موسى ، وهو ميثاق الكتاب ، وفي يوم رفع الطور . وهو عهد حصل بالخطاب التكويني أي بجعل معناه في جبلة كل نسمة وفطرتها ، فالجملة معطوفة على الجمل السابقة عطف القصة على القصة . والمقصود به ابتداءهم المشركون .
وتَبَدُّل أسلوب القصة واضح إذ اشتملت هذه القصة على خطاب في قوله : { أن تقولوا يوم القيامة } إلى آخر الآية . وإذ صرح فيها بمعاد ضمير الغيبة وهو قوله { من بني آدم } فعموم الموعظة تابع لعموم العظة . فهذا ابتداء لتقريع المشركين على الإشراك ، وما ذكر بعده إلى آخر السورة مناسب لأحوال المشركين .
و { إذ } اسم للزمن الماضي ، وهو هنا مجردٌ عن الظرفية ، فهو مفعول به لفعل « اذكرْ » محذوف .
وفعل { أخذ } يتعلق به { من بني آدم } وهو معدَّى إلى ذرياتهم ، فتعين أن يكون المعنى : أخذ ربك كلَّ فرد من أفراد الذرية . من كل فرد من أفراد بني آدم ، فيحصل من ذلك أن كل فرد من أفراد بني آدم أقر على نفسه بالمربوبية لله تعالى .
و ( من ) في قوله : { من بني آدم } وقوله : { من ظهورهم } ابتدائية فيهما .
والذُرّيات جمع ذُرَيّةَ ، والذّريّة اسمُ جمع لما يتولد من الإنسان ، وجمعُه هنا للتنصيص على العموم .
وأخذُ العهد على الذرية المخرَجين من ظهور بني آدم يقتضي أخذَ العهد عى الذرية الذين في ظهر آدم بدلالة الفحوى ، وإلا لكان أبناء آدم الأدْنَون ليسوا مأخوذا عليهم العهد مع أنهم أولى بأخذ العهد عليهم في ظهر آدم .
ومما يثبت هذه الدلالة أخبار كثيرة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جمع من أصحابه ، متفاوتة في القوة غيرُ خالٍ واحدٌ منها عن مُتكلَّم ، غير أن كثرتها يؤيد بعضُها بعضاً ، وأوضحها ما روى مالك في « الموطأ » في ترجمة « النهيُ عن القول بالقدر » بسنده إلى عمر بن الخطاب قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن هذه الآية { وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } فقال إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وساق الحديث بما لا حاجة إليه في غرضنا ، ومحمل هذا الحديث على أنه تصريح بمدلول الفحوى المذكور ، وليس تفسيراً لمنطوق الآية ، وبه صارت الآية دالة على أمرين ، أحدهما : صريح وهو ما أفاده لفظها ، وثانيهما : مفهوم وهو فحوى الخطاب .
وجاء في الآية أن الله أخذ على الذريات العهد بالإقرار بربوبية الله ، ولم يُتعرض لذلك في الحديث ، وذُكر فيه أنه ميز بين أهل الجنة وأهل النار منهم ، ولعل الحديث اقتصار على بيان ما سأل عنه السائِلُ فيكون تفسيراً للأية تفسيرَ تكميل لما لم يذكر فيها ، أو كان في الحديث اقتصار من أحد رواته على بعض ما سمعه .
والأخذ مجاز في الإخراج والانتزاع قال الله تعالى : { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } [ الأنعام : 46 ] الآية .
وقوله : { من ظهورهم } بدل { من بني آدم } أبدل بعض من كل ، وقد أعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كما تقدم في قوله تعالى : { ومن النخل من طلعها قنوانٌ دانيةٌ } في سورة الأنعام ( 99 ) .
والإشهاد على الأنفس يطلق على ما يساوي الإقرار أو الحمل عليه ، وهو هنا الحمل على الإقرار ، واستعير لحالة مغيبة تتضمن هذا الإقرار يعلمها الله لاستقرار معنى هذا الاعتراف في فطرتهم . والضمير في { أشهدهم } عائد على الذرية باعتبار معناه ، لأنه اسم يدل على جمعَ .
والقول في { قالوا بلى } مستعار أيضاً لدلالة حالهم على الاعتراف بالربوبية لله تعالى .
وجملة { ألستُ بربكم } مقولٌ لقول محذوف هو بيان لجملة { أشهدهم على أنفسهم } أي قررهم بهذا القول وهو من أمر التكوين . والمعنى واحد ، لأن الذرية لما أضيف إلى ضمير بني آدم كان على معنى التوزيع .
والاستفهام في { ألست بربكم } تقريري ، ومثله يقال في تقرير من يُظن به الإنكار أو يُنزل منزلة ذلك ، فلذلك يقرر على النفي استدراجاً له حتى إذا كان عاقداً قلبه على النفي ظن أن المقّرر يطلبه منه ، فأقدم على الجواب بالنفي ، فأما إذا لم يكن عاقداً قلبه عليه فإنه يجيب بإبطال النفي ، فيتحقق أنه بريء من نفي ذلك ، وعليه قوله تعالى : { ويوم يُعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق } [ الأحقاف : 34 ] تنزيلاً لهم منزلة من يظنه ليس بحق ، لأنهم كانوا ينكرونه في الدنيا ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم } في سورة الأنعام ( 130 ) .
والكلام تمثيل حال من أحوال الغيب ، من تسلط أمر التكوين الإلهي على ذوات الكائنات وأعراضها عند إرادة تكوينها ، لا تبلغ النفوس إلى تصورها بالكُنْه ، لأنها وراء المعتاد المألوف ، فيراد تقريبها بهذا التمثيل ، وحاصل المعنى : أن الله خلق في الإنسان من وقت تكوينه إدراك أدلة الوحدانية ، وجعل في فطرة حركة تفكير الإنسان التطلع إلى إدراك ذلك ، وتحصيل إدراكه إذا جرد نفسه من العوارض التي تدخل على فطرته فتفسدها .
وجملة : { قالوا بلى } جواب عن الاستفهام التقريري ، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) .
وأطلق القول إما حقيقة فذلك قول خارق للعادة ، وإمّا مجازاً على دلالة حالهم على أنهم مربوبون لله تعالى ، كما أطلق القول على مثله في قوله تعالى : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] أي ظهرت فيهما آثار أمر التكوين . وقال أبو النجم :
قالت له الطيرُ تقّدم راشداً *** إنك لا ترجع إلا حامداً
فهو من المجاز الذي كثر في كلام العرب .
و { بلى } حرف جواب لكلام فيه معنى النفي ، فيقتضي إبطال النفي وتقرير المنفي ، ولذلك كان الجواب بها بعد النفي أصرح من الجواب بحرف ( نَعم ) ، لأن نعم تحتمل تقرير النفي وتقرير المنفي ، وهذا معنى ما نقل عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : « لو قالوا نعم لكفروا » أي لكان جوابهم محتملا للكفر ، ولما كان المقام مقام إقرار كان الاحتمال فيه تفصيا من الاعتراف .
وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب : { ذرياتهم } ، بالجمع ، وقرأ الباقون { ذُريتهم } ، بالإفراد .
وقولهم : { شهدنا } تأكيد لمضمون { بلى } والشهادة هنا أيضاً بمعنى الإقرار .
ووقع { أن تقولوا } في موقع التعليل لفعل الأخذ والإشهاد ، فهو على تقرير لام التعليل الجارة ، وحذفُها مع أنْ جار على المطرد الشائع . والمقصود التعليل بنفي أن يقولوا { إنا كنا عن هذا غافلين } لا بإيقاع القول ، فحذف حرف النفي جريا على شيوخ حذفه مع القول ، أو هو تعليل بأنهم يقولون ذلك ، إن لم يقع إشهادهم على أنفسهم كما تقدم عند قوله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب } في سورة الأنعام ( 156 ) .
وقرأ الجمهور : أن تقولوا بتاء الخطاب وقد حول الأسلوب من الغيبة إلى الخطاب ، ثم من خطاب الرسول إلى خطاب قومه ، تصريحاً بأن المقصود من قصة أخذ العهد تذكير المشركين بما أودع الله في الفطرة من التوحيد ، وهذا الأسلوب هو من تحويل الخطاب عن مخاطب إلى غيره ، وليس من الالتفاف لاختلاف المخاطبين . وقرأه أبو عمرو ، وحده : بياء الغيبة ، والضمير عائد إلى ذريات بني آدم .
والإشارة { بهذا } إلى مضمون الاستفهام وجوابه وهو الاعتراف بالربوبية لله تعالى على تقديره بالمذكور .
والمعنى : أن ذلك لمَّا جُعل في الفطرة عند التكوين كانت عقول البشر منساقة إليه ، فلا يغفل عنه أحد منهم فيعتذرَ يوم القيامة ، إذا سئل عن الإشراك ، بعذر الغفلة ، فهذا إبطال للاعتذار بالغفلة ، ولذلك وقع تقدير حرف نفي أي أنْ لا تقولوا إلخ .