{ وإذ أخذ ربك من بني آدم } وكذا من آدم فالأخذ منه لازم للأخذ منهم لأن الأخذ منهم بعد الأخذ منه ، ففي الآية الاكتفاء باللازم عن الملزوم { من ظهورهم } بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار ، قاله الكواشي ، والذي في الكشاف أنه بدل بعض من كل ، قال الحلبي : وهو الظاهر وإيثار الأخذ على الإخراج للاعتناء بشأن المأخوذ لما فيه من الإنباء عن اختيار الاصطفاء وهو السبب في إسناده إلى الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي وإضافته إلى ضميره عليه السلام للتشريف .
{ ذريتهم } هي تقع على الواحد والجمع ، واستدل بهذا على أن المراد بالمأخوذين هنا هم ذرية بني آدم أخرجهم الله من أصلابهم نسلا بعد نسل على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء فلذلك قال من ظهورهم ولم يقل من ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنو آدم ، وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين وقالوا معنى { وأشهدهم على أنفسهم } دلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد فتكون هذه الآية من باب التمثيل كما في قوله تعالى { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } وبه قال الشيخ أبو منصور والزجاج والزمخشري .
وقيل المعنى أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد وأنه جعل فيها من المعرفة ما فهمت به خطابه سبحانه ، وقيل المراد ببني آدم هنا نفسه كما وقع في غير هذا الموضع ، والمعنى أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد وهؤلاء هم عالم الذر وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفا على غير واحد من الصحابة ولا ملجئ للمصير إلى المجاز ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل .
وقد ذكر البيضاوي والنسفي القولين وكذا الرازي وأبو السعود وغيرهما من المفسرين الذين مستهم الفلسفة ، والحق ما ذكرناه وإليه ذهب جمهور المفسرين .
وقد أخرج مالك في الموطأ وأحمد في المسند وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والضياء في المختارة عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال : ( إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل فقال : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار ) {[792]} .
ومسلم بن يسار{[793]} لم يسمع من عمر ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر بن الخطاب رجلا قال البغوي : قلت ذكر الطبري في بعض طرق هذا الحديث الرجل فقال عن مسلم بن يسار عن يعمر بن ربيعة عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وفي الباب عن أبي هريرة يرفعه عند الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، وفيه قصة إعطاء آدم ابنه داود أربعين سنة من عمره .
واختلف الناس في كيفية الاستخراج على أقوال لا مستند لها والحق وجوب اعتقاد إخراجها من ظهر آدم كما شاء الله تعالى كما ورد في الصحيح ، قال المقبلي في الأبحاث المسددة ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات الواردة في ذلك ، وقال بعضهم الظاهر أنه استخرجهم أحياء لأنه سماهم ذرية والذرية هم الأحياء لقوله : { إنا حملنا ذريتهم في الفلك } قال ابن عباس : إن أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه بدهناء أرض الهند فمسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو بارئها إلى يوم القيامة ثم أخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم أي أشهد كل واحد منهم .
{ ألست بربكم } أي قائلا هذا فهو على إرادة القول ، وفي هذه الآية رد على أهل المعاني في قولهم : إن الإغراق غير مقبول ما لم يقارن كاد ، ونحو هذا مما شهد به الذوق السليم وزكّى شهادته الطبع المستقيم .
قال الشهاب في الريحانة : وهذا وإن سلمه علماء المعاني والبيان إلا أنه محتاج إلى الإيضاح والبيان فإنه يعترض عليه بما يعارضه ويكدره ورود ما يناقضه كقوله عز وجل هذا . فإنه بمعناه إذ إخراج الذرية من الظهور قبل الخلق والظهور وأخذ المواثيق والعهود مما يقتضي الترغيب والترهيب ، وهذا على سبيل التحقيق دون التخييل والتقدير .
وقد ذكر هذا في حديث الصحيحين المعلوم عند علماء الحديث ولهم فيه طريقان مشهوران وهو مما خفي على كثير من العلماء ولهم فيه كلام محتاج للإيضاح فأقول لعلماء التفسير فيه طريقان .
( الأول ) إنه من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه ، وعلى هذا لا يبقى فيه إشكال ، ولا للبحث عنه مجال .
( الثاني ) إن له معنى جليلا قام عليه أقوى برهان ودليل ، فمنهم من ذهب إلى أنه استعارة وتمثيل نزّل فيه وضوح الأدلة القائمة على توحيده تعالى وصحة أحكام الشريعة المركوزة في الفطرة السليمة منزلة بروزهم في الخارج ، وأخذ العهود منزلة اتباع ما ذكره وتسليمه والعمل بمقتضاه ، فلا يرد عليه شيء مما ذكر .
ونحن نقول : إن الأمر الذي وقع فيه المبالغة لا يخلو إما أن يقع بعد زمان بعيد كالساعة أو لا يقع ، وهو إما محال متعذر الوقوع له نظائر ومشابه أو لا ، الأول مقبول لتنزيل المتحقق الوقوع منزلة الواقع ، وكذا الثاني لإمكان أن يراد مجاز أو كناية والأخير هو محل الكلام ، الذي عليه أهل المعاني أنه مردود ما لم يقترن به مسوغ مثل كاد ونحوها ، والآية ليست من هذا القبيل لإسنادها لله الذي أبرز المعدومات من أرحام العدم ، ولا يقتضي قدرته شيء في القدم ، فما عليها إلا الإيمان بذلك ، وما لم تصل له أفهامنا نكله إليه ونسأله أن يهدينا للوقوف عليه ، وكفى هذا الاحتمال في مثل هذه الحال ، وما بعد الهدى إلا الضلال انتهى .
{ قالوا بلى شهدنا } أي على أنفسنا بأنك ربنا ، واختلفوا في الإجابة هذه كيف كانت هل كانوا أحياء فأجابوا بلسان المقال ، أو أجابوه بلسان الحال والظاهر الأول ونكل علم كيفيتها إلى الله سبحانه ، وكان هذا القول على وفق السؤال لأنه تعالى سألهم عن تربيتهم ولم يسألهم عن إلههم فقالوا بلى فلما انتهوا إلى زمان التكليف وظهر ما قضى الله في سابق علمه لكل أحد منهم من وافق ومنهم من خالف قاله أبو طاهر القزويني .
وقيل تجلى للكفار بالهيبة وللمؤمنين بالرحمة ، فقال كلهم بلى ، قيل وكان ذلك قبل دخول آدم الجنة بين مكة والطائف قاله الكلبي ، وقيل بعد الهبوط منها ، وقال علي في الجنة وقيل بسرانديب من أرض الهند ، وهو الموضع الذي هبط آدم فيه من الجنة ، وكل ذلك محتمل ، ولا يضرنا الجهل بالمكان بعد صحة الاعتقاد بأخذ العهد والله أعلم .
أخرج أحمد والنسائي وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه كالذر ، ثم كلمهم فقال : ألست بربكم إلى قوله . . المبطلون ) ، وإسناده لا مطعن فيه{[794]} .
وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي والطبراني وأبو الشيخ عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لما خلق الله الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال يا أصحاب اليمين فاستجابوا له ، فقالوا لبيك ربنا وسعديك قال ألست بربكم قالوا بلى ، الحديث ) . .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة بعضها مقيد بتفسير هذه الآية وبعضها مطلق يشتمل على ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره وأخذ العهد عليهم كما في حديث أنس مرفوعا في الصحيحين وغيرهما ، وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذر وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم فهي كثيرة جدا ، وقد روي عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره ، وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل .
وقال أهل الكلام والنظر قولهم : بلى شهدنا على المجاز لا على الحقيقة ، وهو خلاف مذهب جمهور المفسرين من السلف ، قال ابن الأنباري : مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم صور كالذر وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم ، وأنهم مصنوعه ، فاعترفوا بذلك وقبلوه وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبال عقولا حتى خوطبوا بقوله : { يا جبال أوّبي معه } وكما جعل للبعير عقلا حتى سجد للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الشجرة حتى سمعت لأمره وانقادت .
وقولهم : شهدنا إقرار له بالربوبية وكلام مستأنف وقيل شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار وليس في الآية ما يدل على بطلان ما ورد في الأحاديث ، وقد ورد الحديث بثبوت ذلك وصحته فوجب المصير إليه والأخذ به جميعا بينهما ، وحكى الواحدي عن صاحب النظم أنه قال ليس بين قوله صلى الله عليه وسلم إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذرية وبين الآية اختلاف بحمد الله تعالى لأنه تعالى إذا أخرجهم من ظهر آدم فقد أخرجهم من ظهور ذريته ، لأن ذرية آدم كذرية بعضهم من بعض .
فإن قيل إذا سبق لنا عهد وميثاق مثل هذا فلأي شيء لا نذكره اليوم ، والجواب على ما ذكره سليمان الجمل إننا نتذكر هذا العهد لأن تلك البنية قد انقضت وتغيرت أحوالها بمرور الدهور عليها في أصلاب الأباء وأرحام الأمهات وتطور الأطوار الواردة عليها من العلقة والمضغة واللحم والعظم ، وهذا كله مما يوجب النسيان .
وكان علي بن أبي طالب يقول إني لأذكر العهد الذي عهد إليّ ربي ، وكذا كان سهل بن عبد الله التستري يقول اه .
قلت : وكذا روي عن الشيخ نظام الدين الدهولي المعروف بسلطان الأولياء ثم ابتدأهم بالخطاب على ألسنة الرسل وأصحاب الشرائع فقام ذلك مقام الذكر ، ولو لم ينسوه لانتفت المحنة والتكليف ، ولم يبلغنا في كون تلك الذرات مصورة بصورة الإنسان دليل ، والأقرب للعقول عدم الاحتياج إلى كونها بصورة الإنسان إذ السمع والنطق لا يفتقران إلى الصورة بل يقتضيان محلا حيا لا غير ، ويحتمل أن يكونوا مصورين بصورة الإنسان لقوله تعالى : { من ظهورهم ذرياتهم } ولم يقل ذراتهم ولفظ الذرية يقع على المصورين .
والحكمة في أخذ الميثاق منهم إقامة الحجة على من لم يوف بذلك العهد ، والظاهر أنه لما ردهم على ظهره قبض أرواحهم ، وأما أن الأرواح أين رجعت بعد رد الذرات على ظهره فهذه مسألة غامضة لا يتطرق إليها النظر العقلي بأكثر من أن يقال رجعت لما كانت عليه قبل حلولها في الذرات .
وورد أن كتاب العهد والميثاق مودع في باطن الحجر الأسود ، ذكره الشعراني في رسالته [ القواعد الكشفية في الصفات الإلهية ] وذكر فيها على هذه الآية اثني عشر سؤالا وأجاب عنها ، والحق عندي إن كل ما لم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة فإطواؤه على غرة أولى وترك الخوض فيه أحرى .
{ أن تقولوا } أي كراهة أن أو لئلا تقولوا { يوم القيامة إنا كنا عن هذا } أي عن كون الله ربنا وحده لا شريك له { غافلين } .