تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ} (172)

الآية 172 تكلم الناس في تأويل{[9087]} قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } الآية :

فمنهم من يقول : ذلك عندما خلق آدم أخرج من يكون من ذرّيته مثل الذّر ، فعرض عليهم قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } لكن اختلفوا :

فمنهم من يقول : جعل بالمبلغ الذي يجري على مثله القلم ، وهو قول الحسن .

ومنهم من يقول : عرض ذلك على الأرواح دون الأجساد ودون{[9088]} ذلك .

ومنهم من يقول بلا عرض : إنه خلق صنفين ، فقال : ( هؤلاء في الجنة ، وهؤلاء للنار ، ولا أبالي ) [ الحاكم في المستدرك 1/31 ] .

ومنهم من يقول : عرض الكل على ما عليه أحوالهم وآجالهم في الدنيا ، والله أعلم كيف كانت القصة ؟ أو كيف يرى أحوال الفقر والغنى في الذّر ؟ أو كيف [ قال ]{[9089]} : هؤلاء في كذا ولا أبالي مع إجماعهم على القول : بلى{[9090]} لمّا عرض عليهم قوله{[9091]} : { ألست بربكم } وقد رأينا في تلك الأخبار ما كان الكف عما له المراد وبخاصة حفظ العوام وأهل الضعف عن تبليغها ألزم وأعظم في النفع وأبعد عن الشبه من روايتها وتكلّف الكشف عنها . فنسأل الله العصمة عما به الهلاك والتوفيق للنصح بما به نجاة كل سامع ودفع كل شبهة وحيرة ، فإنه لا قوة إلا بالله .

ومنهم من ذهب في تأويل الآية إلى المعروف من ذرّية آدم والأخذ من الأصلاب والإنشاء في الأرحام على ما كان ، ويكون إلى يوم القيامة على ما قال الله سبحانه وتعالى { فلينظر الإنسان ممّ خلق } إلى قوله تعالى : { يخرج من بين الصّلب والتّرائب } [ الطارق : 5-7 ] وقال تعالى : { إن كنتم في ريب من البعث } الآية : [ الحج : 5 ] وقال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] وقال تعالى : { ما لكم لا ترجون لله وقارا } [ نوح : 13 ] وغير ذلك مما احتج من أول ما جرى به تدبير البشر إلى آخر ما ينتهي به أمره مما يعجز عن تقديره وسع الخلق ، ويستتر عن عقولهم كيفية بدء ذلك ، وما عليه تنقله من حال إلى [ حال ]{[9092]} من كل طرف عين ولحظ بصر مع ما فيه من عجيب التدبير وحسن التقويم الذي لو تكلف الخلق تصوير مثله بكل أنواع الحيل من الأصول الظاهرة بحيث يبصره كل بصر لكان يعجز عنه . فكيف في الظلمات الثلاث مع ما ركّب فيه من العقل والسمع والبصر وما جعل في كل ما أنشأ فيه ومنه مما تبلغ الأوهام فضلا من الإحاطة في ذلك من الحكمة ؟ ولذلك قال الله تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] وكان ذلك هو العهد إلى جميع الذّرّية وإشهاد أنفسهم عليهم ، يتعالى من دبّرهم على ذلك ، وأنشأهم على ما فيهم ، عن أن يكون له كذا ، أو يقدر أحد قدره .

فهذا هو معنى إشهادهم على أنفسهم ؛ أي جعلهم على أنفسهم شهودا أن يعلموا أن مدبّرهم ربهم ، لا رب لهم غيره ، وأنه { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] مع ما في جعل ذلك ذرّية ؛ يعرف كل بما يرى من عجز تدبير ولده وجهله بأحواله في حال كونه في رحم أبويه بيان على أنه لا كان بآبائه وأمهاته علم . ولكن برب العالمين .

وذلك هو الذي يمنعهم عن القول بالفضيلة عن ذلك ؛ إذ قد علمه كل منهم ، لا حال كونهم في الوقت الذي لا يذكره أحد .

والذي يبيّن أن هذا التأويل أحق من الأول ما دل عليه سياق الآية من ذلك .

وقوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم } [ فيه أقاويل :

أحدها ]{[9093]} : من ذكرت على الأخذ [ من ظهر ]{[9094]} آدم .

والثاني : قوله تعالى : { من ظهورهم } [ وقوله تعالى : { من بني آدم } ]{[9095]} .

والثالث : قوله تعالى : { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } وفي التأويل ألاّ تقولوا . فكيف يحذّر عن القول بذلك ؟ وقد علم أنهم كذلك ليس أحد منهم يذكر ذلك ، ولا يتقرر{[9096]} عنده ذلك لو نبّه بكل أنواع التنبيه .

والرابع : قوله تعالى : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } ما في ذلك العرض مما يمنع عن هذا القول ، وأيضا : إنه ذكر في بعض هذا القول أن{[9097]} ( وهؤلاء في النار ولا أبالي ) [ الحاكم في المستدرك 1/31 ] .

وفي القرآن الجمع بينهم في القول{[9098]} : { بلى } . وذلك عدّ توحيدا منهم ، مع ما في القرآن [ قوله تعالى ]{[9099]} : { وكنتم أمواتا } الآية [ القرة : 28 ] [ وقوله تعالى ]{[9100]} : { قالوا ربنا أمتّنا اثنتين } الآية [ غافر : 11 ] . وفي بيان ذلك إثبات الموت والحياة أكثر من العدد الذي جاء القرآن في الكل ، ولا قوة إلا بالله .

ثم قد يتوجه التأويل الثاني { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } إلى أوجه .

فأما ابتداء{[9101]} الآية فهو ذلك عند التحقيق لأنه ذكر الأخذ من بني آدم ثم من ظهورهم . والأخذ من بني آدم ثم من ظهورهم هو النّطف ، وهو الماء الدافق { يخرج من بين الصلب والترائب } [ الطارق : 7 ] وأشهدهم على أنفسهم ، أعلمهم ما منه إنشاؤهم وقلبهم من حال إلى [ حال ]{[9102]} أن تمّت النسمة ، وظهرت البشرية ، على ما أعلم ، كل في ذرّيته : خروج بدوه من تدبير والديه وقيامه على ما عليه مداره وقراره وتدبير من لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه أمر ، ليقولوا : إن الذي ذكر هذا هو ربهم الذي ربّاهم على ذلك { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] .

فكان ذلك إعلاما من الله إياهم على أنفسهم وشهادة منها بالخلقة أنه ربهم ؛ ربّاهم ، وملكهم على ما جرى فيهم من تدبير الله ، جل ثناؤه ، ولئلا يقولوا{[9103]} غدا إنهم [ كانوا ]{[9104]} : { عن هذا غافلين } إذ عرف ذا كل ذي عقل ، وعرف أنه كان بالله سبحانه وتعالى لا بوالديه ، ليجعلوا شرك الآباء والأمهات لأنفسهم حجة من حيث كانوا منهم ، والله أعلم .

والثاني : أن يكون الله أشهدهم على أنفسهم بما أراهم من أحوال ذرّيتهم في الانتقال على أحوال على [ أن ]{[9105]} أنفسهم كذلك ، دخل كل من بجوهرهم{[9106]} في ذلك التدبير ليعلموا أن الذي ذكرهم على ذلك دبّر الكل ، فيزول عنهم شبه الكون بغير الرب الذي { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] فيزول عنهم به عذر الغفلة وعلاقة الشبهة بكفر الوالدين من حيث حق التّبعية ، أو سفه التقليد بما يعلم خروج{[9107]} الجميع من التدبير ورجوع التدبير إلى غير ليكون موضع الاستدلال بما أراهم هو ، ودعاهم إليه ، لا بما أمرهم به الآباء والأمهات .

ثم القول ب { بلى } يكون نطقا ، ويكون خلقة ، ويكون جواب الفطرة بحق التأمل . فالنطق أنه لا يسأل أحد قبل التلقين إلا وهو يقول بالرب والخالق . وعلى ذلك قوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله } [ لقمان : 25 ] والخلقة بما كان من حاجته إلى مقيّم وإلى مدبّر على شركة كل في ذلك إقرار له بالربوبية وذلك معنى نفي التفاوت عن خلقه وفطرته بما يقلّبه عن أحوال ؛ لم تأمل الخلائق إدراك كل حال منها ووجه التنقل وقدر التغير في كل حال لما تهيأ لهم ليعلم أن في الفطرة شهادة بالتوحيد . وهذا معنى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( كل مولود يولد على الفطرة ) [ البخاري 1385 ] أي على حال لو تركت العقول والفكر فيها لشهدت بالتوحيد .

وذلك قوله : { بلى } لا أن ثم قول لسان بل نطق حال كما قال الحكيم : كل صامت ناطق ، لأن صمته دليل تدبير آخر ، فهو ناطق بالبيان عن الواحد العزيز ، ولا قوة إلا بالله .

وقد يحتمل الإشهاد أن جعلهم{[9108]} شهداء على أنفسهم بالعبودية لله ، وأنه ربهم والمالك عليهم ، والقول ب { بلى } بما يلزم بالتأمل . فكأنه قال ، والله أعلم : وفي الآية دلالة إثبات خلق الله فعل الخلق ، وقد أخبر الله أنه أخذ ذلك ، والله أعلم .

فإن قيل : على ماذا يخرّج تأويل السلف ؟ قيل : لعلهم وجدوا فيه خبرا ظنوا أن الآية تخرّج عليه ، فأولوها على ذلك .

فإذا أريد تسوية ذلك بالآية لا بد من زيادات تلحق بها ، ولا{[9109]} تخرج عنها{[9110]} /190-أ/ .

من ذلك أن يقول : { وإذ أخذ ربك من بني آدم } أن تجعل { من } صلة ؛ كأنه قال : وإذ أخذ ربك بني{[9111]} آدم .

وقد تكون كقوله تعالى : { ويكفّر عنكم من سيئاتكم } [ البقرة : 271 ] وبنو آدم يؤخذون{[9112]} من ظهر آدم كما يؤخذ ابن كل من ظهورهم ؛ أي أصل ابن كل من ظهره . وذكر ظهورهم لما كان منسوبا إليهم ، وإن كان ، لو طرح حرف الصلة ، تزول الشبه ، فحفظ في ذكر حق الوصل ، وإن كان حقه الإسقاط كقوله تعالى : { وكأيّن من قرية عتت } الآية [ الطلاق : 8 ] وغير ذلك مما كنّى عن أهل القرية باسمها .

وعلى ذلك أجري ذكر الفعل ، وإن لم يكن لها في الحقيقة فعل . فعلى ذلك هذا ، فيصير في التحصيل كأنه قال : وإذ أخذ ربك بني آدم من ظهره ، ثم يكون المأخوذ الذي عرض عليه مجعولا على حد ، يعقل الخطاب ومعنى قوله : { ألست بربكم } فأجاب بالذي ذكر .

والخبر الذي فيه القسمة إما أن كان لا في هذا ، فوصل به ، [ وإما أن ]{[9113]} كان في الآية ذكر إجابة أحد الفريقين ، [ وإما أن ]{[9114]} كان بين الجمع اتفاق في هذا الحرف واختلاف في ما جاوز هذا ، فالقسمة لما عدا . وقد يوجد في هذا القدر أيضا اتفاق .

ثم قوله تعالى : { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } . على إضمار بعث الرسل وإنزال الكتاب بالإخبار عن ذلك لئلا يدّعوا الغفلة بما كانت منهم . ذلك بما أوقظوا . أو نهوا ، أو بما لا يحتجّون بما اعترضهم من الغفلة ؛ إذ قطع عذرهم بغير ذلك من الأدلة والرسل ، والله أعلم ، أو لا يقولون .


[9087]:في الأصل وم: تأويله
[9088]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[9089]:ساقطة من الأصل وم.
[9090]:في الأصل وم: بـ بلى.
[9091]:في الأصل وم: في قوله.
[9092]:من م، ساقطة من الأصل.
[9093]:في الأصل وم: وأقاويل.
[9094]:من م، في الأصل: انطوى.
[9095]:في الأصل وم: وفي قولهم: من ظهر آدم.
[9096]:من م، في الأصل: يتفرد.
[9097]:في الأصل وم: بان.
[9098]:. في الأصل وم: القول بـ.
[9099]:ساقطة من الأصل
[9100]:في الأصل وم. و.
[9101]:هذا هو الوجه الأول.
[9102]:من م، ساقطة من الأصل.
[9103]:من م، في الأصل: يقول.
[9104]:ساقطة من الأصل وم.
[9105]:من م، ساقطة من الأصل.
[9106]:من، في الأصل: جوهرهم.
[9107]:من م، في الأصل: خرج.
[9108]:من م، في الأصل: جعلتم.
[9109]:في الأصل وم: أو.
[9110]:أدرج بعدها في الأصل وم: وألا تخرج.
[9111]:أدرج قبلها في الأصل وم: من.
[9112]:في الأصل وم: يؤخذ.
[9113]:في الأصل وم: أو.
[9114]:في الأصل وم: أو.