غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ} (172)

172

التفسير : لما شرح قصة موسى على أقصى الوجوه ذكر ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين . وفي الآية للمفسرين قولان : أحدهما ما روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب قال : سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : «إن الله تبارك خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون . قال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت في عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار » وهذا القول ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرمة والكلبي وابن عباس . وأما المعتزلة وأصحاب النظر والمعقولات فإنهم فسروا الآية بأنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم ، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى إلى أرحام الأمهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشراً سوياً وخلقاً كاملاً ، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب في عقولهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقته وغرائب صنعته وكأنه قررهم وقال { ألست بربكم } وكأنهم { قالوا بلى } أنت ربنا { شهدنا على أنفسنا } وأقررنا بوحدانيتك . وباب التمثيل باب واسع في كلام الله ورسوله وفي كلام العرب نظيره { فقال له وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] وقال الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطني *** . . .

وهذا القول الثاني غير منافٍ للقول الأول ولا هو مطعون في نفسه إنما الكلام في صحة القول الأول . والمنكرون طعنوا فيه بوجوه : منها أن قوله { من ظهورهم } بدل { من بني آدم } بدل البعض من الكل . فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم . وعلى هذا فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر بني آدم شيئاً . ويمكن أن يجاب بأنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد من آدم ومن فلان فلان آخر فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن ، وثبت إخراج الذرة من ظهر آدم بالخير ، فوجب المصير إليهما معاً صوناً للآية والخبر عن الطعن . ومنها أن أولئك الذر إن لم يكونوا عقلاء لم يمكن أخذ الميثاق منهم وإن كانوا عقلاء وجب أن يتذكروا تلك الحالة في هذا الوقت ، وبهذا الدليل بعينه يبطل التناسخ . ويحتمل أن يجاب بالفرق وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين ودهوراً امتنع في مجرى العادة نسيانها ، وأما أخذ هذا الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصول النسيان فيه . ومنها أن جميع الخلق من أولاد آدم جمع عظيم وجم غفير ، وصلب آدم على صغره لن يتسع لذلك المجموع على أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم فكل واحدة من أولئك الذر لها بنية وإن كانت صغيرة والمجموع يبلغ مبلغاً عظيماً في الحجمية والمقدار ، وأجيب بأن البنية عندنا ليست شرطاً في الحياة والعقل . فمن الجائز أن يكون كل من الذر جوهراً فرداً . ومنها أن فائدة أخذ الميثاق أن يكون حجة عليهم في ذلك الوقت أو في الدنيا ، والإجماع منعقد على أنهم بسبب ذلك لا التكليف على الطفل فكيف يتوجه على الذر ؟ وأجيب بأنه لا يسأل عما يفعل . وإن المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال وإنطاق الجوارح قالوا لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء نطق فكذا هاهنا ، ولا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق نطق . وقيل : إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة . ومنها أنه سبحانه قال { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] وقال { فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق } [ الطارق : 5 ، 6 ] وكون أولئك الذر أناساً ينافي كون الإنسان مخلوقاً من الماء والطين . والجواب لا يجوز أن يخرج الله تعالى من صلب آدم ذرة من الماء ثم منها ذرة أخرى وهلم جراً إلى آخر نسلها ثم يعدم الكل أو يميتها فتحصل الحياة للإنسان أربع مرات : أولها ؟ وقت الميثاق ، وثانيها : في الدنيا ، وثالثا : في القبر ، ورابعها في القيامة ، ويحصل له الموت ثلاثة مرات بين كل حياتين واحد . ولا ينافي هذا حكاية قول الكفرة { ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } [ غافر : 11 ] لأنهم قالوا ذلك بناء على حسب ظنونهم . أما قوله { أن تقولوا } فالتقدير : وأشهدهم على أنفسهم بكذا لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا { يوم القيامة أنا كنا عن هذا } المشهود له { غافلين } من قرأ بياء الغيبة فلأن الكلام على الغيبة وهو قوله { من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم } لئلا يقولوا . ومن قرأ على الخطاب فلأنه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله { ألست بربكم } وكلا الوجهين حسن لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى .

/خ183