اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ} (172)

قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ } الآية .

قال المفسِّرون : روى مسلم بنُ يسار الجهني أن عمر - رضي الله عنه - سُئِلَ عن هذه الآية ، فقال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسألُ عنها ، فقال : إنَّ الله تعالى خلق آدَم ثُمَّ مَسحَ ظهرَهُ ؛ فاستخرَجَ منهُ ذُرِّيَةً فقال : خَلقْتُ هؤلاء للجنَّةِ وبعمل أهْلِ الجنَّةِ يَعْمَلُونَ ، ثُمَّ مَسَحَ

ظهرَهُ واستَخرَجَ منه ذرِّيَّةً ، فقال : هؤلاء للنَّارِ وبعمل أهلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ .

فقال رجل : يا رسول الله : ففيم العمل ؟

فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " إنَّ اللَّه بتارَكَ وتعَالَى إذا خَلقَ العبْدَ للجنَّةِ استعملَهُ بعملِ أهْلِ الجنَّةِ حتَّى يمُوتَ على عملٍ مِنْ أعْمالِ أهْلِ الجنَّةِ فيدخله الله الجنَّة ، وإذا خلق اللَّهُ العبدَ للنَّارِ استعملهُ بعملِ أهْلِ النَّارِ حتَّى يمُوتَ على عملِ أهلِ النَّارِ ، فيدخلهُ اللَّهُ النَّار " وهذا حديثٌ حسن ، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم وعمر رجلاً{[16982]} .

وقال مقاتل وغيره : إنَّ الله مسحَ صفحةَ ظهر آدمَ اليمنى فأخرج منه ذريةً بيضاء كهيئة الذر ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذريةً سوداء كهيئة الذَّرِّ ، فقال يا آدم هؤلاء ذريتك . ثم قال لهم ألسْتُ بربكُمْ قالُوا بلى . فقال للبيض هؤلاء للجنَّة برحمتي ، وهم أصحاب اليمين . وقال للسود هؤلاء للنَّار ، ولا أبالي ، وهم أصحاب الشِّمالِ ، ثمَّ أعادهم جميعاً في صلب آدم فأهلُ القبورِ محبوسون حتَّى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلابِ الرجالِ ، وأرحام النِّساءِ{[16983]} .

قال تعالى يمن نقض العهد : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } [ الأعراف : 102 ] الآية . وإلى هذا القول ذهب سعيدُ بنُ المسيب ، وسعيد بن جبير ، والضَّحَّاكُ ، وعكرمة والكلبي .

وقال بعض أهل التفسير : إن أهل السَّعادَةِ أقَّرُّوا طوعاً وقالوا " بَلَى " ، وأهل الشقاوة قالُوه تقيةً وكرهاً . وذلك معنى قوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } [ آل عمران : 83 ] .

واختلفوا في موضع الميثاق .

قال ابن عباس : ببطن نعمان{[16984]} ، وهو وادٍ إلى جنب عرفة وروي عنه أنه بدَهْنا في أرض الهندِ ، وهو الموضعُ الذي هبط آدم عليه .

وقال الكلبيُّ : بين مكة والطائف{[16985]} .

وروى السُّدي : أن الله أخرجهم جميعاً ، وصورهم وجعل لهم عقولاً يعلمون بها ، وألسناً ينطقون بها ، ثمَّ كلمهم قبلاً أي : عياناً ، وقال " ألسْتُ بِرِبِّكُمْ " ؟{[16986]} .

وقال الزَّجَّاجُ : وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذّر فَهْماً تعقل به كما قال تعالى : { قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] .

قال القرطبيُّ : قال ابنُ العربيُّ : فإن قيل : فكيف يجوز أن يُعذِّبَ الله الخلق قبل أن يذنبوا ، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم ؟

قلنا : ومن أيْنَ يمتنع ذلك ، عقلاً أو شرعاً ؟

فإن قيل : إن الرحيم الحكيم مِنَّا لا يجوز أن يفعل ذلك .

قلنا : لأن فوقه آمراً يأمره وناهياً ينهاه ، وربنا تعالى لا يسألُ عمَّا يفعل وهم يُسألُونَ ، ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخَالقِ ، وبالحقيقة فإن الأفعال كلها لله تعالى ، والخلقُ بأجمعهم له ، يصرفهم كيف يشاء ويحكُم فيهم بما أراد ، وهذا الذي يجدُهُ الآدميّ فإنَّما هو من رقة الجبلَّةِ ، وشفقة الجنسيَّةِ وحُبِّ الثَّناءِ والمدح ، والباري تعالى منزَّهٌ من ذلك .

وأطبقت المعتزلةُ على أنَّهُ لا يجوزُ تفسير هذه الآية بهذا الوجه ، واحْتَجُّوا على فساده بوجوه :

الأول : قالوا إن قوله : { مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } [ الأعراف : 172 ] ف " مِنْ ظُهُورهمْ " بدلٌ من قوله " بَنِي آدمَ " فيكون المعنى : وإذْ أخذ ربُّكَ من ظُهورِ بَنِي آدَمَ ، وعلى هذا التقدير : فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً .

الثاني : لو كان المراد أنه تعالى أخرج من ظهر آدم ذرية لما قال : " مِنْ ظُهورِهمْ " بل قال : من ظهره ؛ لأنَّ آدم ليس له إلا ظهر واحد ، وكذلك قوله : " ذُريَّتَهُمْ " ولو كان المرادُ آدم لقال : ذُرّيته .

الثالث : أنَّهُ تعالى حكى عن أولئك الذُّريَّةِ أنهم قالوا : { إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ } [ الأعراف : 173 ] وهذا لا يليق بأولاد آدم ؛ لأنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام ما كان مشركاً .

الرابع : أنَّ أخذ الميثاق لا يمكن إلاَّ من العاقِلِ ، ولو كان أولئك الذر عقلاء ، وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم ؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة فإنَّهُ لا يجوزُ مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كليّاً لا يتذكر منها قليلاً ولا كثيراً ، وبهذا الدليل يبطلُ القول بالتَّناسخ ؛ لأنَّا نقولُ لو كانت أرواحنا قد جعلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى ، لوجب أن نتذكَّرَ الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر ، وحيثُ لم نتذكر كان القول بالتَّناسخ باطلاً .

وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة فوجب القول بمقتضاه ، فلو جاز أن يقال : إنَّا كنا في وقت الميثاق أعطينا العهد مع أنَّا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه ، فلمَ لا يجوز أيضاً أن يقال : إنَّا كنَّا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال .

الخامس : أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم ، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرَّة من ذرات الهباء أن تكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتَّصانيف الكثيرة في العلوم الدَّقيقة ، وفتح هذا الباب يؤدِّي إلى التزام الجماداتِ ، وإذا ثبت أن هذه البنية شرط لحصول الحياة ، فكل واحد من تلك الذّرات لا يمكن أن يكون عاقلاً عالماً فاهماً إلاَّ إذا حصلت له بنية وحمية ، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجودِ من أول تخليق آدم إلى قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا ، فكيف يمكن أن يقال إنَّهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - .

السادس : قالوا هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في الدنيا .

والأول باطلٌ لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقّين للثواب والعقاب ، ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في الدنيا ، لأنهم لمَّا لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير عليهم حجة في التمسك بالإيمان .

السابع : قال الكعبيُّ : إن حال أولئك الذّر لا يكونُ أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال ، فلمَّا لم يمكن توجيه التَّكاليف على الطِّفل ، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذّرِّ ؟

وأجاب الزَّجَّاج عنه بما تقدَّم من تشبيهه بقصة النَّملة ، وأيضاً لا يبعدُ أن يعطي اللَّهُ الجبل الفهم حتى يسبح ، كما قال : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ } [ الأنبياء : 79 ] وكما أعطى اللَّهُ العقل للبعير حتَّى سجد للرَّسُول ، وللنَّخْلَةِ حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا هَهُنَا .

الثامن : أن أولئك الذّر في ذلك الوقت إمّا أن يكون كاملي العقول أم لا ، فإن كان الأوَّلُ كانوا مكلفين لا محالة ، وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله تعالى بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت على أحوالهم في هذه الحياة الدُّنْيَا ، فلو افتقر التكليف في الدُّنيا إلى سبق ذلك الميثاق ؛ لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولم التَّسلسل وهو محال .

وإن قيل : إنَّهُمْ ما كانوا كاملي العقول في ذلك الوقت ، فيمتنع توجيه الخطاب والتَّكليف عليهم .

التاسع : قوله تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ } [ الطارق : 5 - 6 ] ولو كانت تلك الذَّرات عقلاء فاهمين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدَّافق ، ولا معنى للإنسان إلاَّ ذلك الشيء فحينئذٍ لا يكون الإنسان مخلوقاً من الماء الدَّافق وذلك رد لنصِّ القرآن .

فإن قالوا : لِمَ لا يجُوزُ أن يقال إنَّهُ تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته ؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى الحياةِ ؟

قلنا : هذا باطل ؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقاً على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقاً على سبيل الإعادة ، وأجمع المسلمون على أنَّ خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ ، فبطل ما ذكرتموه .

العاشر : أن تلك الذَّرات إمَّا أن تكون عين هؤلاء الناس أو غيرهم ، والثاني باطل بالإجماع بقي الأول .

فنقولُ : إمَّا أن يُقالَ إنَّهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفه وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك ، والأوَّلُ باطلٌ ببديهة العقل .

والثاني : يقتضي أن يقال إن الإنسان حصلت له الحياة أربع مرات : وقت الميثاق ، وفي الدُّنْيَا ، وفي القبر ، وفي القيامةِ وأنه حصل له الموت ثلاث مرات : بعد الحياة الحاصلة من الميثاق الأولِ ، وموت في الدُّنيا وموت في القبر ، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى : { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } [ غافر : 11 ] .

الحادي عشر : لو كان القولُ بهذا الذَّرِّ صحيحاً لكان ذلك الذَّر هو الإنسان ؛ لأنَّهُ هو المكلَّف المخاطب المثاب المعاقب ، وذلك باطلٌ ؛ لأنَّ ذلك الذّر غير مخلوق من النطفة والعلقة ، والمضغة ، والقرآن يدلُّ على أنَّ الإنسان خلق من النُّطفةِ ، والعلقة . قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] الآيات .

وقوله : { قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ } [ عبس : 17 - 19 ] فهذه الوجوه دلَّتْ على ضعف هذا القول .

وقال أربابُ المعقولات : إنَّ الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من صلب آبائهم ، وذلك الإخراج حال كونهم نطفاً ، فأخرجها الله تعالى فأودعها أرحام الأمهَّات ، وجعلها علقة ثم مضغة حتى جعله بشراً سويّاً وخلقا كاملاً ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيَّته ، وغرائب صنعته ، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا : بلى ، وإن لم يكن هناك قول باللِّسانِ ، ولذلك نظائر منها قوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] .

وقال تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .

قول العرب : قال الجدار للوتدِ لِمَ تَشقُّنِي قال : سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي{[16987]} .

وقال الشاعر : [ الرجز ]

امتلأ الحَوْضً وقَالَ قَطْنِي *** مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأتَ بَطْنِي{[16988]}

فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام ، فوجب حمل الكلام عليه ، وهذا القول لا طعن فيه ألبتة ، وليس منافياً لصحة القول الأول .

فصل

قال القرطبيُّ{[16989]} : استدلَّ بهذه الآية على أنَّ مَنْ مات صغيراً دخل الجنَّة لإقراره في الميثاق الأول ومنْ بلغ لمْ يُغنِهِ الميثاق الأول .

قوله " مِنْ ظُهُورهِمْ " بدل من قوله : " مِن بَنِي آدَمَ " بإعادةِ الجارِّ ، كقوله : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] وهل هو بدلُ اشتمال أو بدلُ بعض من كل ؟ قولان :

الأول لأبي البقاء ، والثاني للزمخشري ، وهو الظاهر كقولك : ضربتُ زيداً ظهره وقطعتُه يده ، لا يُعْرِب هذا أحد بدل اشتمالٍ ، و " ذُرِّيَتَهُمْ " مفعول به .

وقرأ الكوفيون وابن{[16990]} كثير ذُرِّيتهُمْ بالإفراد ، والباقون " ذُرِّيَّاتهم " بالجمع .

قال أبو حيان : ويحتمل في قراءة الجمع أن يكون مفعولُ " أخذ " محذوفاً لفهم المعنى وذُرِّيَّاتهم بدلٌ من ضمير " ظُهُورِهِمْ " كما أنَّ من ظُهُورِهِمْ بدلٌ من بَنِي آدَمَ والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاق كقوله : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 154 ] .

قال : وتقديرُ الكلامِ : وإذ أخذ ربُّكَ من ظهور ذُرِّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله ، واستعارَ أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كأن الميثاق لصعوبته والارتباط به شيءٌ ثقيلٌ يحمل على الظَّهْرِ .

وكذلك قرأ الكوفيُّون وابن كثير في سورة يس ، وفي الطُّورِ في الموضعين ذُرِّيَّتَهُم بالإفراد ؛ وافقهم أبو عمرو على ما في يس ، ونافع وافقهم في أول الطور ، وهي ذُرِّيَّتَهُم بإيمانٍ دون الثانية ، وابن عامر على الجمع ، وأبو عمرو ونافع جمعوا بين الأمرين .

قال أبو حيان في قراءة الإفراد في هذه السُّورةِ : ويتعيَّن أن يكون مفعولاً ب " أخذ " وهو على حذف مضاف ، أي : ميثاق ذريتهم . يعني أنه لم يَجُزْ فيه ما جازَ في ذُرِّيَاتهم من أنَّه بدل ، والمفعولُ محذوف وذلك واضحٌ ؛ لأنَّ من قرأ : " ذُرِّيَّتَهُمْ " بالإفراد لم يَقْرَأهُ إلاَّ منصوباً ، ولو كان بدلاً من هُمْ في ظُهُورِهِمْ لكان مجرورً ، بخلاف ذُرِّيَّاتهم بالجمع فإنَّ الكسرة تَصْلُح أن تكون علامة للجر وللنصب في جمع المُؤنَّثِ السَّالمِ .

قال الواحديُّ : الذرية تقع على الواحِدِ والجمع ، فمنْ أفردَ فقد استغنى عن جمعه بوقوعه على الجمع كالبشر فإنه يقع على الواحد ، كقوله : { مَا هَذَا بَشَرًا } [ يوسف : 31 ] وعلى الجمع ، كقوله : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا } [ إبراهيم : 10 ] فكما لم يجمع " بشر " جمع تصحيح ، ولا تكسير كذلك لا يجمع " الذريَّة " .

ومن جمع قال : إنَّ الذرية وإن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه ، وإن كان جمعاً فجمعه حسن ، لأنَّ الجموع المكسرة قد جمعت نحو : الطرقات والجدرات .

قوله : { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا } .

أمَّا على قولِ مَنْ أثْبَتَ الميثاق الأوَّل فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها ، وأمَّا من أنكره ، قال : إنَّهَا محمولة على التَّمثيل ، أي : أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ، وشهدت بها عقولهم ، فصار ذلك جارياً مجرى ما إذَا أشهدهم على أنفسهم ، وقال لهم : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } . وكأنهم قالوا بلى أنت ربُّنَا .

قوله : " بَلَى " جواب : " ألَسْتُ " .

قال ابنُ عبَّاس : لو قالوا " نَعَمْ " لكفروا ، يريد أنَّ النَّفيَ إذا أجيب ب " نعم " كان تصديقاً له ، فكأنهم أقَرُّوا بأنه ليس بربهم ، هكذا ينقلونه عن ابن عباس .

وفيه نظرٌ - إن صحَّ عنه - وذلك أن هذا النفي صار مُقرَّراً ، فكيف يكفرون بتصديق التقرير ؟ وإنَّما المانعُ من جهةِ اللغة ، وهو أنَّ النفيَ مطلقاً إذا قُصدَ إيجابه أجيب ب " بَلَى " وإن كان مقرراً بسبب دخول الاستفهام عليه ، وإنَّما كان ذلك تغليباً لجانب اللفظ ، ولا يجوز مراعاةُ جانب المعنى إلاَّ في شعر ، كقوله : [ الوافر ]

ألَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْرٍو *** وإيَّانَا فَذاكَ بِنَا تَدَانِي

نَعَمْ وأرَى الهلالَ كما تَرَاهُ *** ويَعْلُوهَا النَّهارُ كَمَا عَلانِي{[16991]}

فأجاب قوله ألَيْسَ ب " نَعَمْ " ، مراعاةً للمعنى ؛ لأنه إيجاب .

قوله شَهِدْنا هذا من كلامِ اللَّهِ تعالى ، وقيل : من كلام الملائكة ، لأنهم لمَّا قالوا بَلَى ، قال الله للملائكة : اشهدوا فقال : شهدنا ، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله : " قالوا بَلَى " لأن كلامَ الذرية قد انقطع ههنا .

وقوله : " أنْ تقُولُوا " أي : لئلا تقولوا { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } تقريره : أنَّ الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرارِ ؛ يقولوا ما أقررنا ، فأسقط كلمة " لِئَلاَّ " كقوله { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] ، أي : لئلاَّ تميد بكم . قاله الكوفيون ، وعند البصريين تقديره : شَهِدْنَا كراهة أن تقولوا .

وقيل : من كلام الله تعالى والملائكة .

وقيل : من كلام الذُّريَّةِ ، وعلى هذا فقوله : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } متعلق بقوله { وأشهدهم على أنفسهم } تقديره : وأشهدهم على أنفسهم بكذا وكذا لئلاَّ يقولوا يوم القيامة : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } أو كراهية أن يقولوا ذلك .

قال الواحديُّ : وعلى هذا لا يحسن الوقفُ على قوله : بَلَى ولا يتعلَّقُ أن تقوُلُوا ب " شَهِدْنَا " ولكن بقوله : " وأشهدَهُمْ " فلم يجز قطعه عنه .

قوله " أنْ تقُولُوا " مفعولٌ من أجله ، والعامِلُ فيه إمَّا شَهِدْنَا أي : شهدنا كراهة أن تقولوا . هذا تأويل البصريين ، وأما الكوفيون : فقاعدتهم تقدير " لا " النافية ، أي : لئلاَّ تقولوا : كقوله { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] .

كما تقدم .

وقول القطامي : [ الوافر ]

رَأيْنَا مَا يَرَى البُصَرَاءُ فِيهَا *** فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أنْ تُبَاعَا{[16992]}

أي : أن لا تُباع ، وأما : " وأشهدَهُمْ " أي : وأشهدهم لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا ، وقد تقدم أن الواحدي قد قالك إنّ شَهِدْنا إذا كان من قول الذُّريَّةِ يتعيَّنُ أن يتعلَّق أن تقولوا ب " أشْهَدَهُمْ " كأنَّه رأى أن التركيب يصير : شَهِدْنَا أن تقولوا ، سواءً قرئ بالغيبة أو الخطاب ، والشَّاهدُون هم القائلون في المعنى ، فكان ينبغي أن يكون التركيب : شهدنا أن نقول نحن ، وهذا غيرُ لازم ؛ لأنَّ المعنى : شهد بعضهم على بعض ، فبعضُ الذرية قال : شهدنا أن يقول البعضُ الآخر كذلك .

وذكر الجرجانيُّ عن بعضهم وجهاً آخر : وهو أن يكون قوله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } إلى قوله " قَالُوا بَلَى " تمام قصة الميثاق ، ثم ابتدأ عزَّ وجلَّ خبراً آخر بذكر ما يقوله المشركون يوم القيمة ، فقال : " شَهِدْنَا " بمعنى : نشهد ؛ كقوله الحطيئة : [ الكامل ]

شَهِدَ الحُطَيئَةُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ *** . . . {[16993]}

أي : يشهد ، فيكون تأويله : يَشْهَدُ أن يقولوا .

وقرأ أبو عمرو{[16994]} : " يَقُولُوا " في الموضعين بالغيبةِ ، جرياً على الأسماء المتقدمة ، والباقون بالخطاب ، وهذا واضحٌ على قولنا : إنّ شَهِدْنَا مُسْنَدٌ لضمير الله تعالى .

وقيل : على قراءة الغيبة يتعلَّق أن يقولوا ب " أشهدهم " ، ويكون قالوا شِهِدْنَا معترضاً بين الفعل وعلَّته ، والخطابُ على الالتفات ، فتكون الضَّمائر لشيء واحد .

فإن قيل : كيف يلزم الحجة وأحدٌ لا يذكر الميثاقَ ؟

فالجوابُ : أن الله تعالى قد أوضح الدَّلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا ، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ، ولزمته الحجة ، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة .


[16982]:أخرجه مالك كتاب القدر 2: باب النهي عن القول بالقدر وأحمد (1/44-45) والبخاري في التاريخ الكبير (8/96-97) وأبو داود (4703) والترمذي (3077) والنسائي في تفسيره كما في تحفة الأشراف (8/113-114) والطبري في تفسيره (6/112-113). وابن حبان (1804-موارد) والحاكم (1/27) والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 326 من طرق عن مسلم بن يسار عن عمر. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بقوله: قلت فيه إرسال. يقصد الانقطاع بين مسلم بن يسار وعمر رضي الله عنه. فقد قال ابن أبي حاتم في المراسيل ص 210: قال أبو زرعة: مسلم بن يسار عن عمر، مرسل. وقال: سمعت أبي يقول: مسلم بن يسار لم يسمع من عمر. والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/260-261) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والآجري في الشريعة وأبي الشيخ وابن مردويه واللالكائي في "أصول الاعتقاد".
[16983]:انظر: الدر المنثور (3/261-262).
[16984]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/114).
[16985]:ذكره القرطبي في تفسيره (7/201) عن الكلبي.
[16986]:انظر: المصدر السابق.
[16987]:ينظر: الفخر الرازي 15/50.
[16988]:ينظر: التهذيب (قطط)، إصلاح المنطق، 57، 342، مجالس العلماء 1/158، مقاييس اللغة 5/13 ابن الشجري 2/40، شرح التسهيل 1/151، شرح الجمل 1/87، الإنصاف 1/130، التفسير الكبير 4/71، الخصائص 1/23، الصحاح 3/1152، اللسان (قطط).
[16989]:ينظر: تفسير القرطبي 7/201.
[16990]:ينظر: السبعة 298، والحجة 4/104، وإعراب القراءات 2/214، وحجة القراءات 301-302.
[16991]:تقدم.
[16992]:تقدم.
[16993]:صدر بيت وعجزه: أن الوليد أحق بالعذر ينظر: ديوانه 179، مجالس ثعلب 2/388، اللسان (حسب) الدر المصون 3/371.
[16994]:انظر: السبعة 298، والحدة 4/107، وإعراب القراءات 1/215، وحجة القراءات 302، وإتحاف فضلاء البشر 2/69.