الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ} (172)

قوله تعالى : { مِن ظُهُورِهِمْ } : بدلٌ من قوله " من بني آدم " بإعادة الجارِّ كقوله : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ]

{ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] . وهل هو بدلُ اشتمال أو بدل بعض من كل ؟ قولان ، الأول لأبي البقاء ، والثاني للزمخشري ، وهو الظاهر كقولك : ضربت زيداً ظهرَه ، وقطعتُه يدَه ، لا يُعْرِب أحد هذا بدلَ اشتمال .

و { ذُرِّيَّتَهُمْ } مفعول به . وقرأ الكوفيون وابن كثير " ذريتهم " بالإِفراد ، والباقون " ذُرِّيَّاتهم " بالجمع . قال الشيخ : " ويحتمل في قراءة الجمع أن يكونَ مفعولُ " أخذ " محذوفاً لفهمِ المعنى ، و " ذريَّاتهم " بدلٌ من ضميرِ " ظهورهم " ، كما أنَّ " من ظهورهم " بدلٌ من " بني آدم " ، والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاق كقوله { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً } [ النساء : 154 ] قال : " وتقديرُ الكلام : وإذ أَخَذَ ربُّك من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد ، واستعارَ أن يكون أخذ الميثاق من الظهر ، كأن الميثاق لصعوبته ، والارتباطَ به شيءٌ ثقيل يُحمل على الظهر " . وكذلك قرأ الكوفيون وابن كثير في سورة يس وفي/ الطور في الموضعين : " ذريتهم " بالإِفراد ، وافقهم أبو عمرو على ما في يس ، ونافع وافقهم في أول الطور وهي " ذريتهم بإيمان " دونَ الثانية وهي " أَلْحَقْنا بهم ذريَّاتِهم " فالكوفيون وابن كثير جَرَوا على منوالٍ واحدٍ وهو الإِفراد ، وابن عامر على الجمع ، وأبو عمرو ونافع جمعوا بين الأمرين كما بَيَّنْتُ لك .

قال الشيخ في قراءة الإِفراد في هذه السورة : " ويتعيَّن أن يكونَ مفعولاً ب " أخذ " وهو على حَذْف مضاف ، أي : ميثاق ذريتهم " يعني أنه لم يَجُزْ فيه ما جازَ في " ذرياتهم " من أنه بدل والمفعول محذوف ، وذلك واضحٌ لأنَّ مَنْ قرأ " ذريتهم " بالإِفراد لم يَقْرأه إلا منصوباً ، ولو كان بدلاً مِنْ " هم " في " ظهورهم " لكان مجروراً بخلافِ " ذرياتهم " بالجمع ، فإن الكسرةَ تَصْلُح أن تكون عَلَماً للجر وللنصب في جمع المؤنث السالم .

قوله : { بَلَى } جوابٌ لقوله " أَلَسْتُ " قال ابن عباس : " لو قالوا : نعم لكفروا " يريد أن النفيَ إذا أُجيب ب نعم كانت تصديقاً له ، فكأنهم أقرُّوا بأنه ليس بربِّهم . هكذا ينقلونه عن ابن عباس رضي الله عنه ، وفيه نظرٌ إنْ صَحَّ عنه ، وذلك أن هذا النفيَ صار مقرَّراً ، فكيف يكفرون بتصديق التقرير ؟ وإنما المانع من جهة اللغة : وهو أن النفيَ مطلقاً إذا قُصِد إيجابه أُجيب ب بلى ، وإن كان مقرَّراً بسبب دخول الاستفهام عليه ، وإنما كان ذلك تغليباً لجانب اللفظ ، ولا يجوز مراعاةُ جانب ِالمعنى إلا في شعر كقوله :

أليس الليلُ يجمعُ أمَّ عمروٍ *** وإيانا فذاك بنا تَدانى

نعم وترى الهلالَ كما أراه *** ويعلوها النهار كما علاني

فأجاب قوله " أليس " ب نعم مراعاةً للمعنى لأنه إيجاب .

قوله : { شَهِدْنَآ } هذا من كلام الله تعالى . وقيل : من كلام الملائكة . وقيل : من كلام الله تعالى والملائكة . وقيل : من كلام الذرية . قال الواحدي : " وعلى هذا لا يَحْسُن الوقفُ على قوله " بلى " ولا يتعلَّقُ " أَنْ تقولوا " ب " شَهِدْنا " ولكن بقوله " وأَشْهَدَهُمْ " .

قوله : { أَن تَقُولُواْ } مفعولٌ مِنْ أجله ، والعامل فيه : إمَّا شهدْنا ، أي : شهِدْنا كراهةَ أن تقولوا ، هذا تأويل البصريين ، وأمَّا الكوفيون فقاعدتهم تقدير لا النافية ، تقديره : لئلا تَقولوا ، كقولِه { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] ، وقول الآخر :

رَأَيْنا ما رأى البُصَراء فيها *** فآلَيْنا عليها أَنْ تُباعا

أي : أن لا تُباع ، وأمَّا " وأشهدهم " ، أي : أشهدهم لئلا تقولوا أو كراهةَ أَنْ تقولوا . وقد تقدَّم أن الواحديَّ قد قال : " إنَّ شَهِدْنا إذا كان من قولِ الذرية يتعيَّن أن يتعلَّقَ " أن تقولوا " ب " أَشْهَدَهم " كأنه رأى أن التركيب يصير : شَهِدْنا أن تقولوا سواءً قرئ بالغيبة أو الخطاب ، والشاهدون هم القائلون في المعنى ، فكان ينبغي أن يكون التركيب : شهدنا أن نقول نحن . وهذا غيرُ لازم لأن المعنى : شهد بعضهم على بعض ، فبعضُ الذرية قال : شهدنا أن يقول البعض الآخر كذلك . وذكر الجرجانيُّ لبعضهم وجهاً آخر وهو أن يكون قوله " وإذْ أخَذَ ربك " إلى قوله : " قالوا بلى " تمامَ قصة الميثاق ، ثم ابتدأ عز وجل خبراً آخر بِذِكْرِ ما يقوله المشركون يوم القيامة فقال تعالى : { شَهِدْنا } بمعنى نشهد كما قال الحطيئة :

شَهِدَ الحطيئةُ حين يلقى ربَّه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : يشهد ، فيكون تأويله " يَشْهد أن تقولوا " .

وقرأ أبو عمرو " يقولوا " في الموضعين بالغَيْبة جرياً على الأسماء المتقدمة ، والباقون بالخطاب ، وهذا واضحٌ على قولنا إنَّ " شَهِدْنا " مُسْندٌ لضمير الله تعالى . وقيل : على قراءة الغيبة يتعلَّق " أَنْ يقولوا " بأشهدهم ، ويكون " قالوا شهدنا " معترضاً بين الفعلِ وعلَّته ، والخطابُ على الالتفات فيكون الضميران لشيء واحد . وهل هذا من باب الحقيقة وأن الله أخرج الذرية من ظهره بأَنْ مَسَح عليه فخرجوا كالذَّرِّ وأَنْطَقهم فشهدوا الكلُّ بأنه ربهم ، فالمؤمنون قالوه حقيقةً في الأَزَل والمشركون قالوه تقيَّةً ، وعلى هذا جماعةٌ كثيرة ، أو من باب التمثيل ، قاله جماعة منهم الزمخشري ، وجعله كقوله تعالى : { ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ، وقولِ الشاعر :

إذ قالت الأَنْساع للبطن الحَقِي ***

وقول الآخر :

قالت له ريحُ الصَّبا قَرْقارِ ***

إلى غير ذلك .