قوله تعالى :{ والتي أحصنت فرجها } حفظت من الحرام وأراد مريم بنت عمران ، { فنفخنا فيها من روحنا } أي أمرنا جبرائيل حتى نفخ في جيب درعها ، وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها ، وأضاف الروح إليه تشريفاً لعيسى عليه السلام ، { وجعلناها وابنها آية للعالمين } أي دلالة على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير أب ، ولم يقل آيتين وهما آيتان لأن معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية ولأن الآية كانت فيهما واحدة ، وهي أنها أتت به من غير فحل .
أخيرا يذكر مريم بمناسبة ذكر ابنها عليه السلام :
( والتي أحصنت فرجها ، فنفخنا فيها من روحنا ، وجعلناها وابنها آية للعالمين ) . .
ولا يذكر هنا اسم مريم ، لأن المقصود في سلسلة الأنبياء هو ابنها - عليه السلام - وقد جاءت هي تبعا له في السياق . إنما يذكر صفتها المتعلقة بولدها : ( والتي أحصنت فرجها ) . أحصنته فصانته من كل مباشرة . والإحصان يطلق عادة على الزواج بالتبعية ، لأن الزواج يحصن من الوقوع في الفاحشة . أما هنا فيذكر في معناه الأصيل ، وهو الحفظ والصون أصلا من كل مباشرة شرعية أو غير شرعية . وذلك تنزيها لمريم عن كل ما رماها به اليهود مع يوسف النجار الذي كان معها في خدمة الهيكل . والذي تقول عنه الأناجيل المتداولة ، إنه كان قد تزوجها ولكنه لم يدخل بها ولم يقربها .
لقد أحصنت فرجها ( فنفخنا فيها من روحنا )والنفخ هنا شائع لا يحدد موضعه كما في سورة التحريم - وقد سبق الحديث عن هذا الأمر في تفسير سورة مريم - ومحافظة على أن نعيش في ظلال النص الذي بين أيدينا فإننا لا نفصل ولا نطول ، فنمضي مع النص إلى غايته :
( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) . .
وهي آية غير مسبوقة ولا ملحوقة . آية فذة واحدة في تاريخ البشرية جميعا . ذلك أن المثل الواحد من هذا النوع يكفي لتتأمله البشرية في أجيالها جميعا ؛ وتدرك يد القدرة الطليقة التي تخلق النواميس ، ولكنها لا تحتبس داخل النواميس .
{ والتي أحصنت فرجها } من الحلال والحرام يعني مريم . { فنفخنا فيها } أي في عيسى عليه الصلاة والسلام فيها أي أحييناه في جوفها ، وقيل فعلنا النفخ فيها . { من روحنا } من الروح الذي هو بأمرنا وحده أو من جهة روحنا يعني جبريل عليه الصلاة والسلام . { وجعلناها وابنها } أي قصتهما أو حالهما ولذلك وحد قوله : { آية للعالمين } فإن من تأمل حالهما تحقق كمال قدرة الصانع تعالى .
المعنى واذكر { التي أحصنت } وهي مريم بنت عمران أم عيسى ، و «الفرج » فيما قال الجمهور وهو ظاهر القرآن الجارحة المعروفة وفي إحصانها هو المدح ، وقالت فرقة الفرج هنا هو فرج ثوبها الذي منه نفخ الملك وهو ضعيف ، وأما نفخ الولد فيها فقال كثير من العلماء إنما نفخ في جيب درعها وأخاف الروح إضافة الملك إلى المالك ، { وابنها } هو عيسى ابن مريم عليه السلام ، وأراد تعالى أَنه جعل مجموع قصة عيسى وقصة مريم من أولها إلى آخرها { آية } لمن اعتبر ذلك ، و { للعالمين } يريد لمن عاصره فيما بعد ذلك .
لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيئة إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة ، كما قال الله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] الآية . هذه هي مريم ابنة عمران . وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصولية غالباً ، وأيضاً لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقوّلوا عنها إفكاً وزُوراً ، وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى : { فنفخنا فيها من روحنا } الذي هو في حكم الصلة أيضاً ، فكأنه قيل : والتي نفخنا فيها من روحنا ، لأن كلا الأمرين مُوجب ثناء . وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيممِ قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حَمل أنثى دون قربان ذكر ، ليرى الناس مثالاً من التكوين الأوّل كما أشار إليه قوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له { كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] .
والنفخ ، حقيقته : إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين . وأطلق هنا تمثيلاً لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيهاً لِهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ . وقد قيل : إن الملَك نفخَ مما هو لَه كالفم .
والظرفية المفادة ب ( في ) كونُ مريم ظرفاً لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه ، ولذلك قيل { فيها } ولم يقل ( فيه ) للإشارة إلى أن الحمل الذي كُوّن في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد ، كأنه قيل : فنفخنا في بطنها . وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة .
والروح : هو القوة التي بها الحياة ، قال تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } [ الحجر : 29 ] ، أي جعلت في آدم روحاً فصار حَياً . وحَرف ( مِن ) تبعيضي ، والمنفوخ رُوح لأنه جعل بعض روح الله ، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة .
وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي .
وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في [ سورة المؤمنين : 50 ] { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو : { والليل إذا يغشى } [ الليل : 1 ] ، { والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها } [ الشمس : 12 ] .
وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس . وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية عُلِم أن كل واحد آيةٌ خاصة . ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة ، ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.