قوله تعالى : { إن فرعون علا } استكبر وتجبر وتعظم ، { في الأرض } أرض مصر ، { وجعل أهلها شيعاً } . فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير ، { يستضعف طائفةً منهم } أراد بالطائفة بني إسرائيل ، ثم فسر الاستضعاف فقال : { يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم } . سمى هذا استضعافاً لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم . { إنه كان من المفسدين* }
وبعد هذا الافتتاح يبدأ في عرض النبأ . نبأ موسى وفرعون . يبدأ في عرضه منذ أول حلقة في القصة - حلقة ميلاده - ولا تبدأ مثل هذا البدء في أية سورة أخرى من السور الكثيرة التي وردت فيها . ذلك أن الحلقة الأولى من قصة موسى ، والظروف القاسية التي ولد فيها ؛ وتجرده في طفولته من كل قوة ومن كل حيلة ؛ وضعف قومه واستذلالهم في يد فرعون . . ذلك كله هو الذي يؤدي هدف السورة الرئيسي ؛ ويبرز يد القدرة سافرة متحدية تعمل وحدها بدون ستار من البشر ؛ وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عندما يعجز عن ضربها البشر ؛ وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة ؛ وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية . وهو المعنى الذي كانت القلة المسلمة المستضعفة في مكة في حاجة إلى تقريره وتثبيته ؛ وكانت الكثرة المشركة الباغية الطاغية في حاجة إلى معرفته واستيقانه .
ولقد كانت قصة موسى - عليه السلام - تبدأ غالبا في السور الأخرى من حلقة الرسالة - لا من حلقة الميلاد - حيث يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي ؛ ثم ينتصر الإيمان وينخذل الطغيان في النهاية . فأما هنا فليس هذا المعنى هو المقصود ؛ إنما المقصود أن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته ؛ والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر ؛ بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم ، فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم ، وتربيهم ، وتجعلهم أئمة ، وتجعلهم الوارثين .
فهذا هو الغرض من سوق القصة في هذه السورة ؛ ومن ثم عرضت من الحلقة التي تؤدي هذا الغرض وتبرزه ، والقصة في القرآن تخضع في طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض . فهي أداة تربية للنفوس ، ووسيلة تقرير لمعان وحقائق ومبادئ . وهي تتناسق في هذا مع السياق الذي تعرض فيه ، وتتعاون في بناء القلوب ، وبناء الحقائق التي تعمر هذه القلوب .
والحلقات المعروضة من القصة هنا هي : حلقة مولد موسى - عليه السلام - وما أحاط بهذا المولد من ظروف قاسية في ظاهرها ، وما صاحبه من رعاية الله وعنايته . وحلقة فتوته وما آتاه الله من الحكم والعلم ، وما وقع فيها من قتل القبطي ، وتآمر فرعون وملئه عليه ، وهربه من مصر إلى أرض مدين ، وزواجه فيها ، وقضاء سنوات الخدمة بها . وحلقة النداء والتكليف بالرسالة . ثم مواجهة فرعون وملئه وتكذيبهم لموسى وهارون . والعاقبة الأخيرة - الغرق - مختصرة سريعة .
ولقد أطال السياق في عرض الحلقة الأولى والحلقة الثانية - وهما الحلقتان الجديدتان في القصة في هذه السورة - لأنهما تكشفان عن تحدي القدرة السافرة للطغيان الباغي . وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ : ( ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) .
وعلى طريقة القرآن في عرض القصة ، قسمها إلى مشاهد ؛ وجعل بينها فجوات فنية يملؤها الخيال ، فلا يفوت القارى ء شيء من الأحداث والمناظر المتروكة بين المشهد والمشهد ، مع الاستمتاع الفني بحركة الخيال الحية .
وقد جاءت الحلقة الأولى في خمسة مشاهد . والحلقة الثانية في تسعة مشاهد والحلقة الثالثة في أربعة مشاهد . وبين الحلقة والحلقة فجوة كبيرة أو صغيرة وبين كل مشهد ومشهد ، كما يسدل الستار ويرفع عن المنظر أو المشهد .
وقبل أن يبدأ القصة يرسم الجو الذي تدور فيه الأحداث ، والظرف الذي يجري فيه القصص ، ويكشف عن الغاية المخبوءة وراء الأحداث ، والتي من أجلها يسوق هذا القصص . . وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصة . تساوق موضوعها وأهدافها في هذا الموضع من القرآن :
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ، يستضعف طائفة منهم ، يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين . ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ، ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون . .
وهكذا يرسم المسرح الذي تجري فيه الحوادث ، وتنكشف اليد التي تجريها . وتنكشف معها الغاية التي تتوخاها . وانكشاف هذه اليد ، وبروزها سافرة بلا ستار منذ اللحظة الأولى مقصود في سياق القصة كلها ، متمش مع أبرز هدف لها . ومن ثم تبدأ القصة هذا البدء . وذلك من بدائع الأداء في هذا الكتاب العجيب .
ولا يعرف على وجه التحديد من هو الفرعون الذي تجري حوادث القصة في عهده ، فالتحديد التاريخي ليس هدفا من أهداف القصة القرآنية ؛ ولا يزيد في دلالتها شيئا . ويكفي أن نعلم أن هذا كان بعد زمان يوسف - عليه السلام - الذي استقدم أباه وإخوته . وأبوه يعقوب هو " إسرائيل " وهؤلاء كانوا ذريته . وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعبا كبيرا .
فلما كان ذلك الفرعون الطاغية ( علا في الأرض )وتكبر وتجبر ، وجعل أهل مصر شيعا ، كل طائفة في شأن من شئونه . ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل ، لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه ؛ فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب ؛ ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف ، فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد ؛ وإنكار ألوهية فرعون والوثنية الفرعونية جميعا .
وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطرا على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مصر ؛ ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف ، فقد يصبحون إلبا عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب ، فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته ، تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال ، واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب . وبعد ذلك كله تذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم ، واستبقاء الإناث كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم . وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث ، فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب .
وروي أنه وكل بالحوامل من نسائهم قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل ، ليبادر بذبح الذكور ، فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة ، التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة .
هذه هي الظروف التي تجري فيها قصة موسى - عليه السلام - عند ولادته ، كما وردت في هذه السورة :
( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم . إنه كان من المفسدين ) . .
{ إن فرعون علا في الأرض } استئناف " مبين " لذلك البعض ، والأرض أرض مصر . { وجعل أهلها شيعا } فرقا يشيعونه فيما يريد ، أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه استعمل كل صنف في عمل ، أو أحزابا بأن أغرى بينهم العداوة كي لا يتفقوا عليه . { يستضعف طائفة منهم } وهم بنو إسرائيل ، والجملة حال من فاعل { جعل } أو صفة ل { شيعا } أو استئناف ، وقوله : { يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم } بدل منها ، وكان ذلك لأن كاهنا قال له يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده ، وذلك كان من غاية حمقه فإنه لو صدق لم يندفع بالقتل وإن كذب فما وجهه . { إنه كان من المفسدين } فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد .