قوله تعالى : { وما أنفقتم من نفقة } . فيما فرض الله عليكم .
قوله تعالى : { أو نذرتم من نذر } . أي : ما أوجبتموه أنتم على أنفسكم في طاعة الله فوفيتم به .
قوله تعالى : { فإن الله يعلمه } . يحفظه حتى يجازيكم به ، وإنما قال : يعلمه ، ولم يقل : يعلمها ، لأنه رده إلى الآخر منهما كقوله تعالى : ( ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً ) ، وإن شئت حملته على " ما " كقوله : ( وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) ولم يقل بهما .
قوله تعالى : { وما للظالمين } . الواضعين الصدقة في غير موضعها بالرياء ، أو يتصدقون من الحرام .
قوله تعالى : { من أنصار } . من أعوان يدفعون عذاب الله عنهم ، وهي جمع نصير ، مثل : شريف وأشراف .
بعد ذلك نعود مع السياق إلى الصدقة . . إن الله يعلم كل ما ينفقه المنفق . . صدقة كان أم نذرا . وسرا كان أم جهرا . ومن مقتضى علمه أنه يجزي على الفعل وما وراءه من النية :
( وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه . وما للظالمين من أنصار . إن تبدوا الصدقات فنعما هي ، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ؛ ويكفر عنكم من سيئاتكم ، والله بما تعملون خبير ) . .
والنفقة تشمل سائر ما يخرجه صاحب المال من ماله : وزكاة أو صدقة أو تطوعا بالمال في جهاد . . والنذر نوع من أنواع النفقة يوجبه المنفق على نفسه مقدرا بقدر معلوم . والنذر لا يكون لغير الله ولوجهه وفي سبيله . فالنذر لفلان من عباده نوع من الشرك ، كالذبائح التي كان يقدمها المشركون لآلهتهم وأوثانهم في شتى عصور الجاهلية .
( وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه ) . .
وشعور المؤمن بأن عين الله - سبحانه - على نيته وضميره ، وعلى حركته وعمله . . يثير في حسه مشاعر حية متنوعة ؛ شعور التقوى والتحرج أن يهجس في خاطره هاجس رياء أو تظاهر ، وهاجس شح أو بخل ، وهاجس خوف من الفقر أو الغبن . وشعور الاطمئنان على الجزاء والثقة بالوفاء . وشعور الرضى والراحة بما وفى لله وقام بشكر نعمته عليه بهذا الإنفاق مما أعطاه . .
فأما الذي لا يقوم بحق النعمة ؛ والذي لا يؤدي الحق لله ولعباده ؛ والذي يمنع الخير بعد ما أعطاه الله إياه . . فهو ظالم . ظالم للعهد ، وظالم للناس ، وظالم لنفسه :
فالوفاء عدل وقسط . والمنع ظلم وجور . والناس في هذا الباب صنفان : مقسط قائم بعهد الله معه إن أعطاه النعمة وفى وشكر . وظالم ناكث لعهد الله ، لم يعط الحق ولم يشكر . . ( وما للظالمين من أنصار ) . .
يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتَضَمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده . وتوعد من لا يعمل بطاعته ، بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره ، فقال : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار } أي : يوم القيامة ينقذونهم{[4490]} من عذاب الله ونقمته .
تذييل للكلام السابق المسوقِ للأمر بالإنفاق وصفاته المقبولَة والتحذير من المثبّطات عنه ابتداء من قوله : { يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم } [ البقرة : 267 ] .
والمقصود من هذا التذييل التذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء من النفقات وصفاتها ، وَأدْمج النذر مع الإنفاق فكان الكلام جديراً بأن يكون تذييلاً .
والنذر التزام قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله عليّ صدقة وعليّ تجهيز غاز أو نحو ذلك ، ويكون مطلَقاً ومعلَّقاً على شيء . وقد عرفت العرب النذر من الجاهلية ، فقد نذر عبدُ المطلب أنّه إن رُزق عشرة أولاد ليذبحنّ عاشرهم قرباناً للكعبة ، وكان ابنُه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين ، وأكرِم بها مزيةً ، ونذرت نُتَيلةُ زوج عبد المطلب لما افتقدت ابنها العباسَ وهو صغير أنّها إن وجدته لتَكْسُوَنّ الكعبة الديباج ففعلت . وهي أول من كسا الكعبة الديباج . وفي حديث البخاري أنّ عمر بن الخطاب قال : " يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فقال أوْفِ بنذرك " .
وفي الأمم السالفة كان النذر ، وقد حكى الله عن امرأة عمران { إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا } [ آل عمران : 35 ] . والآية دلّت على مشروعيته في الإسلام ورجاء ثوابه ، لعطفه على ما هو من فعل الخير سواء كان النذر مطلقاً أم معلّقاً ، لأنّ الآية أطلقت ، ولأنّ قوله : { فإن الله يعلمه } مراد به الوعد بالثواب . وفي الحديث الصحيح عن عمر وابنه عبد الله وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنّ النذر لا يُقدِّم شيئاً ولا يؤخّر ، ولا يردّ شيئاً ولا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قُدر له ، ولكنّه يُستخرج به من البَخيل " . ومَساقه الترغيب في النذر غير المعلّق لا إبطال فائدة النذر . وقد مدح الله عباده فقال : { يوفون بالنذر } [ الإنسان : 7 ] . وفي « الموطأ » عن النبي صلى الله عليه وسلم " من نَذر أن يطيعَ الله فليُطِعْه ومن نذر أن يعصِيَ الله فلا يْعْصِه " .
و ( مِن ) في قوله : { من نفقة } و { من نذر } بيان لما أنفقتم ونذرتم ، ولما كان شأن البيان أن يفيد معنى زائداً على معنى المبيَّن ، وكان معنى البيان هنا عين معنى المبيّن ، تعيّن أن يكون المقصود منه بيان المنفَق والمنذور بما في تنكير مجروري ( مِنْ ) من إرادة أنواع النفقات والمنذورات فأكّد بذلك العموممِ ما أفادته ما الشرطيةُ من العموم من خير أو شر في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت ، قال التفتازاني : « مِثْل هذا البيان يكون لتأكيد العموم ومنع الخصوص » .
وقوله : { فإن الله يعلمه } كناية عن الجزاء عليه لأنّ علم الله بالكائنات لا يَشُك فيه السامعون ، فأريد لازم معناه ، وإنّما كان لازماً له لأنّ القادر لا يصدّه عن الجزاء إلاّ عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء .
{ وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } .
هذا وعيد قوبل به الوعد الذي كنّي عنه بقوله : { فإن الله يعلمه } ، والمراد بالظالمين المشركون علنا والمنافقون ، لأنّهم إن منعوا الصدقات الواجبة فقد ظلموا مصارفها في حقّهم في المال وظلموا أنفسهم بإلقائها في تبعات المنع ، وإن منعوا صدقة التطوُّع فقد ظلموا أنفسهم بحرمانها من فضائل الصدقات وثوابها في الآخرة .
والأنصار جمع نصير ، ونفي الأنصار كناية عن نفي النصر والغوث في الآخرة وهو ظاهر ، وفي الدنيا لأنّهم لما بخلوا بنصرهم الفقير بأموالهم فإنّ الله يعدمهم النصير في المضائق ، ويقسي عليهم قلوب عباده ، ويلقي عليهم الكراهية من الناس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.