البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥۗ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ} (270)

النذر : تقدّمت مادّته في قوله : { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } وهو عقد الإنسان ضميره على فعل شيء والتزامه .

وأصله من الخوف ، والفعل منه .

نذر ينذر وينذر ، بضم الذال وكسرها ، وكانت النذور من سيرة العرب يكثرون منها فيما يرجون وقوعه ، وكانوا أيضاً ينذرون قتل أعدائهم كما قال الشاعر :

الشاتمي عرضي ، ولم أشتمهما***

والناذرين إذا لقيتهما دمي

وأما على ما ينطلق شرعاً فسيأتى بيانه إن شاء الله .

{ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فان الله يعلمه } ظاهره العموم في كل صدقة في سبيل الله ، أو سبيل الشيطان ، وكذلك النذر عام في طاعة الله أو معصيته ، وأتى بالمميز في قوله : من نفقة ، و : من نذر ، وإن كان مفهوماً من قوله : وما أنفقتم ، ومن قوله : أو نذرتم ، من نذر ، لتأكيد اندراج القليل والكثير في ذلك ، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، وقيل : تختص النفقة بالزكاة لعطف الواجب عليه وهو النذر ، والنذر على قسمين : محرم وهو كل نذر في غير طاعة الله ، ومعظم نذور الجاهلية كانت على ذلك ؛ ومباح مشروط وغير مشروط ، وكلاهما مفسر ، نحو : إن عوفيت من مرض كذا فعليّ صدقة دينار ، ونحو : لله علي عتق رقبة .

وغير مفسر ، نحوه إن عوفيت فعليّ صدقة أو نذر ، وأحكام النذر مذكورة في كتب الفقه .

قال مجاهد معنى : يعلمه ، يحصيه ، وقال الزجاج : يجازي عليه ، وقيل : يحفظه .

وهذه الأقوال متقاربة .

وتضمنت هذه الآية وعداً ووعيداً بترتيب علم الله على ما أنفقوا أو نذروا ، و : من نفقة ، و : من نذر ، تقدم نظائرها في الإعراب فلا تعاد ، وفي قوله : من نذر ، دلالة على حذف موصول قبل قوله : نذرتم ، تقديره : أو ما نذرتم من نذر ، لأن : من نذر ، تفسير وتوضيح لذلك المحذوف ، وحذف ذلك للعلم به ، ولدلالة ما في قوله : وما أنفقتم ، عليه ، كما حذف ذلك في قوله :

أمن يهجو رسول الله منكم***

ويمدحه وينصره سواء ؟

التقدير : ومن يمدحه ، فحذفه لدلالة : من ، المتقدمة عليه ، وعلى هذا الذي تقرر من حذف الموصول ، فجاء الضمير مفرداً في قوله : { فإن الله يعلمه } ، لأن العطف بأو ، وإذا كان العطف بأو كان الضمير مفرداً ، لأن المحكوم عليه هو أحدهما ، وتارة يراعى به الأول في الذكر ، نحو : زيد أو هند منطلق ، وتارة يراعى به الثاني نحو : زيد أو هند منطلقة .

وأما أن يأتي مطابقاً لما قبله في التثنية أو الجمع فلا ، ولذلك تأوّل النحويون قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } بالتأويل المذكور في علم النحو ، وعلى المهيع الذي ذكرناه ، جاء قوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } وقوله تعالى : { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً } كما جاء في هذه الآية { فإن الله يعلمه } ولما عزبت معرفة هذه الأحكام عن جماعة ممن تكلم في تفسير هذه الآية ، جعلوا إفراد الضمير مما يتأوّل ، فحكي عن النحاس أنه قال : التقدير : وما أنفقتم من نفقة فان الله يعلمها ، أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه .

ثم حذف قال ، وهو مثل قوله :

{ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها } وقوله { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة } وقول الشاعر :

نحن بما عندنا ، وأنت بما***

عندك راضٍ ، والرأي مختلف

وقول الآخر :

رماني بأمر كنت منه ، ووالدي***

بريئاً ومن أجل الطويّ رماني

التقدير : نحن بما عندنا راضون ، وكنت منه بريئاً ، ووالدي بريئاً . انتهى .

فأجرى أو مجرى الواو في ذلك .

قال ابن عطية : ووحد الضمير في يعلمه ، وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص . انتهى .

وقال القرطبي : وهذا حسن ، فإن الضمير يراد به جميع المذكور ، وإن كثر انتهى .

وقد تقدّم لنا ذكر حكم أو ، وهي مخالفة للواو في ذلك ، ولا يحتاج لتأويل ابن عطية لأنه جاء على الحكم المستقر في لسان العرب في : أو .

{ وما للظالمين من أنصار } ظاهره العموم ، فكل ظالم لا يجد له من ينصره ويمنعه من الله ، وقال مقاتل : هم المشركون .

وقال أبو سليمان الدمشقي : هم المنفقون بالمن والأذى والرياء ، والمبذورن في المعصية .

وقيل : المنفقو الحرام .

والأنصار : الأعوان جمع نصير ، كحبيب وأحباب ، وشريف وأشراف .

أو : ناصر ، كشاهد وأشهاد ، وجاء جمعاً باعتبار أن ما قبله جمع ، كما جاء : { وما لهم من ناصرين } والمفرد يناسب المفرد نحو : { مالك من الله من ولي ولا نصير } لا يقال : انتفاء الجمع لا يدل على انتفاء المفرد ، لأن ذلك في معرض نفي النفع والإغناء ، وحصول الاستعانة ، فإذا لم يجدِ الجمع ولم يغنِ ، فأحرى أن لا يجدي ولا يغني الواحد .

ولما بيَّن تعالى فضل الإنفاق في سبيله وحث عليه ، وحذرنا من الجنوح إلى نزغات الشيطان ، وذكرنا بوعد الله الجامع لسعادة الآخرة والدنيا من المغفرة والفضل ، وبين أن هذا الأمر والفرق بين الوعدين لا يدركه إلاَّ من تخصص بالحكمة التي يؤتيها الله من يشاء من عباده ، رجع إلى ذكر النفقة والحث عليها ، وأنها موضوعة عند من لا ينسى ولا يسهو ، وصار ذكر الحكمة مع كونه متعلقاً بما تقدم كالاستطراد ، والتنويه بذكرها ، والحث على معرفتها .