غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥۗ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ} (270)

267

ثم إنه تعالى نبه على أنه عالم بما في قلب العبد من نية الإخلاص أو الرياء ، وأنه يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئاً منها فقال { وما أنفقتم من نفقة } لله أو للشيطان { أو نذرتم من نذر } في طاعة الله أو معصيته { فإن الله يعلمه } وتذكير الضمير إما لأنه عائد إلى " ما " وإما لأنه عائد إلى الأخير كقوله :{ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً }[ النساء : 112 ] وهذا قول الأخفش ، والنذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه وأصله من الخوف كأنه يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده ومنه الإنذار إبلاغ مع تخويف . واعلم أن النذر قسمان : نذر اللحاج والغضب ونذر التبرر . أما الأول فهو أن يمنع نفسه من الفعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو الترك كقوله " إن كلمت فلاناً أو أكلت كذا أو دخلت الدار أو لم أخرج من البلد فللَّه علي صوم شهر أو صلاة أو حج أو إعتاق رقبة " ثم إنه إذا كلمه أو أكل أو دخل أو لم يخرج فلعلماء ثلاثة أقوال : أحدها يلزمه الوفاء بما التزم ، والثاني : وهو الأصح أن عليه كفارة يمين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم : " كفارة النذر كفارة اليمين " ، والثالث : التخيير بين الوفاء وبين الكفارة . وأما نذر التبرر فنوعان : نذر المجازاة وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع نقمة مثل " إن شفى الله مريضي أو رزقني ولدا فللَّه علي أن أعتق رقبة أو أصوم أو أصلي كذا " فإذا حصل المعلق عليه لزمه الوفاء بما التزم لقوله صلى الله عليه وسلم : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " ونذر التنجيز وهو أن يلتزم ابتداء غير معلق على شيء كقوله " لله علي أن أصوم أو أصلي أو أعتق " فالأصح أنه يصح ويلزم الوفاء به لمطلق الخبر . وما يفرض التزامه بالنذر إما المعاصي وإما الطاعات وإما المباحات . فالمعاصي كشرب الخمر والزنا ونذر المرأة صوم أيام الحيض ونذر قراءة القرآن في حال الجنابة لا يصح التزامها بالنذر لأنه لا نذر في معصية الله تعالى ، ومن هذا القبيل نذر ذبح الولد أو ذبح نفسه . وإذا لم ينعقد نذر فعل المعصية فعليه أن يمتنع منه ولا يلزمه كفارة يمين ، وما روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين " محمول على نذر اللجاج ، وأما الطاعات فالواجبات ابتداء بالشرع كالصلوات الخمس وصوم رمضان لا معنى لالتزامها بالنذر معلقاً أو غير معلق ، وكذا لو نذر أن لا يشرب الخمر ولا يزني ، وإذا خالف ما ذكره فلا يلزمه الكفارة على الأصح ، وأما غير الواجبات فالعبادات المقصودة وهي التي وضعت للتقرب بها وعرف من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق بإيقاعها عبادة فتلزم بالنذر وذلك كالصوم والصلاة والزكاة والصدقة والحج والاعتكاف والإعتاق وكذا فروض الكفايات التي يحتاج فيها إلى معاناة تعب وبذل مال كالجهاد وتجهيز الموتى ، ذكره إمام الحرمين - وفي الصلاة على الجنازة والأمر بالمعروف ، وما ليس فيه بذل مال وكثير مشقة الأظهر اللزوم أيضا ، وكما يلزم أصل العبادات بالنذر يلزم رعاية الصفة المشروطة فيها إذا كانت من المحبوبات كالصلاة بشرط طول القراءة أو الركوع أو السجود أو الحج بشرط المشي إذا جعلناه أفضل من الركوب وهو الأصح ولو أفرد الصفة بالالتزام .

والأصل واجب كتطويل الركوع والسجود أو القراءة في الفرائض ، فالأشبة اللزوم لأنها عبادات مندوب إليها . وأما الأعمال والأخلاق المستحسنة كعيادة المريض وزيارة القادم وإفشاء السلام على المسلمين فالأظهر لزومها أيضاً بالنذر ، وكذا تجديد الوضوء لأن كلها مما يتقرب بها إلى الله سبحانه ، وقد رغب الشارع فيها . وأما المباحات التي لم يرد فيها ترغيب كالأكل والنوم والقيام والقعود فلو نذر فعلها أو تركها لم ينعقد نذره ، " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس فسأل عنه فقالوا : نذر أن لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال صلى الله عليه وسلم : مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه " ولو قال : " لله عليّ نذر " من غير تسمية لزمه كفارة يمين لقوله صلى الله عليه وسلم : " من نذر نذراً وسمى فعليه ما سمى ، ومن نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين " { وما للظالمين } الذين يمنعون الصدقات ، أو ينفقون أموالهم في المعاصي ، أو للرياء ، أو لا يوفون بالنذور ، أو ينذرون في المعاصي { من أنصار } ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه . والأنصار جمع ناصر كأصحاب في صاحب ، أو جمعٍ نصير كأشراف في شريف . وقد يتمسك المعتزلة بهذا في نفي الشفاعة لأهل الكبائر ، فإن الشفيع ناصر . ورد بأن الشفيع في العرف لا يسمى ناصراً وإلا كان قوله { ولا هم ينصرون }[ البقرة : 48 ] بعد قوله :{ ولا يقبل منها شفاعة }[ البقرة : 48 ] تكراراً . وأيضاً إن هذا الدليل النافي عام في حق كل الظالمين وفي كل الأوقات ، والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات والخاص مقدم على العام . وأيضا اللفظ لا يكون قاطعاً في الاستغراق بل ظاهراً على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنياً والمسألة ليست ظنية فكان التمسك بها ساقطاً .

/خ274