إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥۗ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ} (270)

{ وَمَا أَنفَقْتُم من نَفَقَةٍ } بيانٌ لحكمٍ كلي شاملٍ لجميع أفراد النفقاتِ وما في حكمها إثرَ بيانِ حكمِ ما كان منها في سبيل الله ، و{ مَا } إما شرطية أو موصولة حُذف عائدُها من الصلة أي وما أنفقتموه من نفقة أيِّ نفقةٍ كانت في حق أو باطلٍ في سرَ أو علانية قليلةٍ أو كثيرة { أَوْ نَذَرْتُم } النذرُ عقدُ الضمير على شيءٍ والتزامُه ، وفعلُه كضرب ونصر { من نَذْرٍ } أيِّ نذرٍ كان في طاعةٍ أو معصية بشرطٍ أو بغير شرط متعلقٍ بالمال أو بالأفعال كالصيامِ والصلاةِ ونحوهما { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } الفاء على الأول داخلةٌ على الجواب وعلى الثاني مزيدةٌ في الخبر وتوحيدُ الضمير مع تعدّدِ متعلَّق العلم لاتحاد المرجع بناءً على كون العطف بكلمة أو كما في قولك : زيدٌ أو عمرٌو أكرمتُه ، ولا يقال : أكرمتُهما ولهذا صِرنا إلى التأويل في قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء ، الآية 135 ] بل يعادُ الضميرُ تارةً إلى المقدَّم رعايةً للأولية كما في قوله عز وعلا : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة ، الآية 11 ] وأخرى إلى المؤخَّر رعايةً للقُرب كما في هذه الآية الكريمة وفي قوله تعالى : { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } [ النساء ، الآية 112 ] وحملُ النظم على تأويلهما بالمذكور ونظائِره أو على حذف الأول ثقةً بدلالة الثاني عليه كما في قوله تعالى : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } [ التوبة ، الآية 34 ] وقوله : [ المنسرح ]

نحنُ بما عندنا وأنت بما *** عندكَ راضٍ والرأيُ مختلفُ{[107]}

ونحوِهما مما عُطف فيه بالواو الجامعةِ تعسفٌ مستغنىً عنه . نعم يجوز إرجاعُ الضمير إلى { مَا } على تقدير كونِها موصولةً ، وتصديرُ الجملة بإن لتأكيدِ مضمونِها إفادةً لتحقيق الجزاء ، أي فإنه تعالى يجازيكم عليه ألبتةَ إن خيراً فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ فهو ترغيبٌ وترهيب ووعدٌ ووعيد { وَمَا للظالمين } بالإنفاق والنذر في المعاصي أو بمنع الصدقاتِ وعدمِ الوفاء بالنذر أو بإنفاق الخبيثِ أو بالرياء والمنِ والأذى وغيرِ ذلك مما ينتظمُه معنى الظلم الذي هو عبارة عن وضع الشيءِ في غير موضعِه الذي يحِقُّ أن يوضعَ فيه { مِنْ أَنصَارٍ } أي أعوان ينصرونهم من بأس الله وعقابِه لا شفاعةً ولا مدافعةً ، وإيرادُ صيغة الجمع لمقابلة الظالمين أي وما لظالم من الظالمين من نصيرٍ من الأنصار ، والجملةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لما فيما قبله من الوعيد مفيد لفظاعة حالِ مَنْ يفعل ما يفعل من الظالمين لتحصيل الأعوانِ ورعاية الخُلاّن .


[107]:وهو لقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه ص 239 والدرر 5/314 والمقاصد النحوية 1/557 ولعمرو بن قيس الخزرجي في الدرر 1/147 وشرح أبيات سيبويه 1/279 ولدرهم بن زيد الأنصاري في الإنصاف 1/95 وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/100، 6/65 7/116 ولسان العرب 3/360 (قعد) والشاهد فيه قوله: "نحن بما عندنا" حيث حذف الخبر جوازا لدلالة ما بعده عليه.