قوله تعالى : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه } أدخل ذلك الماء { ينابيع } ، عيوناً وركايا . { في الأرض } قال الشعبي : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل . { ثم يخرج به } بالماء . { زرعاً مختلفاً ألوانه } أحمر وأصفر وأخضر . { ثم يهيج } ييبس { فتراه } بعد خضرته ونضرته { مصفراً ثم يجعله حطاماً } فتاتاً متكسراً . { إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب } .
( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فسلكه ينابيع في الأرض ، ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ، ثم يهيج فتراه مصفراً ، ثم يجعله حطاماً ? إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) .
إن هذه الظاهرة التي يوجه القرآن إليها الأنظار للتأمل والتدبر ، ظاهرة تتكرر في أنحاء الأرض ، حتى لتذهب الألفة بجدتها وما فيها من عجائب في كل خطوة من خطواتها . والقرآن يوجه النظر إلى رؤية يد الله وتتبع آثارها في كل خطوة من خطوات الحياة .
فهذا الماء النازل من السماء . . ما هو وكيف نزل ? إننا نمر بهذه الخارقة سراعاً لطول الألفة وطول التكرار . إن خلق الماء في ذاته خارقة . ومهما عرفنا أنه ينشأ من اتحاد ذرتي أيدروجين بذرة أكسوجين تحت ظروف معينة ، فإن هذه المعرفة خليقة بأن توقظ قلوبنا إلى رؤية يد الله التي صاغت هذا الكون بحيث يوجد الأيدروجين ويوجد الأكسوجين وتوجد الظروف التي تسمح باتحادهما ، وبوجود الماء من هذا الاتحاد . ومن ثم وجود الحياة في هذه الأرض . ولولا الماء ما وجدت حياة . إنها سلسلة من التدبير حتى نصل إلى وجود الماء ووجود الحياة . والله من وراء هذا التدبير ، وكله مما صنعت يداه . . ثم نزول هذا الماء بعد وجوده وهو الآخر خارقة جديدة ، ناشئة من قيام الأرض والكون على هذا النظام الذي يسمح بتكون الماء ونزوله وفق تدبير الله .
ثم تجيء الخطوة التالية لإنزال الماء :
سواء في ذلك الأنهار الجارية على سطح الأرض ؛ أو الأنهار الجارية تحت طباقها مما يتسرب من المياه السطحية ، ثم يتفجر بعد ذلك ينابيع وعيوناً ، أو يتكشف آباراً . ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبداً !
( ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ) . .
والحياة النباتية التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه ؛ خارقة يقف أمامها جهد الإنسان حسيراً . ورؤية النبتة الصغيرة وهي تشق حجاب الأرض عنها ؛ وتزيح أثقال الركام من فوقها ؛ وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية ؛ وهي تصعد إلى الفضاء رويداً رويداً . . هذه الرؤية كفيلة بأن تملأ القلب المفتوح ذكرى ؛ وأن تثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة . بل في النبتة الواحدة . بل في الزهرة الواحدة إن هو إلا معرض لإبداع القدرة ؛ يُشعر الإنسان بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً !
هذا الزرع النامي اللدن الرخص الطري بالحياة ، يبلغ تمامه ، ويستوفي أيامه :
وقد بلغ غايته المقدرة له في ناموس الوجود ، وفي نظام الكون ، وفي مراحل الحياة ، فينضج للحصاد :
وقد استوفى أجله ، وأدى دوره ، وأنهى دورته كما قدر له واهب الحياة . .
( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) . .
الذين يتدبرون فيذكرون ، وينتفعون بما وهبهم الله من عقل وإدراك .
يخبر تعالى : أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال تعالى : { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } [ الفرقان : 48 ] ، فإذا أنزل الماء من السماء كَمَن في الأرض ، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء ، ويُنِبُعه عيونًا ما بين صغار وكبار ، بحسب الحاجة إليها ؛ ولهذا قال : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ } .
قال ابن أبي حاتم - رحمه الله - : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ } ، قال : ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ، ولكن عروق في الأرض تغيره ، فذلك قوله تعالى : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ } ، فمن سره أن يعود الملح عذاب فليصعده .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي : أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء . وقال سعيد بن جبير : أصله من الثلج يعني : أن الثلج يتراكم على الجبال ، فيسكن في قرارها ، فتنبع العيون من أسافلها .
وقوله : { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } أي : ثم يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا { مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } أي : أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه ، { ثُمَّ يَهِيجُ } أي : بعد نضارته وشبابه يكتهل { فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا } ، قد خالطه اليُبْس ، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا } أي : ثم يعود يابسا يتحطم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ } أي : الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا ، تكون خَضرةً نضرةً حسناء ، ثم تعود عَجُوزا شوهاء ، والشاب يعود شيخا هَرِما كبيرا ضعيفا قد خالطه اليبس ، وبعد ذلك كله الموت . فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير ، وكثيرًا ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء ، وينبت به زروعا وثمارا ، ثم يكون بعد ذلك حُطاما ، كما قال تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } [ الكهف : 45 ] .
استئناف ابتدائي انتُقل به إلى غرض التنويه بالقرآن وما احتوى عليه من هدى الإِسلام ، وهو الغرض الذي ابتدئت به السورة وانثنى الكلام منه إلى الاستطراد بقوله تعالى : { فاعبد اللَّه مخلصاً له الدين } [ الزمر : 2 ] إلى هنا ، فهذا تمهيد لقوله : { أفَمَن شَرَحَ الله صَدرهُ للإسلامِ } إلى قوله : { ذلِكَ هُدَى الله يهْدِي به من يشاءُ } [ الزمر : 22 ، 23 ] فمُثلت حالة إنزال القرآن واهتداء المؤمنين به والوعدُ بنماء ذلك الاهتداء ، بحالة إنزال المطر ونبات الزرع به واكتماله . وهذا التمثيل قابل لتجزئة أجزائه على أجزاء الحالة المشبه بها : فإِنزال الماء من السماء تشبيه لإِنزال القرآن لإِحياء القلوب ، وإسلاكُ الماء ينابيع في الأرض تشبيه لِتبليغ القرآن للناس ، وإخراج الزرع المختلف الألوان تشبيه لحال اختلاف الناس من طَيِّب وغيره ، ونافع وضار ، وهياج الزرع تشبيه لِتكاثر المؤمنين بين المشركين . وأما قوله تعالى : { ثُمَّ يَجْعلُهُ حُطاماً } فهو إدماج للتذكير بحالة الممات واستواءِ الناس فيها من نافع وضار . وفي تعقيب هذا بقوله : { أفَمَن شَرَحَ الله صدرَهُ للإسلامِ } إلى قوله : { وَمَن يُضْلِل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 22 ، 23 ] إشارة إلى العبرة من هذا التمثيل .
وقريب من تمثيل هذه الآية ما في « الصحيحين » عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقيَّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشُب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً فذلك مَثَل من فقُه في دين الله ونفعَه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم ، ومثَل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به " ويجوز أن يكون المعنى أصالةً وإدماجاً على عكس ما بيّنا ، فيكونَ عَوْداً إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية بدليل من مخلوقاته التي يشاهدها الناس مشاهدة متكررة ، فيكونَ قوله تعالى : { ألم ترَ أن الله أنزل من السماءِ ماءً } إلى قوله : { إن في ذلك لذكرى لأولي الألبابِ } متصلاً بقوله تعالى : { خلقكم من نفسسٍ واحدةٍ ثمَّ جعَلَ منها زَوجَهَا } [ الزمر : 6 ] المتصل بقوله تعالى : { خَلَق السماواتِ والأرض بالحقِ يُكورُ الليل على النَّهار } [ الزمر : 5 ] ، ويكونَ ما بيناه من تمثيل حال نزول القرآن وانتفاع المؤمنين إدماجاً في هذا الاستدلال . وعلى كلا الوجهين أُدمج في أثناء الكلام إيماء إلى إمكان إحياء الناس حياة ثانية .
والكلام استفهام تقريري ، والخطاب لكل من يصلح للخطاب فليس المراد به مخاطباً معيَّناً . والرؤية بصرية .
وقوله : { أنزلَ مِن السماءِ ماءً } تقدم نظيره في قوله : { وهو الذي أنزل من السماء ماء } في سورة [ الأنعام : 99 ] .
و { سلكه } أدخله ، أي جعله سالكاً ، أي داخلاً ، ففعل سلك هنا متعد وقد تقدم عند قوله تعالى : { وسلك لكم فيها سبلاً } في سورة [ طه : 53 ] ، وذكرنا هنالك أن فعل سلك يكون قاصراً ومتعدّياً ، وهذا الإِدخال دليل ثان .
و{ يَنابيعَ } جمع ينبوع وهو العين من الماء ، تقدم في قوله تعالى : { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } في سورة [ الإِسراء : 90 ] . وانتصب { ينابيعَ } على الحال من ضمير { مَاءً } . وتصيير الماء الداخل في الأرض ينابيع دليل ثالث على عظيم قدرة الله .
وعطف ب { ثم } قوله : { ثُمَّ يُخرجُ بهِ زَرعاً } لإِفادة التراخي الرتبي بحرف { ثم } كشأنها في عطف الجمل لأن إخراج الزرع من الأرض بعد إقحالها أوقع في نفوس الناس لأنه أقرب لأبصارهم وأنفع لعيشهم وإذ هو المقصود من المطر . وهذا الإِخراج دليل رابع .
والألوان : جمع لون ، واللون : كيفية لائحة على ظاهر الجسم في الضوء ، وتقدم في سورة فاطر [ 27 ، 28 ] . واختلاف ألوان الزرع بالمعنى الأول أن لكل نوع من الزرع لوناً ولنَوْرها ألواناً ولكل صنف من الزرع ألوان مختلفة في أطوار نباته وبلوغه أشُدّه ، وهذا الاختلاف مع اتّحاد الأرض التي تنبت فيها واتحاد الماء الذي نبت به آية خامسة على عظيم القدرة والانفراد بالتصرف .
ومعنى { يهيج } يغلظ ويرتفع . وحقيقة الهياج : ثورة الإنسان أو الحيوان ، ويستعار الهياج لشدة الشيء من غير الحيوان يقال : هاجت ريِح ، ومنه هياج الزرع في الآية لأن الزرع تطول سوقه وسنابله فيتم جفافه فإذا تحرك بمرور الريح عليه صار له حفيف وخشخشة سواء في ذلك الحَب والكَلأ وهذا الطور آية سادسة على الوحدانية .
والحطام : المحطوم ، أي المكسور المفتوت ، ووزن فُعال ( بضم الفاء ) يدل على المفعول كالفُتات والدُقاق ، ومثله الفُعالة كالصُبابة والقُلامة والقُمامة . والمعنى : أنه يبلغ من اليبس إلى حد أن يتحطم ويتكسر بحك بعضه بعضاً وتساقُطه وكسر الريح إياه . وهذا الطور آية سابعة على قدرة الله . وجميعها آيات على دقة صنعه وكيف أودع الأطوار الكثيرة في الشيء الواحد يخلف بعضها بعضاً من طور وجوده إلى طور اضمحلاله .
وجملة { إنَّ في ذلك لذكرى لأُولِى الألباب } مبيّنة للاستفهام التقريري وفذلكة للأطوار المستفهم عنها ، فالإِشارة بذلك إلى المذكور من الإِنزال إلى آخر الأطوار .
والمراد : ذكرى بالدلالة على ما يغفل عنه العاقل . ويجوز أن تكون الذكرى لما يذهل عنه العاقل مما تشتمل عليه هذه الأحوال من مبدئها إلى منتهاها . فمن ذلك أنها تصلح مثالاً لتقريب البعث فإن إنزال الماء على الأرض وإنباتها بسببه أمر يتجدد بعد أن صار ما عليها من النبات حطاماً ، وتخللت زراريعه الأرض فنبتت مرة أخرى بنزول الماء ، فكذلك يعود الإِنسان بعد فنائه كما أشار إليه قوله تعالى : { واللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً } [ نوح : 17 ، 18 ] فتتضمن الآية إدماج تقريب البعث وإمكانه مع الاستدلال على انفراد الله تعالى بالتصرف ، ومن ذلك أنها تصلح مثلاً للحياة الدنيا كما في آية سورة يونس وفي سورة الكهف ، والمقصود : تشبيه الحالة بالحالة فلا يُعتبر التجوز في مفردات هذا المركب بأن يطلب لكل طور من أطوار الدنيا طور يشتبه به من أطوار النبات .
ومنها أنها مثل لأطوار الإِنسان من طور النطف إلى الشباب إلى الشيخوخة ثم الهلاك ، والمقصود تشبيه الحالة بالحالة مع إمكان توزيع تشبيه كل طور من أطوار الحالة المشبهة بطور من أطوار الحالة المشبه بها وهو أكمل أنواع التمثيلية .
و { أولي الألبَابِ } هم الذين ينتفعون بألبابهم فيهتدون بما نصب لهم من الأدلة ، كما تقدم آنفاً في قوله : { إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الألباب } [ الزمر : 9 ] ، وهم الذين استدلوا فآمنوا . وفي هذا تعريض بأن الذين لم يستفيدوا من الأدلة بمنزلة مَن عدموا العقول .