تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعٗا مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ حُطَٰمًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (21)

الآية 21 : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ } ونحوه على وجهين :

أحدهما : على الخبر { ألم تر } أي قد رأيت .

والثاني : على الأمر : أن ر .

ثم الخطاب ، وإن كان في الظاهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكل أحد يحتمل النظر والتأمل .

ثم جهة الحكمة المودعة فيها من إنزال الماء من السماء وجعله ينابيع في الأرض . والينابيع هي العيون التي تخرج من الأرض والآبار التي جعلت فيها ليعلم أن المياه الخارجة من الأرض والجارية فيها أصلها من السماء ، منزلة منها ، وهي طهور على ما أخبر أنه أنزل { من السماء ماء طهورا } [ الفرقان : 48 ] ، وإن اختلف طعمه لاختلاف جواهر الأرض ، ما لم يخالطه شيء من جواهر من القذارة والنجاسة وغيرها من الألوان التي تخرجه عن أن يكون طهورا ، تغيره عن جوهره الذي أنزل من السماء .

ثم جعل الله عز وجل في شربة ذلك الماء معنى ولطفا ما يوافق جميع الأشجار والنبات ، وكل خارج من الأرض ، وغن اختلفت جواهرها وألوانها وطعومها ، ليعلم أن من قدر على جعل ما جعل في الماء من اللطف والمعنى الذي يوافق كل شيء من النبات والشجر ، وإن اختلفت جواهرها وألوانها وطعومها ، لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه شيء . ولا قوة إلا بالله .

أو يقول : إن من تكلف زرع الزراعة في الأرض ، وتحمل المؤن العظام إلى أن بلغ المبلغ الذي ينتفع به ، وينال منه النفع ، تركه لم ينتفع به ، أليس يوصف بالسفه وغير بالحكمة ؟ فكذلك الله ، سبحانه ، لما أنشأكم صغارا طفلا ، وغذاكم بألوان الأغذية والأطعمة حتى كبرتم ، وبلغتم مبلغ الانتفاع بكم . ثم أبلغكم بلا عاقبة تقصد بذلك ، كان غير حكيم ، وقد عرفتموه حكيما .

فدل أن المقصود في ذلك كله حتى يكون إنشاؤه إياكم صغارا وتربيته إياكم بألوان الأغذية التي جعل لكم حكمة ، وهو البعث ، ما لو لا يذلك كان سفها غير حكمة على ما ذكر من إخراج الزرع من الأرض الماء الذي أخرج ، ثم تركه فيها حتى صار يابسا ، لا ينتفع به كان سفيها غير حكيم .

فعلى ذلك ما كان عند أولئك الكفرة أن لا بعث كان ما ذكر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب } أي في ما يذكر من إنزال الماء وإدخاله في الأرض وإخراج ما ذكر منها به ، وما ذكر موعظة لأولي الألباب ، أي لمن انتفع بلبه وعقله لما ذكرنا ، وما ذكر لأهل الجنة من الغرف وغير ذلك . ثم قال عز وجل : { وعد الله لا يخلف الله الميعاد } [ الزمر : 20 ] لأن من وعد في الشاهد ، ثم أخلفه ، إنما يخلفه لحاجته أو لما يبدو له من البدوات ، فيرجع عما وعد ، والله تعالى عن ذلك كله ، ولا يحتمل خلف الوعد منه .

وقوله تعالى : { فسلكه ينابيع في الأرض } أي أدخله فيها ، وجعله ينابيع أي عيونا . ثم قوله تعالى : { ثم يهيج } أي ييبس . وقوله : { ثم يجعله حطاما } متكسرا مثل الرفات والفتات ، وهو قول أبي عوسجة والقتبي . ويقال : هاجت الأرض إذا ابتدأت في اليبس ، { حطاما } أي متكسرا .