المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

19- هذان فريقان من الناس تنازعوا في أمر ربهم ، وما يليق به ، وما لا يليق ، فآمن به فريق ، وكفر فريق ، فالذين كفروا أعد الله لهم يوم القيامة ناراً تحيط بهم من كل جانب ، كما يحيط الثوب بالجسد ، ولزيادة تعذيبهم تصب الملائكة على رءوسهم الماء الشديد الحرارة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

قوله تعالى :{ هذان خصمان اختصموا في ربهم } أي : جادلوا في دينه وأمره ، والخصم : اسم شبيه بالمصدر ، فلذلك قال : { اختصموا } بلفظ الجمع كقوله : { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } واختلفوا في هذين الخصمين .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا يعقوب بن إبراهيم ، أنبأنا هشيم ، أنبأنا أبو هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في الذين برزوا يوم بدر : حمزة وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، وعتبة ، وشيبة ابني أبي ربيعة ، والوليد بن عتبة . وأخبرنا عبد الواحد ، أنبأنا أحمد ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا حجاج بن منهال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي قال : أنبأنا أبو مجلز ، عن قيس بن عباد ، عن علي بن أبي طالب قال : " أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة " . قال قيس : وفيهم نزلت : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة . قال محمد بن إسحاق : خرج -يعني يوم بدر- عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة : عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء ، وعبد الله بن رواحة فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : رهط من الأنصار ، فقالوا حين انتسبوا : أكفاء كرام ، ثم نادى مناديهم : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب ، فلما دنوا قالوا : من أنتم ؟ فذكروا ، فقالوا : نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد بن عتبة ، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة ، وعلي الوليدبن عتبة واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه ، فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا عبيدة إلى أصحابه ، وقد قطعت رجله ومخها يسيل ، فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألست شهيداً يا رسول الله ؟ قال : بلى ، فقال عبيدة : لو كان أبو طالب حياً لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول :

ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وقال ابن عباس و قتادة : نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نحن أولى بالله منكم وأقدم منكم كتاباً ، ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم به حسداً ، فهذه خصومتهم في ربهم . وقال مجاهد و عطاء بن أبي رباح و الكلبي : هم المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا . وقال بعضهم : جعل الأديان ستة في قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } الآية ، فجعل خمسة للنار وواحداً للجنة ، فقوله تعالى : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } ينصرف إليهم فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم . وقال عكرمة : هما الجنة والنار اختصمتا .

كما أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنبأنا أبو طاهر الزيادي ، أنبأنا أبو بكر محمد حسين القطان ، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغزاتهم . قال الله عز وجل للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحداً ، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقاً . ثم بين الله عز وجل ما للخصمين فقال : { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } قال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب ، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حراً منه وسمي باسم الثياب لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب . وقال بعضهم : يلبس أهل النار مقطعات من النار ، { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } الحميم : هو الماء الحار الذي انتهت حرارته .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

ثم مشهد من مشاهد القيامة يتجلى فيه الإكرام والهوان ، في صورة واقع يشهد كأنه معروض للعيان :

هذا خصمان اختصموا في ربهم . فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ؛ ولهم مقامع من حديد ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها . وذوقوا عذاب الحريق . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير .

إنه مشهد عنيف صاخب ، حافل بالحركة ، مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير . فلا يكاد الخيال ينتهي من تتبعه في تجدده . .

هذه ثياب من النار تقطع وتفصل ! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس ، يصهر به ما في البطون والجلود عند صبه على الرؤوس ! وهذه سياط من حديد أحمته النار . . وهذا هو العذاب يشتد ، ويتجاوز الطاقة ، فيهب ( الذين كفروا )من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا( الغم )وها هم أولاء يردون بعنف ، ويسمعون التأنيب : ( وذوقوا عذاب الحريق ) . .

ويظل الخيال يكرر هذه المشاهد من أولى حلقاتها إلى أخراها ، حتى يصل إلى حلقة محاولة الخروج والرد العنيف ، ليبدأ في العرض من جديد !

ولا يبارح الخيال هذا المشهد العنيف المتجدد إلا أن يلتفت إلى الجانب الآخر ، الذي يستطرد السياق إلى عرضه . فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم . فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة ! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار . وملابسهم لم تقطع من النار ، إنما فصلت من الحرير . ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ . وقد هداهم الله إلى الطيب من القول ، وهداهم إلى صراط الحميد . فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق . . والهداية إلى الطيب من القول ، والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم . نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق .

وتلك عاقبة الخصام في الله . فهذا فريق وذلك فريق . . فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات ، ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

ثبت في الصحيحين ، من{[20079]} حديث أبي مِجْلَز ، عن قيس بن عُبَاد ، عن أبي ذر ؛ أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } نزلت في حمزة وصاحِبَيه ، وعتبةَ وصاحبيه ، يوم برزوا في بدر{[20080]} .

لفظ البخاري عند تفسيرها ، ثم قال البخاري :

حدثنا الحجاج بن مِنْهَال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو مِجْلز عن قيس بن عُبَاد ، عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يَجثُو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة . قال قيس : وفيهم نزلت : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } ، قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : عليّ وحمزة وعبيدة ، وشيبة ابن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . انفرد به البخاري{[20081]} .

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم . فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها ، ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى بالله منكم . فأفلج الله الإسلامَ على من ناوأه ، وأنزل : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } . وكذا روى العَوفي ، عن ابن عباس .

وقال شعبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : مُصدق ومكذب .

وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في هذه الآية : مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث . وقال - في رواية : هو وعطاء في هذه الآية - : هم المؤمنون والكافرون .

وقال عكرمة : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : هي الجنة والنار ، قالت النار : اجعلني للعقوبة ، وقالت الجنة : اجعلني للرحمة .

وقولُ مجاهد وعطاء : إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون ، يشمل الأقوال كلها ، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها ؛ فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلانَ الحق وظهور الباطل . وهذا اختيار ابن جرير ، وهو حَسَن ؛ ولهذا قال : { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } أي : فصلت لهم مقطعات من نار .

قال سعيد بن جبير : من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي .

{ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } . { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } أي : إذا صب على رءوسهم الحميم ، وهو الماء الحار في غاية الحرارة .

وقال سعيد [ بن جبير ]{[20082]} هو النحاس المذاب ، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم . وكذلك تذوب{[20083]} جلودهم ، وقال ابن عباس وسعيد : تساقط .

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالَقاني ، حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد{[20084]} ، عن أبي السَّمْح ، عن ابن{[20085]} حُجَيرة ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الحميم ليُصَب على رءوسهم ، فينفُد الجمجمةَ حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت{[20086]} ما في جوفه ، حتى يبلغ قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان " .

ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك{[20087]} ، وقال : حسن صحيح . وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي نعيم ، عن ابن المبارك ، به ثم قال ابن أبي حاتم :

حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَاريّ ، سمعت عبد الله ابن السُّرِّيّ قال : يأتيه الملك يحمل الإناء بِكَلْبتين من حرارته ، فإذا أدناه من وجهه تكرهه ، قال : فيرفع مِقْمَعَة معه فيضرب

بها رأسه ، فَيُفرغ{[20088]} دماغه ، ثم يُفرغ{[20089]} الإناء من دماغه ، فيصل إلى جوفه من دماغه ، فذلك قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ }


[20079]:- في ت : "عن".
[20080]:- صحيح البخاري برقم (4743) وصحيح مسلم برقم (3033).
[20081]:- صحيح البخاري برقم (4744).
[20082]:- زيادة من ف ، أ.
[20083]:- في ف : "يذوب".
[20084]:- في ت ، ف : "زيد".
[20085]:- في ت : "أبي".
[20086]:- في أ : "فيسلت".
[20087]:- تفسير الطبري (17/100) وسنن الترمذي برقم (2582).
[20088]:- في ت ، ف : "فيقرع".
[20089]:- في ت : "يقرع".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

وقوله تعالى : { هذان خصمان } الآية ، اختلف الناس في المشار إليه بقوله { هذان } فقال قيس بن عباد وهلال بن يساف : نزلت هذه الآية في المتبارزين يوم بدر وهو ستة : حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، برزوا لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة{[8330]} وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة{[8331]} ، وأقسم أبو ذر على هذا القول ع ووقع أن الآية فيهم في صحيح البخاري ، وقال ابن عباس : الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وذلك أنه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن أقوم ديناً منكم ونحو هذا ، فنزلت الآية ، وقال عكرمة : المخاصمة بين الجنة والنار ، وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وعاصم والكلبي : الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ع وهذا قول تعضده الآية ، وذلك أنه تقدم قوله { وكثير من الناس } المعنى هم مؤمنون ساجدون ، ثم قال { وكثير حق عليه العذاب } ثم أشار الى هذين الصنفين بقوله { هذان خصمان } والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعداواة والجدال والحرب ، وقوله تعالى : { خصمان } يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله { اختصموا } فإنها قراءة الجمهور ، وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما في ربهم » وقوله { في ربهم } معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده ، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته ، ثم بين حكمي الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم ، و { قطعت } معناه جعلت لهم بتقدير ، كما يفصل الثوب ، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي ، وروي في صب { الحميم } وهو الماء المغلي أنه تضرب رؤوسهم ب «المقامع » فتنكشف أدمغتهم فيصب { الحميم } حينئذ ، وقيل بل يصب أولاً فيفعل ما وصف ، ثم تضرب ب «المقامع » بعد ذلك ، و { الحميم } الماء المغلي .


[8330]:في أسباب النزول للنيسابوري عن قيس بن عبادة قال: سمعت أبا ذر يقول: أقسم بالله لنزلت {هذان خصمان اختصموا في ربهم} في هؤلاء الستة: حمزة، عبيدة، وعلي بن أبي طالب، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة. ثم قال: رواه البخاري عن حجاج ابن منهال، عن هشيم بن هاشم. وفي الدر المنثور: "أخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه كان يقسم أن هذه الآية... الخ الحديث".
[8331]:أخرجه ابن أبي شيبة، والبخاري، والنسائي، وابن جرير، والبيهقي، من طريق قيس بن عبادة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة { هذان خصمان } موقع الاستئناف البياني . لأن قوله { وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى ، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك ، فهي استئناف بياني . فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى : { وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله : { وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] من كون أولئك فريقين : فريق يسجد لله تعالى ، وفريق يسجد لغيره . فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين ، ومثلها كثير في الكلام .

والاختصام : افتعال من الخصومة ، وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال : خاصمه واختصما ، وهو من الأفعال المقتضية جَانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحداً . وتقدم قوله تعالى : { ولا تكن للخائنين خصيماً } في [ سورة النساء : 105 ] . واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاءَ جلبتُه ، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيداً للتفصيل في قوله { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } .

فالمراد من هذه الآية ما يعمّ جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدّين .

ووقع في « الصحيحين » عن أبي ذرّ : أنه كان يُقسِم أنَّ هذه الآية { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في حمزة وصاحبيه عليّ بن أبي طالب وعتبةَ بن الحارث الذين بارزوا يوم بدر شَيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليدَ بن عتبة .

وفي « صحيح البخاري » عن علي بن أبي طالب قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة . قال قيس بن عُبادة : وفيهم نزلت { هذان خصمان اختصموا في ربهم } . قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي ، وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة . وليس في كلام عليّ أنّ الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عُبادة ، وعليه فهذه الآية مدنيّة فتكون { هذان } إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنُزّل حضورُ قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد ، وهو استعمال في كلام البُلغاء ، ومنه قول الأحنف بن قيس : « خرجتُ لأنصر هذا الرجل » يريد عليّ بن أبي طالب في قصة صفّين .

والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم ، فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية .

ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين . والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازاً مرسلاً لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة .

واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتحدت خصومتهم كما في قوله تعالى : { وهل أتاك نبأ الخصم إذا تسوروا المحراب } [ ص : 21 ] فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى : { اختصموا في ربهم } .

ومعنى { في ربهم } في شأنه وصفاته ، فالكلام على حذف مضاف ظاهر . وقرأ الجمهور { هاذان } بتخفيف النون . وقرأه ابن كثير بتشديد النون وهما لغتان .

والتقطيع : مبالغة القطع ، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته . والمراد : قطع شُقّة الثوب . وذلك أنّ الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده ، فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار . والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة .

والحميم : الماء الشديد الحرارة .