قوله تعالى : { ترجي } أي : تؤخر ، { من تشاء منهن وتؤوي } أي : تضم ، { إليك من تشاء } اختلف المفسرون في معنى الآية : فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن ، وذلك أن التسوية بينهن في القسم كان واجبة عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن . قال أبو رزين ، وابن زيد : نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة النفقة ، فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً حتى نزلت آية التخيير ، فأمره الله عز وجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة ، وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، على أنهن أمهات المؤمنين ولا ينكحن أبداً ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ، ويرجي من يشاء ، فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم ، أو قسم لبعضهن دون بعض ، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة ، فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء ، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط . واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن عن القسم ؟ فقال بعضهم : لم يخرج أحداً ، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما جعله الله له من ذلك يسوي بينهن في القسم إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم ، وجعلت يومها لعائشة . وقيل : أخرج بعضهن . روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال : لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقن ، فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا ، فنزلت هذه الآية ، فأرجى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن وآوى إليه بعضهن ، وكان ممن آوى إليه : عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، فكان يقسم بينهن سواء ، وأرجى منهن خمساً : أم حبيبة ، وميمونة ، وسودة ، وصفية وجويرية ، فكان يقسم لهن ما شاء . وقال مجاهد : ترجي من تشاء منهن يعني : تعزل من تشاء منهن بغير طلاق ، وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد . وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء . وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء أمتك . وقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن سلام ، أنبأنا ابن فضيل ، أنبأنا هشام عن أبيه قال : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل ؟ فلما نزلت : { ترجي من تشاء منهن } قلت : يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . قوله عز وجل : { ومن ابتغيت ممن عزلت } أي : طلبت وأردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسم ، { فلا جناح عليك } لا إثم عليك ، فأباح الله له ترك القسم لهن حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها ، ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلاً له على سائر الرجال ، { ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن } أي : التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله عز وجل ، { ويرضين بما آتيتهن } أعطيتهن ، { كلهن } من تقرير وإرجاء وعزل وإيواء ، { والله يعلم ما في قلوبكم } من أمر النساء والميل إلى بعضهن ، { وكان الله عليماً حليماً } .
ثم ترك الخيار له [ صلى الله عليه وسلم ] في أن يضم إلى عصمته من شاء ممن يعرضن أنفسهن عليه ، أو يؤجل ذلك . ومن أرجأهن فله أن يعود إليهن حين يشاء . . وله أن يباشر من نسائه من يريد ويرجئ من يريد . ثم يعود . . ( ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ) . . فهي مراعاة الظروف الخاصة المحيطة بشخص الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والرغبات الموجهة إليه ، والحرص على شرف الاتصال به ، مما يعلمه الله ويدبره بعلمه وحلمه . ( والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما ) .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بشر{[35]} ، حدثنا هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه{[36]} عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أنها كانت تُعَيِّر{[37]} النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فأنزل الله ، عز وجل : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، قالت : إني أرَى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك{[38]} .
وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبى أسامة ، عن هشام بن عُرْوَة ، فدل هذا على أن المراد بقوله : { تُرْجِي } أي : تؤخر { مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } أي : من الواهبات [ أنفسهن ]{[39]} { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : مَنْ شئت قبلتها ، ومَنْ شئت رددتها ، ومَنْ رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك ، إن شئت عُدْتَ فيها فآويتها ؛ ولهذا قال : { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } . قال عامر الشعبي في قوله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } : كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم يُنْكحن بعده ، منهن أم شريك .
وقال آخرون : بل المراد بقوله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : من أزواجك ، لا حرج عليك أن تترك القَسْم لهن ، فتقدم من شئت ، وتؤخر من شئت ، وتجامع من شئت ، وتترك من شئت .
هكذا يروى عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وأبي رَزين ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم ، ومع هذا كان ، صلوات الله وسلامه عليه ، يقسم لهن ؛ ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبا عليه ، صلوات الله وسلامه عليه ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة .
وقال{[40]} البخاري : حدثنا حبّان بن موسى ، حدثنا عبد الله - هو ابن المبارك - أخبرنا عاصم الأحول ، عن مُعَاذة{[41]} عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، فقلت لها : ما كنت تقولين ؟ فقالت : كنت أقول : إن كان ذاك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا{[42]} .
فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من{[43]} ذلك عدم وجوب القسم ، وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات ، ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده ، أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم . وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي ، وفيه جمع بين الأحاديث ؛ ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي : إذا علمن أن الله قد وضع عنك{[44]} الحَرَج في القسم ، فإن شئت قسمت ، وإن شئت لم تقسم ، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت ، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارا منك لا أنه على سبيل الوجوب ، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك ، واعترفن بمنتك{[45]} عليهن في قسمك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن .
وقوله : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : من الميل إلى بعضهن دون بعض ، مما لا يمكن دفعه ، كما قال{[46]} الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : " اللهم هذا فعلي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " .
ورواه أهل السنن الأربعة ، من حديث حماد بن سلمة -{[47]} وزاد أبو داود بعد قوله : فلا تلمني {[48]} فيما تملك ولا أملك : يعني القلب . وإسناده صحيح ، ورجاله كلهم ثقات . ولهذا عقب ذلك بقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } أي : بضمائر السرائر ، { حَلِيمًا } أي : يحلم ويغفر .
{ ترجى } معناه تؤخر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم{[9547]} «ترجيء » بالهمز ، وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «ترجي » بغير همز وهما لغتان بمعنى ، { وتؤوي } معناه تضم وتقرب وقال المبرد هو معدى رجى يرجو تقول : رجى الرجل وأرجيته جعلته ذا رجاء ، ومعنى هذه الآية أن الله فسح لنبيه فيما يفعله في جهة النساء ، والضمير في { منهن } عائد على من تقدم ذكره من الأصناف حسب الخلاف المذكور في ذلك ، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني ، منها أن معناه في القسم أن تقرب من شئت في القسمة لها من نفسك ، وتؤخر عنك من شئت ، وتكثر لمن شئت ، وتقل من شئت ، لا حرج عليك في ذلك ، فإذا علمن هن أن هذا هو حكم الله تعالى لك وقضاؤه زالت الأنفة والتغاير عنهن ورضين وقرت أعينهن وهذا تأويل مجاهد وقتادة والضحاك .
قال الفقيه الإمام القاضي : لأن سبب هذه الآيات إنما كان تغايراً وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عليه فشقي بذلك ، ففسح الله له وأنبهن بهذه الآيات ، وقال أبو رزين وابن عباس المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته وإمساك من شاء ، قال أبو زيد : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له أقسم لنا ما شئت فكان ممن أرجى سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة وآوى إليه عائشة وأم سلمة وحفصة وزينب وقال الحسن بن أبي الحسن المعنى في تزويج من شاء من النساء وترك من شاء ، وقالت فرقة المعنى في ضم من شاء من الواهبات وتأخير من شاء .
قال القاضي أبو محمد : وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة له ، قالت عائشة : لما قرأ عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك{[9548]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : وذهبت هبة الله في الناسخ والمنسوخ له إلى أن قوله { ترجي من تشاء } الآية ناسخ لقوله { لا يحل لك النساء من بعد } الآية ، وقال ليس في كتاب الله تعالى ناسخ تقدم المنسوخ إلا هذا .
قال الفقيه الإمام القاضي : وكلامه يضعف من جهات{[9547]} .
وقوله عز وجل { ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } يحتمل معاني : أحدها أن تكون { من } للتبعيض ، أي من إرادته وطلبته نفسه ممن قد كنت عزلته فلا جناح عليك في رده إلى نفسك وإيوائه إليه بعد عزلته ، ووجه ثان وهو أن يكون مقوياً ومؤكداً لقوله { ترجى من تشاء وتؤوي من تشاء } فيقول بعد { ومن ابتغيت ممن عزلت } فذلك سواء { فلا جناح عليك } في جمعه ، وهذا كما تقول من لقيك ممن لم يلقك جميعهم لك شاكر وأنت تريد من لقيك ومن لم يلقك ، وهذا المعنى يصح أن يكون في معنى القسم ، ويصح أن يكون في الطلاق والإمساك وفي الواهبات ، وبكل واحد قالت فرقة : وقرأ جمهور الناس «ذلك أدنى أن تقر أعينُهن » برفع «الأعين » ، وقرأ ابن محيصن «أن تُقر أعينَهن » بضم التاء ونصب «الأعين » ، وقوله { بما آتيتهن } أي من نفسك ومالك ، وقرأ جمهور الناس «كلُّهن » بالرفع على التأكيد للضمير في { يرضين } ولم يجوز الطبري غير هذا ، وقرأ جويرية بن عابد{[9548]} بالنصب على التأكيد في { آتيتهن } .
قال الفقيه الإمام القاضي : والمعنى أنهن يسلمن لله ولحكمه وكن قبل لا يتسامحن بينهن للغيرة ولا يسلمن للنبي صلى الله عليه وسلم أنفة ، نحا إلى هذا المعنى ابن زيد وقتادة ، وقوله تعالى : { والله يعلم ما في قلوبكم } خبر عام ، والإشارة به هنا إلى ما كان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ، وكذلك يدخل في المعنى أيضاً المؤمنون . وقوله { حليماً } صفة تقتضي صفحاً وتأنيساً في هذا المعنى ، إذ هي خواطر وفكر لا يملكها الإنسان في الأغلب ، واتفقت الروايات على أنه عليه السلام عدل بينهن في القسمة حتى مات ولم يمتثل ما أبيح له ضبطاً لنفسه وأخذاً بالفضل ، غير أن سودة وهبت نوبتها لعائشة تقمناً لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،