187- يسألك اليهود - يا محمد - عن الساعة التي تنتهي فيها هذه الدنيا ، في أي وقت تكون ويستقر العلم بها ؟ قل لهم : علم وقتها عند ربى - وحده - لا يظهرها في وقتها أحد سواه . قد عظم هولها عندما تقع إلى أهل السماوات والأرض . يسألونك هذا السؤال ، كأنك حريص على العلم بها . فكرر الجواب ، فقل لهم مؤكدا : إن علمها عند اللَّه ، ولكن أكثر الناس لا يدركون الحقائق التي تغيب عنهم ، أو التي تظهر لهم ! .
قوله تعالى : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } قال قتادة : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة ؟ فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الساعة } يعني : القيامة ، { أيان مرساها } قال ابن عباس رضي الله عنهما : منتهاها ، وقال قتادة : قيامها ، وأصله الثبات ، أي : متى مثبتها ؟
قوله تعالى : { إنما علمها عند ربي } استأثر بعلمها ولا يعلمها إلا هو .
قوله تعالى : { لا يجليها } لا يكشفها ، ولا يظهرها ، وقال مجاهد : لا يأتي بها .
قوله تعالى : { لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض } . يعني : ثقل علمها ، وخفي أمرها على أهل السموات والأرض . وكل خفي ثقيل ، قال الحسن : يقول إذا جاء ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض .
قوله تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتةً } ، فجأة على غفلة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ) .
قوله تعالى : { يسألونك كأنك حفي عنها } ، فيه تقديم وتأخير ، أي : عالم بها ، من قولهم : أحفيت في المسألة ، أي : بالغت فيها ، معناها : كأنك بالغت في السؤال عنها حتى علمتها .
قوله تعالى : { قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . أن علمها عند الله ، حتى سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم عنها .
هؤلاء الغافلون عما حولهم ، العميُ عما يحيط بهم . . يسألون الرسول [ ص ] عن الساعة البعيدة المغيبة في المجهول . كالذي لا يرى ما تحت قدميه ويريد أن يرى ما في الأفق البعيد !
( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة . يسألونك كأنك حفي عنها ! قل : إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . قل : لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله . ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) . .
لقد كانت عقيدة الآخرة ، وما فيها من حساب وجزاء ، تفاجىء المشركين في الجزيرة مفاجأة كاملة . . ومع أن هذه العقيدة أصيلة في دين إبراهيم - عليه السلام - وهو جد هؤلاء المشركين ؛ وفي دين إسماعيل أبيهم الكريم ؛ إلا أنه كان قد طال عليهم الأمد ، وبعد ما بينهم وبين أصول الإسلام الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل . حتى لقد اندثرت عقيدة الآخرة تماماً من تصوراتهم ؛ فكانت أغرب شيء عليهم وأبعده عن تصورهم . حتى لقد كانوا يعجبون ويعجبون من رسول الله [ ص ] لأنه يحدثهم عن الحياة بعد الموت ؛ وعن البعث والنشور والحساب والجزاء ؛ كما حكى عنهم القرآن الكريم في السورة الأخرى : وقال الذين كفروا : هل ندلكم على رجل ينبئكم ، إذا مزقتم كل ممزق ، إنكم لفي خلق جديد ؟ أفترى على الله كذباً ؟ أم به جنة ؟ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد . . [ سبأ : 7 - 8 ] .
ولقد علم الله أن أمة من الأمم لا تملك أن تقود البشرية وتشهد عليها - كما هي وظيفة الأمة المسلمة - إلا أن تكون عقيدة الآخرة واضحة لها راسخة في ضميرها . . فتصور الحياة على أنها هذه الفترة المحدودة بحدود هذه الحياة الدنيا ، وحدود هذه الأرض الصغيرة ، لا يمكن أن ينشىء أمة هذه صفتها وهذه وظيفتها !
إن العقيدة في الآخرة فسحة في التصور ، وسعة في النفس ، وامتداد في الحياة ضروري في تكوين النفس البشرية ذاتها ، لتصلح أن تناط بها تلك الوظيفة الكبيرة . . كذلك هي ضرورية لضبط النفس عن شهواتها الصغيرة ومطامعها المحدودة ؛ ولفسحة مجال الحركة حتى لا تيئسها النتائج القريبة ولا تقعدها التضحيات الأليمة ، عن المضي في التبشير بالخير ، وفعل الخير والقيادة إلى الخير ، على الرغم من النتائج القريبة ، والتضحيات الأليمة . . وهي صفات ومشاعر ضرورية كذلك للنهوض بتلك الوظيفة الكبيرة . .
والاعتقاد في الآخرة مفرق طريق بين فسحة الرؤية والتصور في نفس " الإنسان " ، وضيق الرؤية واحتباسها في حدود الحس في إدراك " الحيوان " ! وما يصلح إدراك الحيوان لقيادة البشرية ، والقيام بأمانة الله في الخلافة الراشدة !
لذلك كله كان التوكيد شديداً على عقيدة الآخرة في دين الله كله . . ثم بلغت صورة الآخرة في هذا الدين الأخير غايتها من السعة والعمق والوضوح . . حتى بات عالم الآخرة في حس الأمة المسلمة أثبت وأوضح وأعمق من عالم الدنيا الذي يعيشونه فعلاً . . وبهذا صلحت هذه الأمة لقيادة البشرية ، تلك القيادة الراشدة التي وعاها التاريخ الإنساني !
ونحن في هذا الموضع من سياق سورة الأعراف أمام صورة من صور الاستغراب والاستنكار الذي يواجه به المشركون عقيدة الآخرة ، تبدو في سؤالهم عن الساعة سؤال الساخر المستنكر المستهتر :
( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ )
إن الساعة غيب ، من الغيب الذي استأثر الله بعلمه ، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه . . ولكن المشركينيسألون الرسول عنها . . إما سؤال المختبر الممتحن ! وإما سؤال المتعجب المستغرب ! وإما سؤال المستهين المستهتر ! ( أيان مرساها ؟ ) أي متى موعدها الذي إليه تستقر وترسو ؟ !
والرسول [ ص ] بشر لا يدعي علم الغيب ، مأمور أن يكل الغيب إلى صاحبه ، وأن يعلمهم أنها من خصائص الألوهية ، وأنه هو بشر لا يدعي شيئاً خارج بشريته ولا يتعدى حدودها ، إنما يعلمه ربه ويوحي إليه ما يشاء :
( قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ) .
فهو - سبحانه - مختص بعلمها ، وهو لا يكشف عنها إلا في حينها ، ولا يكشف غيره عنها .
ثم يلفتهم عن السؤال هكذا عن موعدها ، إلى الاهتمام بطبيعتها وحقيقتها ، وإلى الشعور بهولها وضخامتها . . . ألا وإن أمرها لعظيم ، ألا وإن عبئها لثقيل . ألا وإنها لتثقل في السماوات والأرضين . وهي - بعد ذلك - لا تأتي إلا بغتة والغافلون عنها غافلون :
( ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة ) . .
فأولى أن ينصرف الاهتمام للتهيؤ لها والاستعداد قبل أن تأتي بغتة ؛ فلا ينفع معها الحذر ، ولا تجدي عندها الحيطة ، ما لم يأخذوا حذرهم قبلها ، وما لم يستعدوا لها ، وفي الوقت متسع وفي العمر بقية . وما يدري أحد متى تجيء ، فأولى أن يبادر اللحظة ويسارع ، وألا يضيع بعد ساعة ، قد تفجؤه بعدها الساعة !
ثم يعجب من أمر هؤلاء الذين يسألون الرسول [ ص ] عن الساعة . . إنهم لا يدركون طبيعة الرسالة وحقيقة الرسول ؛ ولا يعرفون حقيقة الألوهية ، وأدب الرسول في جانب ربه العظيم .
أي كأنك دائم السؤال عنها ! مكلف أن تكشف عن موعدها ! ورسول الله [ ص ] لا يسأل ربه علم ما يعلم هو أنه مختص بعلمه :
( قل : إنما علمها عند الله ) . .
قد اختص سبحانه به ؛ ولم يطلع عليه أحداً من خلقه .
( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
وليس الأمر أمر الساعة وحده . إنما هو أمر الغيب كله فلله وحده علم هذا الغيب . لا يطلع على شيء منه إلا من شاء ، بالقدر الذي يشاء ، في الوقت الذي يشاء . . لذلك لا يملك العباد لأنفسهم نفعاً ولا ضراً . . فقد يفعلون الأمر يريدون به جلب الخير لأنفسهم ، ولكن عاقبته تكون هي الضر لهم . وقد يفعلون الأمر يريدون به رفع الضر عنهم ، ولكن عاقبته المغيبة تجره عليهم ! وقد يفعلون الأمر يكرهونه فإذا عاقبته هي الخير ؛ ويفعلون الأمر يحبونه فإذا عاقبته هي الضر : ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ) . .
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ! % ومن أين والغايات بعد المذاهب
إنما يمثل موقف البشرية أمام الغيب المجهول . ومهما يعلم الإنسان ومهما يتعلم ، فإن موقفه أمام باب الغيب الموصد ، وأمام ستر الغيب المسدل ، سيظل يذكره ببشريته المحجوبة أمام عالم الغيب المحجوب .
يقول تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ } كما قال تعالى : { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ } [ الأحزاب : 63 ] قيل : نزلت في قريش . وقيل : في نفر من اليهود . والأول أشبه ؛ لأن الآية مكية ، وكانوا يسألون عن وقت الساعة ، استبعادًا لوقوعها ، وتكذيبًا بوجودها ؛ كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الأنبياء : 38 ] ، وقال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } [ الشورى : 18 ]
وقوله : { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " منتهاها " أي : متى محطها ؟ وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة ؟
{ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ } أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن وقت الساعة ، أن يرُدَّ علمها إلى الله تعالى ؛ فإنه هو الذي يجليها لوقتها ، أي : يعلم جلية أمرها ، ومتى يكون على التحديد ، [ أي ]{[12445]} لا يعلم ذلك [ أحد ]{[12446]} إلا هو تعالى ؛ ولهذا قال : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ }
قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال : ثقل علمها على أهل السماوات والأرض أنهم لا يعلمون . قال معمر : قال الحسن : إذا جاءت ، ثقلت على أهل السماوات والأرض ، يقول : كَبُرَت عليهم .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال : ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة .
وقال ابن جُرَيْج : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال : إذا جاءت انشقت السماء{[12447]} وانتثرت النجوم ، وكورت الشمس ، وسيرت الجبال ، وكان ما قاله الله ، عز وجل{[12448]} فذلك ثقلها .
واختار ابن جرير ، رحمه الله : أن المراد : ثَقُلَ علم وقتها على أهل السماوات والأرض ، كما قال{[12449]} قتادة .
وهو كما قالاه ، كقوله تعالى : { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السماوات والأرض ، والله أعلم .
وقال السدي [ في قوله تعالى ]{[12450]} { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } يقول : خفيت في السماوات والأرض ، فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل .
{ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } [ قال ]{[12451]} يبغتهم قيامها ، تأتيهم على غفلة .
وقال قتادة في قوله تعالى : { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } قضى الله أنها { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال{[12452]} " إن الساعة تهيج بالناس ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه " {[12453]}
وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما{[12454]} بينهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه . ولتقومَنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقْحَته فلا يَطْعَمُه . ولتقومَنّ الساعة وهو يَلِيط حوضه فلا يسقي فيه . ولتقومَنّ الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " {[12455]}
وقال مسلم في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تقوم الساعة والرجل يحلب اللِّقْحَة ، فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة . والرجلان{[12456]} يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم . والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم " {[12457]}
وقوله [ تعالى ]{[12458]} { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } اختلف المفسرون في معناه ، فقيل : معناه : كما قال{[12459]} العوفي عن ابن عباس : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } يقول : كأن بينك وبينهم مودة ، كأنك صديق لهم . قال ابن عباس : لما سأل الناس محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم ، فأوحى الله إليه : إنما علمها عنده ، استأثر بعلمها ، فلم يطلع الله عليها ملكًا مقربًا ولا رسولا .
وقال قتادة : قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن بيننا وبينك قرابة ، فأسرّ إلينا متى الساعة . فقال الله ، عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا }
وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وأبي مالك ، والسُّدِّي ، وهذا قول . والصحيح عن مجاهد - من رواية ابن أبي نَجِيح وغيره - : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } قال : استَحْفَيت عنها السؤال ، حتى علمت وقتها .
وكذا قال الضحاك ، عن ابن عباس : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } يقول : كأنك عالم بها ، لست تعلمها ، { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ }
وقال معمر ، عن بعضهم : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } كأنك عالم بها .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } كأنك عالم بها ، وقد أخفى الله علمها على خلقه ، وقرأ : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية [ لقمان : 34 ] .
ولهذا القول أرجح في المعنى من الأول ، والله أعلم ؛ ولهذا قال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
ولهذا لما جاء جبريل ، عليه السلام ، في صورة أعرابي ، يعلم الناس أمر دينهم ، فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد ، وسأله عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، ثم قال : فمتى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " أي : لست أعلم بها منك ولا أحد أعلم بها من أحد ، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية{[12460]}
وفي رواية : فسأله عن أشراط الساعة ، ثم قال : " في خمس لا يعلمهن إلا الله " . وقرأ هذه الآية ، وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب : " صدقت " ؛ ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه ، ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم{[12461]} دينكم " {[12462]}
وفي رواية قال : " وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها ، إلا صورته هذه " .
وقد ذكرت هذا الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد ، في أول شرح صحيح البخاري ، ولله الحمد والمنة{[12463]}
ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال : يا محمد ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هاء{[12464]} - على نحو من صوته - قال : يا محمد ، متى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويحك إن الساعة آتية ، فما أعددت لها ؟ " قال : ما أعددت لها كبير{[12465]} صلاة ولا صيام ، ولكني أحب الله ورسوله . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المرء مع من أحب " . فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث{[12466]}
وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال : " المرء مع من أحب " {[12467]} وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين .
ففيه أنه ، عليه السلام ، كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه ، أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم ، وهو الاستعداد لوقوع ذلك ، والتهيؤ له قبل نزوله ، وإن لم يعرفوا تعيين وقته .
ولهذا قال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سألوه عن الساعة : متى الساعة ؟ فنظر{[12468]} إلى أحدث إنسان{[12469]} منهم فقال : " إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم " {[12470]} يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة .
ثم قال مسلم : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يونس بن محمد ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يعش هذا الغلام فعسى ألا يدركه الهَرَم حتى تقوم الساعة " . انفرد به مسلم{[12471]}
وحدثنا حجاج بن الشاعر ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا معبد بن هلال العنزي{[12472]} عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ؛ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : متى الساعة ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هُنَيهة ، ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة ، فقال : " إن عُمِّرَ هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة " - قال أنس : ذلك الغلام من أترابي{[12473]}
وقال : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن أنس قال : مر غلام للمغيرة بن شعبة - وكان من أقراني{[12474]} - فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة " {[12475]}
ورواه البخاري في كتاب " الأدب " من صحيحه ، عن عمرو بن عاصم ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس ؛ أن رجلا من أهل البادية قال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ فذكر الحديث ، وفي آخره : " فمر غلام للمغيرة بن شعبة " ، وذكره{[12476]}
وهذا الإطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد ب " ساعتكم " في حديث عائشة ، رضي الله عنها .
وقال ابن جُرَيْج : أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل{[12477]} أن يموت بشهر ، قال : " تسألوني عن الساعة ، وإنما علمها عند الله . وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة ، تأتي عليها مائة سنة " رواه مسلم{[12478]}
وفي الصحيحين ، عن ابن عمر مثله ، قال ابن عمر : وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، أنبأنا العوام ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر بن عَفَازة{[12479]} عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، عن رسول الله{[12480]} صلى الله عليه وسلم قال : " لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى " ، قال : " فتذاكروا أمر الساعة " ، قال : " فردوا أمرهم إلى إبراهيم ، عليه السلام ، فقال : لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال : لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى عيسى ، فقال عيسى : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، عز وجل ، وفيما عهد إليَّ ربي ، عز وجل ، أن الدجال خارج " ، قال : " ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص " ، قال : " فيهلكه الله ، عز وجل ، إذا رآني ، حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم ، إن تحتي كافرًا تعالى فاقتله " . قال : " فيهلكهم الله ، عز وجل ، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم " ، قال : " فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، فيطئون بلادهم ، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه " ، قال : " ثم يرجع الناس إليَّ فيشكونهم ، فأدعو{[12481]} الله ، عز وجل ، عليهم فيهلكهم ويميتهم ، حتى تَجْوَى الأرض من نتن ريحهم - أي : تُنْتِن - " قال : " فينزل الله المطر ، فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في{[12482]} البحر " .
قال أحمد : قال يزيد بن هارون : ثم تنسف الجبال ، وتمد الأرض مد الأديم - ثم رجع إلى حديث هشيم قال : ففيما عهد إلي ربي ، عز وجل ، أن ذلك إذا كان كذلك ، فإن{[12483]} الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها{[12484]} ليلا أو نهارا{[12485]}
ورواه ابن ماجه ، عن بُنْدَار عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حَوْشَب بسنده ، نحوه{[12486]}
فهؤلاء أكابر أولي العزم من المرسلين ، ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين ، وإنما ردوا الأمر إلى عيسى عليه السلام ، فتكلم على أشراطها ؛ لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذًا لأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقتل المسيح الدجال ، ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه ، فأخبر بما أعلمه الله تعالى به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر{[12487]} حدثنا عُبيد الله بن إياد بن لَقِيط{[12488]} قال : سمعت أبي يذكر عن حذيفة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال : " علمها عند ربي لا يُجَلِّيها لوقتها إلا هو ، ولكن سأخبركم{[12489]} بمشاريطها ، وما يكون بين يديها : إن بين يديها فتنة وهرجًا " ، قالوا : يا رسول الله ، الفتنة قد عرفناها ، فالهرج ما هو ؟ قال بلسان الحبشة : " القتل " . قال{[12490]} وَيُلقَى بين الناس التَّنَاكرُ ، فلا يكاد أحد يعرف أحدًا " {[12491]} لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه .
وقال وَكِيع : حدثنا ابن أبي خالد ، عن طارق بن شهاب ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن{[12492]} الساعة حتى نزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } الآية [ النازعات : 42 ] .
ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به{[12493]} وهذا إسناد جيد قوي .
فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم [ محمد ]{[12494]} صلوات الله عليه وسلامه{[12495]} نبي الرحمة ، ونبي التوبة ، ونبي الملحمة ، والعاقب والمُقَفَّي ، والحاشر الذي تحشر{[12496]} الناس على قدميه ، مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد ، رضي الله عنهما : " بعثت أنا والساعة كهاتين " {[12497]} وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها . ومع هذا كله ، قد أمره الله تعالى أن يَرُد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
وقوله تعالى : { يسألونك عن الساعة } الآية ، قال قتادة بن دعامة المراد يسألونك كفار قريش ، وذلك أن قريشاً قالت يا محمد إنّا قرابتك فأخبرنا بوقت الساعة ، قال ابن عباس : المراد بالآية اليهود ، وذلك أن جبل بن أبي قشير وسمويل بن زيد قالا له إن كنت نبياً فأخبرنا بوقت الساعة فإنّا نعرفها فإن صدقت آمنا بك ، والساعة القيامة موت كل شيء كان حينئذ حياً وبعث الجميع ، هو كله يقع عليه اسم الساعة واسم القيامة ، و { أيان } معناه متى وهو سؤال عن زمان ولتضمنها الوقت بنيت ، وقرأ جمهور الناس «أيان » بفتح الهمزة ، وقرأ السلمي «إيان » بكسر الهمزة ، ويشبه أن يكون أصلها أي آن وهي مبنية على الفتح ، وقال الشاعر : [ الرجز ]
أيان يقضي حاجتي أيانا*** أما ترى لفعلها إبانا
قال أبو الفتح وزن «أيان » بفتح الهمزة فَعلان وبكسرها فِعلان ، والنون فيهما زائدة ، و { مرساها } رفع بالابتداء والخبر ، { أيان } ومذهب المبرد أن { مرساها } مرتفع بإضمار فعل ومعناه مثبتها ومنتهاها ، مأخوذة من أرسى يرسي ، ثم أمر الله عز وجل بالرد إليه والتسليم لعلمه ، و { يجليها } معناه يظهرها والجلاء البينة الشهود وهو مراد زهير بقوله : [ الوافر ] .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . يمين أو نفار أو جلاء
وقوله : { ثقلت في السماوات والأرض } قال السدي ومعمر عن بعض أهل التأويل : معناه ثقل أن تعلم ويوقف على حقيقة وقتها ، قال الحسن بن أبي الحسن معناه ثقلت هيئتها والفزع منها على أهل السماوات والأرض ، كما تقول خيف العدو في بلد كذا وكذا ، وقال قتادة وابن جريج : معناه ثقلت على السماوات والأرض أنفسها لتفطر السماوات وتبدل الأرض ونسف الجبال ، ثم أخبر تعالى خبراً يدخل فيه الكل أنها لا تأتي إلا بغتة أي فجأة دون أن يتقدم منها علم بوقتها عند أحد من الناس ، و { بغتة } مصدر في موضع الحال .
وقوله تعالى : { يسألونك كأنك حفيّ عنها } الآية ، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد : المعنى يسألونك عنها كأنك حفي أي متحف ومهتبل ، وهذا ينحو إلى ما قالت قريش إنّا قرابتك فأخبرنا ، وقال مجاهد أيضاً والضحاك وابن زيد : معناه كأنك حفي في المسألة عنها والاشتغال بها حتى حصلت علمها ، وقرأ ابن عباس فيما ذكر أبو حاتم «كأنك حفي بها » ، لأن حفي معناه مهتبل مجتهد في السؤال مبالغ في الإقبال على ما يسأل عنه ، وقد يجيء { حفي } وصفاً للسؤال ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فلمّا التقينا بَّين السيف بيننا*** لسائلة عنا حفي سؤالها
ومن المعنى الأول الذي يجيء فيه { حفي } وصفاً لسائل قول الآخر : [ الطويل ]
سؤال حفي عن أخي كأنه*** بُذكرته وْسنان أو متواسن
ثم أمره ثانية بأن يسلم العلم تأكيداً للأمر وتهمماً به إذ هو من الغيوب الخمسة التي في قوله عز وجل : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث } ، وقيل العلم الأول علم قيامها والثاني علم كنهها وحالها ، وقوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } قال الطبري : معناه لا يعلمون أن هذا الأمر لا يعلمه إلا الله بل يظن أكثرهم أنه مما يعلم البشر .