الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّيۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقۡتِهَآ إِلَّا هُوَۚ ثَقُلَتۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا تَأۡتِيكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةٗۗ يَسۡـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (187)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{يسألونك عن الساعة}، وذلك أن كفار قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، {أيان مرساها}، يعني متى حينها، {قل} لهم: {إنما علمها عند ربي}، وما لي بها من علم، {لا يجليها لوقتها}، يعني لا يكشفها، {إلا هو} إذا جاءت، ثم أخبر عن شأنها، فقال: {ثقلت في السماوات والأرض}، يقول: ثقل على من فيهما علمها، {لا تأتيكم إلا بغتة}، يعني فجأة، ثم قال: {يسألونك} عنها في التقديم، {كأنك حفي عنها}، يقول: كأنك قد استحفيت عنها السؤال حتى علمتها، {قل}: وما لي بها من علم، {إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، يعني أكثر أهل مكة لا يعلمون أنها كائنة...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في الذين عنُوا بقوله:"يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ"؛

فقال بعضهم: عني بذلك قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قُريش، وكانوا سألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم...

وقال آخرون: بل عني به قوم من اليهود...

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قوما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فأنزل الله هذه الآية، وجائز أن يكون كانوا من قريش، وجائز أن يكونوا كانوا من اليهود ولا خبر بذلك عندنا يجوّز قطع القول على أيّ ذلك كان.

فتأويل الآية إذن: يسألك القوم الذين يسألونك عن الساعة "أيّان مرساها"، يقول: متى قيامها. ومعنى «أيّان»: «متى» في كلام العرب... ومعنى قوله: "مُرْساها": قيامها، من قول القائل: أرساها الله فهي مرساة، وأرساها القوم: إذا حبسوها...

وقال آخرون: معنى ذلك: منتهاها. وذلك قريب المعنى من معنى من قال: معناه: قيامها، لأن انتهاءها: بلوغها وقتها. وقد بيّنا أن أصل ذلك الحبس والوقوف...

وأما قوله: "قُلْ إنّما عِلْمُها عِنْد ربّي لا يُجَلّيها لِوقْتِها إلاّ هُو "فإنه أمر من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يجيب سائليه عن الساعة بأنه لا يعلم وقت قيامها إلاّ الله الذي يعلم الغيب، وأنه لا يظهرها لوقتها ولا يعلمها غيره جلّ ذكره... عن مجاهد: "لا يُجَلّيها": يأتي بها.

"ثَقُلَتْ في السّمَواتِ والأرْضِ لا تأْتِيكُمْ إلاّ بَغْتَةً".

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ثقلت الساعة على أهل السموات والأرض أن يعرفوا وقتها ومجيئها لخفائها عنهم واستئثار الله بعلمها...فلم يعلم قيامها متى تقوم مَلك مقرّب ولا نبيّ مرسل...

وقال آخرون: معنى ذلك: أنها كبرت عند مجيئها على أهل السموات والأرض... عن ابن جريج: "ثَقُلَتْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ "قال: إذا جاءت انشقّت السماء، وانتثرت النجوم، وكُوّرَت الشمس، وسُيرت الجبال، وكان ما قال الله فذلك ثقلها... عن السديّ، قال: قال بعض الناس في «ثقلت»: عظمت.

وقال آخرون: معنى قوله: "في السّمَوَاتِ والأرْضِ": على السموات والأرض... وأولى ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ثقلت الساعة في السموات والأرض على أهلها أن يعرفوا وقتها وقيامها لأن الله أخفى ذلك عن خلقه، فلم يطلع عليه منهم أحدا. وذلك أن الله أخبر بذلك بعد قوله: "قُلْ إنّمَا عِلْمُها عِنْدَ رَبّي لا يُجَلِيها لِوَقْتِها إلاّ هُوَ" وأخبر بعده أنها لا تأتي إلاّ بغتة، فالذي هو أولى أن يكون ما بين ذلك أيضا خبرا عن خفاء علمها عن الخلق، إذ كان ما قبله وما بعده كذلك.

وأما قوله: "لا تَأْتِيكُمْ إلاّ بَغْتَةً" فإنه يقول: لا تجيء الساعة إلاّ فجأة، لا تشعرون بمجيئها...

"يَسْألُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها قُلْ إنّمَا عِلْمُها عِنْدَ اللّهِ وَلكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ" يقول تعالى ذكره: يسألك هؤلاء القوم عن الساعة، "كأنك حفيّ عنها". فقال بعضهم: يسألونك عنها كأنك حفيّ بهم. وقالوا: معنى قوله: «عنها» التقديم وإن كان مؤخرا... عن ابن عباس، قوله: "يَسْألُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها" يقول: كأن بينك وبينهم مودّة، كأنك صديق لهم. قال ابن عباس: لما سأل الناس محمدا صلى الله عليه وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم، فأوحى الله إليه: إنما علمها عنده، استأثر بعلمها، فلم يُطْلِع عليها ملَكا ولا رسولاً... قال قتادة: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة، فأسرّ إلينا متى الساعة فقال الله: يَسْألُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: كأنك قد استحفيت المسألة عنها فعلمتها... عن الضحاك... قال: كأنك عالم بها...

عن ابن عباس، قوله: "يَسْألُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها" يقول: كأنك يعجبك سؤالهم إياك. "قُلْ إنّمَا عِلْمُها عِنْدَ اللّهَ".

وقوله: كأنّكَ حَفِيّ عَنْها يقول: لطيف بها.

فوجه هؤلاء تأويل قوله: كأنّكَ حَفِيّ عَنْها إلى حفيّ بها، وقالوا: تقول العرب: تحفيت له في المسألة، وتحفيت عنه...

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: كأنك حفيّ بالمسألة عنها فتعلمها.

فإن قال قائل: وكيف قيل: حَفِيّ عَنْها ولم يقل حفيّ بها، إن كان ذلك تأويل الكلام؟ قيل: إن ذلك قيل كذلك، لأن الحفاوة إنما تكون في المسألة، وهي البشاشة للمسؤول عند المسألة، والإكثار من السؤال عنه، والسؤال يوصل ب «عن» مرّة وبالباء مرّة، فيقال: سألت عنه، وسألت به فلما وضع قوله «حفي» موضع السؤال، وصل بأغلب الحرفين اللذين يوصل بهما السؤال، وهو «عن»... وأما قوله: "قُلْ إنّمَا عِلْمُها عِنْدَ اللّهِ" فإن معناه: قل يا محمد لسائليك عن وقت الساعة وحين مجيئها: لا علم لي بذلك، ولا يعلم به إلاّ الله الذي يعلم غيب السموات والأرض. "وَلكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمونَ" يقول: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك لا يعلمه إلاّ الله، بل يحسبون أن علم ذلك يوجد عند بعض خلقه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

السائلُ عن الساعةِ رجلان؛ مُنْكِرٌ يتعجَّبُ لفَرْطِ جهله، وعارِفٌ مشتاقٌ يستعجل لِفَرْطِ شوقه، والمتحقق بوجوده ساكِنٌ في حاله؛ فسيان عنده قيام القيامة ودوام السلامة. ويقال الحق -سبحانه- استأثر بعلم الساعة؛ فلم يُطلِعْ على وقتها نَبيَّا ولا صفيَّا، فالإيمان بها غيبيٌّ، ويقين أهل التوحيد صادق عن شوائب الرِّيب. ثم مُعَجَّل قيامتهم يُوجِبُ الإيمانَ بمؤجَّلها...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

...وسميت القيامة بالساعة، لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...اعلم أن في نظم الآية وجهين: الأول: أنه تعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة والقضاء والقدر أتبعه بالكلام في المعاد، لما بينا أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلا هذه الأربعة. الثاني: أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} باعثا بذلك عن المثابرة إلى التوبة والإصلاح قال بعده: {يسألونك عن الساعة} ليتحقق في القلوب أن وقت الساعة مكتوم عن الخلق، فيصير ذلك حاملا للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الواجبات،...

ثم قال تعالى: {قل إنما علمها عند ربي} أي لا يعلم الوقت الذي فيه يحصل قيام القيامة إلا الله سبحانه ونظيره قوله سبحانه: {إن الله عنده علم الساعة} وقوله: {إن الساعة آتية لا ريب فيها} وقوله: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} ولما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: متى الساعة فقال عليه السلام: (ليس المسؤول عنها بأعلم من السائل) قال المحققون: والسبب في إخفاء الساعة عن العباد؟ أنهم إذا لم يعلموا متى تكون، كانوا على حذر منها، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال: {لا يجليها لوقتها} التجلية إظهار الشيء والتجلي ظهوره، والمعنى: لا يظهرها في وقتها المعين {إلا هو} أي لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإعلام والإخبار إلا هو. ثم قال تعالى: {ثقلت في السموات والأرض} والمراد وصف الساعة بالثقل ونظيره قوله تعالى: {ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} وأيضا وصف الله تعالى زلزلة الساعة بالعظم فقال: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} ووصف عذابها بالشدة فقال: {وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

...

. {يسئلونك} أي مكررين لذلك {عن الساعة} أي عن وقتها سؤال استهزاء {أيان مرساها} أي أيّ وقت ثبات ثقلها واستقراره،... وإنما كان هذا بياناً لعمههم فإنهم وقعوا بذلك في الضلال من وجهين: السؤال عما غيره لهم أهم، وجعله على طريق الاستهزاء مع ما قام عليه من الأدلة، وسيكرره في هذه السورة، وكان اللائق بهم أن يجعلوا بدل السؤال عنها اتقاءها بالأعمال الصالحة. ولما كان السؤال عن الساعة عاماً ثم خاصاً بالسؤال عن وقتها، جاء الجواب عموماً عنها بقوله: {قل إنما علمها} أي علم وقت إرسائها وغيره {عند ربي} أي المحسن إليّ بإقامتها لينعم على من تبعني وينتقم ممن تركني، لم يطلع على ذلك أحداً من خلقه، ولا يقيمها إلا في أحسن الأوقات وأنفعها لي، وإخفاؤها أنفع للخلق لأنه أعظم لشأنها وأهيب، فيكون أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية وأقرب إلى التوبة، ثم خصصت من حيث الوقت بقوله مشيراً إلى أن لها أشراطاً تتقدمها: {لا يجليها} أي يبينها غاية البيان {لوقتها إلا هو}. ولما كان قد أشار إلى ثقل الساعة بالإرساء، وكان الشيء إذا جهل من بعض الوجوه أشكل وإذا أشكل ثقل، قال: {ثقلت} أي الساعة فغاصت إلى حيث لم يتغلغل إليها علم العباد فأهمهم كلهم عليّ شأنها، ولذلك عبر بالظرف فقال: {في السماوات والأرض} أي نسبة أهلهما إلى خفائها والخوف منها على حد سواء لأن مالكها قادر على ما يشاء، وله أن يفعل ما يشاء -ثم قرر خفاءها على الكل فقال: {لا تأتيكم} أي في حالة من الحالات {إلا بغتة} أي على حين غفلة...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

مناسبة هذه الآية لما قبلها أنها إرشاد إلى النظر والتفكر في أمر الساعة التي ينتهي بها أجل جميع الناس، في إثر الإرشاد إلى النظر والتفكر في اقتراب أجل من كانوا في عصر التنزيل وعهد نزول هذه السورة منهم، وبعبارة أخرى أنها كلام في الساعة العامة، بعد الكلام في الساعة الخاصة...

والغالب في استعمال القرآن التعبير بيوم القيامة عن يوم البعث والحشر الذي يكون بعد الموت الذي يكون فيه الحساب وما يتلوه من الجزاء- والتعبير بالساعة عن الوقت الذي يموت فيه الأحياء في هذا العالم ويضطرب نظامه ويخرب بما يكون فيه من الأهوال يتلو بعضها بعضا، فالساعة هي المبدأ والقيامة هي الغاية، ففي الأولى الموت والهلاك، وفي الآخرة البعث والجزاء. وبعض التعبيرات في كل منهما يحتمل حلوله محل الآخر في الغالب، وفي المعنى المشترك الذي يعم المبدأ والغاية...

قال الداوودي هذا الجواب من معاريض الكلام فإنه لو قال لهم. لا أدري- ابتداء مع ما هم فيه من الجفاء وقبل تمكن الإيمان في قلوبهم- لارتابوا فعدل إلى إعلامهم بالوقت الذي ينقرضون هم فيه. وقال الكرماني إن هذا الجواب من الأسلوب الحكيم، أي دعوا السؤال عن وقت القيامة الكبرى فإنها لا يعلمها إلا الله، واسألوا عن الوقت الذي يقع فيه انقراض عصركم فهو أولى لكم لأن معرفتكم تبعثكم على ملازمة العمل الصالح قبل فوته لأن أحدكم لا يدري من الذي يسبق الآخر...

وفي السؤال عن زمن وقوعها بحرف الإرساء الدال على استقرار ما شأنه الحركة والجريان أو الميدان والاضطراب نكتة دقيقة هي في أعلى درج البلاغة. وهو أن قيام الساعة عبارة عن انتهاء أمر هذا العالم وانقضاء عمر هذه الأرض التي تدور بمن فيها من العوالم المتحركة المضطربة، فعبر بإرسائها عن منتهى أمرها ووقوف سيرها، والساعة زمن وهو أمر مقدر، لا جسم سائر أو مسير، وما يقع فيها ويعبر بها عنه فهو حركة اضطراب وزلزال، لا رسوّ ولا إرساء، وهو أمر مستقبل لا حاصل، ومتوقع لا واقع، وقوله تعالى: {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع} [الطور: 6] معناه أنه سيقع حتما، ولذلك علق به بيان ما يقع فيه بقوله: {يوم تمور السماء مورا * وتسير الجبال سيرا * ويل يومئذ للمكذبين} [الطور: 8-10] فلم يبق لإرسائها معنى إلا إرساء حركة هذا العالم فيها. وأنه لتعبير بليغ، لم يعهد له في كلام البلغاء نظير، ولم أر أحدا نبه لهذا. وذكر الساعة أولا والاستفهام عن زمن وقوعها ثانيا على قاعدة تقديم الأهم وهو المقصود بالذات...

{قل إنما علمها عند ربي} قل أيها النذير إن علم الساعة عند ربي وحده ليس عندي ولا عند غيري من الخلق من شيء منه- وهذا ما يدل عليه لفظ "إنما "من الحصر... {قل إنما علمها عند ربي} وفيه إيذان بأن ما هو من شأن الرب، لا يكون للعبد، فهو تعالى قد رباه ليكون منذرا ومبشرا، لا للإخبار عن الغيوب بأعيانها وأوقاتها، والإنذار إنما يناط بالإعلام بالساعة وأهوالها، والنار وسلاسلها وأغلالها، ولا تتم الفائدة منه إلا بإبهام وقتها، ليخشى أهل كل زمن إتيانها فيه. والإعلام بوقت إتيانها وتحديد تاريخها ينافي هذه الفائدة بل فيه مفاسد أخرى، فلو قال الرسول للناس أن الساعة تأتي بعد ألفي سنة من يومنا هذا، مثلا- وألفا سنة في تاريخ العالم وآلاف السنين تعد أجلا قريبا- لرأى المكذبين يستهزئون بهذا الخبر ويلحون في تكذيبه، والمرتابين يزدادون ارتيابا، حتى إذا ما قرب الأجل وقع المؤمنون في رعب عظيم ينغص عليهم حياتهم، ويوقع الشلل في أعضائهم، والتشنج في أعصابهم، حتى لا يستطيعون عملا، ولا يسيغون طعاما ولا شرابا، ومنهم من يخرج من ماله وما يملكه، من حيث يكون الكافرون آمنين، يسخرون من المؤمنين، وقد وقع في أوروبة أن أخبر بعض رجال الكنيسة الذين كان يقلدهم الجمهور بأن القيامة تقوم في سنة كذا فهلعت القلوب واختلت الأعمال، وأهمل أمر العيال، ووقف المصدقون ما يملكون على الكنائس والأديار، ولم تهدأ النفس ويثوب إليها رشدها إلا بعد ظهور كذب النبأ بمجيء أجله دون وقوعه، فالحكمة البالغة إذا في إبهام أمر الساعة العامة للعالم، وكذا الساعة الخاصة بأفراد الناس، أو بالأمم والأجيال، وجعلها من الغيب الذي استأثر الله تعالى به، على ما سنذكر في إيضاحه، فلذلك قال بعد حصر أمرها في علمه...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

"قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" فلذلك حرصوا على ما لا ينبغي الحرص عليه، وخصوصا مثل حال هؤلاء الذين يتركون السؤال عن الأهم، ويدعون ما يجب عليهم من العلم، ثم يذهبون إلى ما لا سبيل لأحد أن يدركه، ولا هم مطالبون بعلمه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هؤلاء الغافلون عما حولهم، العميُ عما يحيط بهم.. يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة البعيدة المغيبة في المجهول. كالذي لا يرى ما تحت قدميه ويريد أن يرى ما في الأفق البعيد!

(يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ قل: إنما علمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلا هو، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلا بغتة. يسألونك كأنك حفي عنها! قل: إنما علمها عند الله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. قل: لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون)..

لقد كانت عقيدة الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء، تفاجئ المشركين في الجزيرة مفاجأة كاملة.. ومع أن هذه العقيدة أصيلة في دين إبراهيم -عليه السلام- وهو جد هؤلاء المشركين؛ وفي دين إسماعيل أبيهم الكريم؛ إلا أنه كان قد طال عليهم الأمد، وبعد ما بينهم وبين أصول الإسلام الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل. حتى لقد اندثرت عقيدة الآخرة تماماً من تصوراتهم؛ فكانت أغرب شيء عليهم وأبعده عن تصورهم. حتى لقد كانوا يعجبون ويعجبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يحدثهم عن الحياة بعد الموت؛ وعن البعث والنشور والحساب والجزاء؛ كما حكى عنهم القرآن الكريم في السورة الأخرى: وقال الذين كفروا: هل ندلكم على رجل ينبئكم، إذا مزقتم كل ممزق، إنكم لفي خلق جديد؟ أفترى على الله كذباً؟ أم به جنة؟ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد.. [سبأ: 7 -8].

ولقد علم الله أن أمة من الأمم لا تملك أن تقود البشرية وتشهد عليها- كما هي وظيفة الأمة المسلمة -إلا أن تكون عقيدة الآخرة واضحة لها راسخة في ضميرها.. فتصور الحياة على أنها هذه الفترة المحدودة بحدود هذه الحياة الدنيا، وحدود هذه الأرض الصغيرة، لا يمكن أن ينشئ أمة هذه صفتها وهذه وظيفتها!

إن العقيدة في الآخرة فسحة في التصور، وسعة في النفس، وامتداد في الحياة ضروري في تكوين النفس البشرية ذاتها، لتصلح أن تناط بها تلك الوظيفة الكبيرة.. كذلك هي ضرورية لضبط النفس عن شهواتها الصغيرة ومطامعها المحدودة؛ ولفسحة مجال الحركة حتى لا تيئسها النتائج القريبة ولا تقعدها التضحيات الأليمة، عن المضي في التبشير بالخير، وفعل الخير والقيادة إلى الخير، على الرغم من النتائج القريبة، والتضحيات الأليمة.. وهي صفات ومشاعر ضرورية كذلك للنهوض بتلك الوظيفة الكبيرة..

والاعتقاد في الآخرة مفرق طريق بين فسحة الرؤية والتصور في نفس "الإنسان"، وضيق الرؤية واحتباسها في حدود الحس في إدراك "الحيوان "! وما يصلح إدراك الحيوان لقيادة البشرية، والقيام بأمانة الله في الخلافة الراشدة!

لذلك كله كان التوكيد شديداً على عقيدة الآخرة في دين الله كله.. ثم بلغت صورة الآخرة في هذا الدين الأخير غايتها من السعة والعمق والوضوح.. حتى بات عالم الآخرة في حس الأمة المسلمة أثبت وأوضح وأعمق من عالم الدنيا الذي يعيشونه فعلاً.. وبهذا صلحت هذه الأمة لقيادة البشرية، تلك القيادة الراشدة التي وعاها التاريخ الإنساني!

ونحن في هذا الموضع من سياق سورة الأعراف أمام صورة من صور الاستغراب والاستنكار الذي يواجه به المشركون عقيدة الآخرة، تبدو في سؤالهم عن الساعة سؤال الساخر المستنكر المستهتر:

(يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟)

إن الساعة غيب، من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه.. ولكن المشركين يسألون الرسول عنها.. إما سؤال المختبر الممتحن! وإما سؤال المتعجب المستغرب! وإما سؤال المستهين المستهتر! (أيان مرساها؟) أي متى موعدها الذي إليه تستقر وترسو؟!

والرسول صلى الله عليه وسلم بشر لا يدعي علم الغيب، مأمور أن يكل الغيب إلى صاحبه، وأن يعلمهم أنها من خصائص الألوهية، وأنه هو بشر لا يدعي شيئاً خارج بشريته ولا يتعدى حدودها، إنما يعلمه ربه ويوحي إليه ما يشاء:

(قل: إنما علمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلا هو).

فهو- سبحانه -مختص بعلمها، وهو لا يكشف عنها إلا في حينها، ولا يكشف غيره عنها.

ثم يلفتهم عن السؤال هكذا عن موعدها، إلى الاهتمام بطبيعتها وحقيقتها، وإلى الشعور بهولها وضخامتها... ألا وإن أمرها لعظيم، ألا وإن عبئها لثقيل. ألا وإنها لتثقل في السماوات والأرضين. وهي- بعد ذلك -لا تأتي إلا بغتة والغافلون عنها غافلون:

(ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلا بغتة)..

فأولى أن ينصرف الاهتمام للتهيؤ لها والاستعداد قبل أن تأتي بغتة؛ فلا ينفع معها الحذر، ولا تجدي عندها الحيطة، ما لم يأخذوا حذرهم قبلها، وما لم يستعدوا لها، وفي الوقت متسع وفي العمر بقية. وما يدري أحد متى تجيء، فأولى أن يبادر اللحظة ويسارع، وألا يضيع بعد ساعة، قد تفجؤه بعدها الساعة!

ثم يعجب من أمر هؤلاء الذين يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة.. إنهم لا يدركون طبيعة الرسالة وحقيقة الرسول؛ ولا يعرفون حقيقة الألوهية، وأدب الرسول في جانب ربه العظيم.

(يسألونك كأنك حفي عنها!)

أي كأنك دائم السؤال عنها! مكلف أن تكشف عن موعدها! ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل ربه علم ما يعلم هو أنه مختص بعلمه:

(قل: إنما علمها عند الله)..

قد اختص سبحانه به؛ ولم يطلع عليه أحداً من خلقه.

(ولكن أكثر الناس لا يعلمون)..

وليس الأمر أمر الساعة وحده. إنما هو أمر الغيب كله فلله وحده علم هذا الغيب. لا يطلع على شيء منه إلا من شاء، بالقدر الذي يشاء، في الوقت الذي يشاء.. لذلك لا يملك العباد لأنفسهم نفعاً ولا ضراً.. فقد يفعلون الأمر يريدون به جلب الخير لأنفسهم، ولكن عاقبته تكون هي الضر لهم. وقد يفعلون الأمر يريدون به رفع الضر عنهم، ولكن عاقبته المغيبة تجره عليهم! وقد يفعلون الأمر يكرهونه فإذا عاقبته هي الخير؛ ويفعلون الأمر يحبونه فإذا عاقبته هي الضر: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم)..

إنما يمثل موقف البشرية أمام الغيب المجهول. ومهما يعلم الإنسان ومهما يتعلم، فإن موقفه أمام باب الغيب الموصد، وأمام ستر الغيب المسدل، سيظل يذكره ببشريته المحجوبة أمام عالم الغيب المحجوب.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وقد عرف من شنشنة المشركين إنكارهم، البعثَ وتهكمهم بالرسول عليه الصلاة والسلام من أجل إخباره عن البعث {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزقتم كل مُمزقٍ إنكم لفي خلقٍ جديدٍ أفترى على الله كذباً أم به جنةٌ} [سبأ: 7، 8]، وقد جعلوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة ووقتها تعجيزاً له، لتوهمهم أنه لما أخبرهم بأمرها فهو يدعي العلم بوقتها {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يومٍ لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون} [سبأ: 29، 30].

فالسائلون هم المشركون، وروي ذلك عن قتادة، والضمير يعود إلى الذين كذبوا بآياتنا، وقد حكي عنهم مثل هذا السؤال في مواضع من القرآن، كقوله تعالى في سورة النازعات (42) {يسألونك عن الساعة أيّانَ مرساها} وقوله {عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون} [النبأ: 1 3] يعني البعثَ والساعة، ومن المفسرين من قال: المعني بالسائلين اليهود أرادوا امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الساعة، وهذا لا يكون سبب نزول الآية، لأن هذه السورة مكية، قيل كلها، وقيل إن آيتين منها نزلتا بالمدينة، ولم يعُدوا هذه الآية، فيما اختُلف في مكان نزوله والسور التي حكي فيها مثل هذا السؤال مكية أيضاً نازلة قبل هذه السورة.

والساعة معرّفةً باللام علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء هذا العالم الدنيوي والدخول في العالم الأخروي، وتسمى: يومَ البعث، ويومَ القيامة.

و {أيّان} اسم يدل على السؤال عن الزمان وهو جامد غير متصرف مركب من (أي) الاستفهامية و (آنَ) وهو الوقت، ثم خففت (أي) وقلبت همزة (آن) ياء ليتأتى الإدغام، فصارت (أيّان) بمعنى أي زمان، ويتعين الزمان المسؤول عنه بما بعد (أيان)، ولذلك يتعين أن يكون اسمَ معنى لا اسمَ ذات، إذ لا يخبر بالزمان عن الذات، وأما استعمالها اسم شرط لعموم الأزمنة فذلك بالنقل من الاستفهام إلى الشرط كما نقلت (متى) من الاستفهام إلى الشرطية، وهي توسيعات في اللغة تَصيرُ معاني متجددة، وقد ذكروا في اشتقاق (أيان) احتمالات يرجعون بها إلى معاني أفعال، وكلها غير مرضية، وما ارتأيناه هنا أحسن منها.

فقوله: {أيان} خبر مقدم لصدارة الاستفهام، و {مرساها} مبتدأ مؤخر، وهو في الأصل مضاف إليه آن إذ الأصل أي (آن) آن مُرسى الساعة.

وجملة: {أيان مُرساها} في موضع نصب بقول محذوف دل عليه فعل {يسألونك} والتقدير: يقولون أيان مرساها، وهو حكاية لقولهم بالمعنى، ولذلك كانت الجملة في معنى البدل عن جملة: {يسألونك عن الساعة}.

والمُرْسَى مصدر ميمي من الإرساء وهو الإقرار يقال رَسَا الجبل ثُبت، وأرساه أثبته وأقره، والإرساء الاستقرار بعد السير كما قال الأخطل:

وقال رَائدُهم أرْسُوا نزاوِلُها

ومرسى السفينة استقرارها بعد المخر قال تعالى: {بسم الله مجراها ومرساها} [هود: 41]، وقد أطلق الإرساء هنا استعارة للوقوع تشبيهاً لوقوع الأمر الذي كان مترقباً أو متردد فيه بوصول السائر في البر أو البحر إلى المكان الذي يريده.

وقد أمر الله رسوله بجوابهم جواب جد وإغضاء عن سوء قصدهم بالسؤال التهكْم، إظهاراً لنفي الوصمة عن وصف النبوءة من جراء عدم العلم بوقت الشاعة، وتعليماً للذين يترقبون أن يحصل من جواب الرسول عن سؤال المشركين علْم للجميع بتعيين وقت الساعة فإذا أمْر الساعة مما تتوجه النفوس إلى تطلبه.

فقد ورد في الصحيح أن رجلاً من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « يا رسول الله متى الساعة؟ فقال رسول الله ماذا أعْدَدْتَ لها؟ فقال ما أعددتُ لها كبيرَ عَمل إلاّ أني أحب الله ورسوله فقال أنتَ مع مَن أحببت».

وعلْمُ الساعة هو علم تحديد وقتها كما يُنبئ عنه السؤال، وقوله: {لا يُجليها لوقتها إلاّ هو}، فإضافة علم إلى ضمير الساعة على تقدير مضاف بينهما أيْ علْم وقتها، والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله، وظرفية (عند) مجازية استعملت في تحقيق تعلق علم الله بوقتها.

والحصر حقيقي: لأنه الأصل، ولما دل عليه توكيده بعَد في قوله: {قل إنما علمها عند الله}، والقصر الحقيقي يشتمل على معنى الإضافي وزيادة، لأن علم الساعة بالتحديد مقصور على الله تعالى.

والتعريف بوصف الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم إيماءٌ إلى الاستدلال على استئثار الله تعالى بعلم وقت الساعة دون الرسول المسؤول ففيه إيماء إلى خطأهم وإلى شبهة خطأهم.

و (التجلية) الكشف، والمراد بها ما يشمل الكشف بالإخبار والتعيين، والكشفَ بالإيقاع، وكلاهما منفيُ الإسناد عن غير الله تعالى، فهو الذي يعلم وقْتها، وهو الذي يُظهرها إذا أراد، فإذا أظهرها فقد أجلاها.

واللام في قوله: {لوقتها} للتوقيت كالتي في قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78].

ومعنى التوقيت، قريب من معنى (عندَ)، والتحقيقُ: أن معناه ناشئ عن معنى لام الاختصاص.

ومعنى اللام يناسب أحد معنيي الإجلاء، وهو الإظهار، لأنه الذي إذا حصل تَم كشف أمرها، وتحقق الناسُ أن القادر على إجلائها كان عالماً بوقت حلولها.

وفصلت جملة: {لا يجليها لوقتها إلاّ هو} لأنها تتنزل من التي قبلها منزلة التأكيد والتقرير.

وقدم المجرور وهو {لوقتها} على فاعل {يجليها} الواقع استثناء مفرغاً للاهتمام به تنبيهاً على أن تجلية أمرها تكون عند وقت حلولها لأنها تأتي بغتة.

وجملة: {ثقلت في السماوات والأرض} معترضة لقصد الإفادة بهولها، والإيماء إلى حكمة إخفائها.

وفعل {ثقلت} يجوز أن يكون لمجرد الإخبار بشدة، أمرها كقوله: {ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً}.

ويجوز أن يكون تعجيباً بصيغة فعُل بضم العين فتقدر الضمة ضمة تحويل الفعل للتعجيب، وإن كانت هي ضمة أصلية في الفعل، فيكون من قبيل قوله: {كُبرت كلمة تخرُج من أفواههم} [الكهف: 5].

والثقل مستعار للمشقة كما يستعار العظم والكِبَر، لأن شدة وقع الشيء في النفوس ومشقته عليها تخيّل لمن خلت به أنه حامل شيئاً ثقيلاً، ومنه قوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5] أي شديداً تلقيه وهو القرآن، ووصف الساعة بالثقل باعتبار ما هو مظروف في وقتها من الحوادث، فوصفها بذلك مجاز عقلي، والقرينة واضحة، وهي كون الثقل بمعنى الشدة لا يكون وصفاً للزمان، ولكنه وصف للأحداث، فإذا أسند إلى الزمان، فإسناده إليه إنما هو باعتباره ظرفاً للأحداث، كقوله: {وقالَ هذا يومٌ عَصيبٌ} [هود: 77].

وثقل الساعة أي شدتها هو عظم ما يحدث فيها من الحوادث المهولة في السماوات والأرض، من تصادم الكواكب، وانخرَام سيرها، ومن زلازل الأرض وفيضان البراكين، والبحار، وجفاف المياه، ونحو ذلك مما ينشأ عن اختلال النظام الذي مكان عليه سير العالم، وذلك كله يحدث شدة عظيمة على كل ذي إدراك من الموجودات.

ومن بديع الإيجاز تعدية فعل {ثَقُلَت} بحرف الظرفية الدال على مكان حلول الفعل، وحذفُ ما حقه أن يتعدى إليه وهو حرف (إلى) الذي يدل على ما يقع عليه الفعل، ليعم كل ما تحويه السماوات والأرض مما يقع عملية عملية الثقل بمعنى الشدة.

وجملة: {لا تأتيكم إلاّ بغتة} مستأنفة جاءت تكملة للإخبار عن وقت حلول الساعة، لأن الإتيان بغتة يحقق مضمون الإخبار عن وقتها بأنه غير معلوم إلاّ لله، وبأن الله غيرُ مُظهره لأحد، فدل قوله: {لا تأتيكم إلاّ بغتة} على أن انتفاء إظهار وقتها انتفاءٌ متوغل في نوعه بحيث لا يحصل العلم لأحد بحلولها بالكنه ولا بالإجمال، وأما ما ذكر لها من أمارات في حديث سُؤال جبريل عن أماراتها فلا ينافي إتيانها بغتة، لأن تلك الأمارات ممتدةُ الأزمان بحيث لا يحصل معها تهيؤ للعلم بحلولها.

و« البغتة» مصدر على زنة المرّة من البغْت وهو المفاجأة أي الحصول بدون تهيؤ له، وقد مضى القول فيها عند قوله تعالى: {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتةً} في سورة الأنعام (31).

وجملة: {يسألونك كأنك حفي عنها} مؤكدة لجملة: {يسألونك عن الساعة} ومبينة لكيفية سؤالهم فلذيْنك فُصلت.

وحذف متعلق السؤال لعلمه من الجملة الأولى.

و {حَفي} فعيل فيجوز أن يكون بمعنى فاعل مشتقاً من حَفي به، مثل غَنيِ فهو غَني إذا أكثر السؤال عن حاله تلطفاً، ويكون المعنى كأنك أكثرتَ السؤال عن وقتها حتى علمته، فيكون وصف حَفي كناية عن العالم بالشيء، لأن كثرة السؤال تقتضي حصول العلم بالمسؤول عنه، وبهذا المعنى فسر في « الكشاف» فهو من الكناية بالسؤال عن طلب العلم، لأن السؤال سبب العلم...

... وقوله: {كأنك حفي} حال من ضمير المخاطب في قوله: {يسألونك} معترضة بين {يسألونك} ومتعلقه.

ويتعلق قوله: {عنها} على الوجهين بكل من {يسألونك} و {حفيّ} على نحو من التنازع في التعليق.

ويجوز أن يكون {حفيّ} مشتقاً من حَفي به، كرضي بمعنى بَالغ في الإكرام، فيكون مستعملاً في صريح معناه، والتقدير: كأنك حفي بهم أي مكرم لهم وملاطف فيكون تهكماً بالمشركين، أي يظهرون لك أنك كذلك ليستنزلوك للخوض معهم في تعيين وقت الساعة، روي عن ابن عباس: كأنك صديق لهم، وقال قتادة: قالت قريش لمحمد: إن بيننا قرابة فأسِرَّ إليْنا متى الساعة فقال الله تعالى: {يسألونك كأنك حَفي عنها} وعلى هذا الوجه يتعلق {عنها} ب {يسألونك} وحذف متعلق {حفي} لظهوره.

وبهذا تعلم أن تأخير {عنها} للإيفاء بهذه الاعتبارات.

وفي الآية إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتعلق همته بتعيين وقت الساعة، إذ لا فائدة له في ذلك، ولأنه لو اهتم بذلك لكان في اهتمامه تطلباً لإبطال الحكمة في إخفائها، وفي هذا إشارة إلى أن انتفاء علمه بوقتها لا ينافي كرامته على الله تعالى بأن الله أعطاه كمالاً نفسياً يصرفه عن تطلب ذلك، ولو تطلبه لأعْلمه الله به، كما صرف موسى عليه السلام عن الاستمرار على كراهة الموت حين حل أجله كيلا ينزع روحه وهو كاره، وهذه سرائر عالية بين الله وبين الصالحين من عباده.

وأكدت جملة الجواب الأولى بقوله: {قل إنما علمها عند الله} تأكيداً لمعناها ليعلم أن ذلك الجواب لا يرجى غيره وأن الحصر المشتمل عليه قوله: {إنما علمها عند ربي} حصر حقيقي ثم عطف على جملة الجواب استدراك عن الحصر في قوله: {قل إنما علمها عند الله} تأكيداً لكونه حصراً حقيقياً، وإبطالاً لظن الذين يحسبون أن شأن الرسل أن يكونوا عالمين بكل مجهول، ومن ذلك وقت الساعة بالنسبة إلى أوقاتهم يستطيعون إعلام الناس فيستدلون بعدم علم الساعة على عدم صدق مدعي الرسالة، وهذا الاعتقاد ضلالة ملازمة للعقول الأفنة، فإنها تتوهم الحقائق على غيْر ما هي عليه، وتوقن بما يخيل إليها، وتجعله أصولاً تبني عليها معارفها ومعاملاتها، وتجعلها حَكماً في الأمور إثباتاً ونفياً، وهذا فرط ضلالة..